“الحاجة الى إعادة النظر في منظومة جمهورية عراقية لما بعد 2003”

الكاتب: لقمان عبد الرحيم الفيلي
بناء الأمم وجمهوريتنا:

هذه السلسة من المقالات معنية بدراسة طبيعة نظامنا السياسي الحالي، وجمهورية ما بعد 2003 ، ومدى قدرتها على تلبية احتياجات وتطلعات المجتمع العراقي المختلفة وكيف ان ضعف قدرات المنظومة الحالية على هذه التلبية تقود العراق بالسير نحو تصنيفات الدول الضعيفة والاثار المجتمعية والأمنية والسياسية التي ستترتب على ذلك. هذه المقالات سوف تركز على الحاجة الى إعادة النظر في منظومة جمهوريتنا الحالية.

محاور المقالات تتكون من عدة ابواب، أولها مراجعة عن ماهية الجمهوريات السابقة والحالية، وثانياً في تشخيص الخلل في طبيعة العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، وإمكانية إدارة التغيير، وثالثاً لماذا هناك حاجة الى منظومة جهورية جديدة عوضاً عن النظام السياسي الحالي، وما هي أسباب عدم فعالية الدستور الحالي الجامد والحاجة الى دستور مرن، وعلى من تقع مسؤولية الوضع الحالي، ورابعاً ما هي اهم مستلزمات النظام الجديد المرجو، والفرق بين النظام البرلماني والرئاسي، وخامساً واخيراً ما هي محصلات المقالات الخمس وخاتمتها.

تمر الكثير من الدول بأزمات سياسية أو امنية او اقتصادية أو اجتماعية او غيرها من الازمات التي تنعكس على واقع الحياة في يوميات مجتمعاتها. وفي حال لم تعالج تلك الازمات بشكل موضوعي ومدروس، فستكون لها تداعيات مباشرة وسلبية على طبيعة العلاقة بين الحكومات وشعوبها، واحياناً بين مكونات الشعوب نفسها. ان البحث عن المعالجات للتحديات التي تواجهها الدول يتطلب من الحكومات والمجتمعات التمعن وإدراك المسببات الحقيقية للازمة، والاعتراف بحقيقة المسببات حتى وان كانت قد حدثت نتيجة تراكم زمني لسوء الادارة اوالتخطيط او الابتعاد عن الحكم الرشيد (والتي هي في الاعم الاغلب الأسباب الحقيقية لأكثر الازمات) او حتى مسببات عدم انسجام نظام الحكم مع طبيعة المجتمع ومتطلباته وتطلعاته. وبالنسبة للواقع العراقي أحد هذه التحديات معنية بطبيعة المنظومة السياسية والإدارية لجمهورية العراق، أي طريقة اتخاذ الدولة (بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية) لقراراتها ومدى فعاليتها وقدرتها على تنفيذها وادامتها وتطويرها.

يتطرق هذه المقالات الى جمهورية العراق ومراحلها الزمنية المختلفة ومدى استقرارها السياسي وقدرتها على تلبيتها لمتطلبات مجتمعها. وسيكون التركيز على جمهورية ما بعد 2003 ، وان كانت تلبي احتياجات المواطن الأساسية، وان كان هناك حاجة ضرورية وآنية لمراجعة حيوية وقدرة هذه الجمهورية لمعالجة تحديات وتطلعات المواطن او البحث عن بديل عنها. اعتقد ان مثل هذا الطرح (السياسي أكثر من ان نسميه باكاديمي) هو جديد على ساحتنا العراقية وهناك ضرورة لمراجعة الجمهورية الحالية والحاجة الى الجرأة والشجاعة في البحث عن البديل والحوار فيها وخلق جو عام جديد (خارج الصندوق) بعيداً عن التسقيط والقاء اللوم والنظر الى الماضي فقط. وقد نحتاج الى أبحاث ومقالات أخرى لتكملة الحوار حول أفضل الحلول الملائمة لتحديات العراق.

وسأحاول في هذه المقالات في البحث النظر الى طبيعة ديمقراطيتنا الجديدة المعتمدة على دور الناخب والأحزاب المشاركة في الحكم وأيديولوجياتها المختلفة (والمتناقضة في الكثير من حالاتها) وكيفية تعاملها السلبي مع جهاز الدولة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية المختلفة، ولعل ظاهرة كونهم أحزابا حاكمة ومعارضة (في الممارسة والثقافة) في آن واحد ليس بغريب على مسامع المواطن العراقي.

مرت الدولة العراقية منذ 2003 والى الان بمراحل وتحديات مختلفة توجتها بالانتصار على تنظيم داعش الارهابي وتحرير كل العراق، مع اعتقادنا بوجود عوامل داخلية وخارجية ساعدت على نشوء وتمدد داعش داخل العراق (هناك دراسات وابحاث كثيرة حول أسباب نشوء داعش)، ومن ثم اتحادالعراقيين ضده والعمل على تقليص تمدده وتحرير المدن من سيطرته، الا ان ثمن النصر بالأرواح والممتلكات لم يكن قليلا، ومع كل هذه الانتصارات العسكرية، الا اننا نرى تراجعاً مستمراً لتعافي الدولة العراقية على مستوى الخدمات ويوميات المواطن في تعامله مع أجهزة الدولة. مع الحاجة الضرورية لمراجعة أسباب هذه الإخفاقات للدولة الا اننا نحتاج ايضاً ان نفكر بمستقبل المجتمع والسعي للنهوض بمشروع احياء وطني وخصوصاً مع وجود قناعة ان النظام الحالي لا يستطيع او يقدر ان يقوم بهذا المشروع النهضوي الضروري وهنا يأتي أهمية البحث عن اصلاح النظام الحالي.

جمهوريات العراق:

تُعرّف الجمهوريات، كمفهوم سياسي، بأنها منظومة محددة في ادارة دولة ضمن هيكلية وآلية عمل معينة والتي تُعتبر فيها الدولة شأنا عاما وليس ملكا خاصا للحاكم، كالنظام الملكي، ويكون المسؤولون فيه معينين او منتخبين وليسوا وارثين للحكم “١”. وعادةً يُسمى الشخص الذي على رأس الدولة برئيس الجمهورية وقد يكون موقعه تنفيذيا قويا او على العكس تشريفيا وضعيفا. طبعا مفردة الجمهورية بحد ذاتها لا تعكس اَي شيء بخصوص طبيعة الحكم (عدى كونها غير ملكية وغير وراثية) ومدى ديمقراطيته او ليبراليته او اَي شيء معني بفلسفة الدولة ومدرستها الخاصة. نعم الجمهوريات في كونها منظومات مفروضا منها ووجدت لكي تعطي المواطن حرية الاختيار وليس الفرض. وإذا كان رئيس الجمهورية هو ذاته رئيس الحكومة يسمى هذا النظام بالنظام الرئاسي، وفي الأنظمة شبه الرئاسية يكون رئيس الدولة تشريفيا ويطلق في الاعم الأغلب على رئيس الحكومة التنفيذية اسم رئيس الوزراء، وهو ما عندنا في العراق منذ2003.

وإذا نظرنا للتاريخ السياسي للدول فلعل الجمهوريات الفرنسية الخمسة هي أفضل مثال على مراحل تطور او نمو او تحول الدولة من خلال تغيير نظمها الجمهورية. هذه الجمهوريات أُنشئت الاولى منها بعد الثورة الفرنسية (1789الى 1799) وأنهت الحكم الملكي في فرنسا والتي كانت البداية لتغيير منظومات الحكم جوهرياً في أوروبا “٢”. الجمهورية الاولى بدأت من 1792 الى 1804 ، والثانية من 1848م الى 1852 ، والثالثة من 1870 الى 1940 والرابعة من 1946 الى 1958 والآن نحن نواكب منذ 1958 الجمهورية الخامسة – الديغولية “3”.

وبخصوص العراق، فمنذ نشوء دولته الجديدة بعد الحرب العالمية الاولى،طُبق نوعان من الحكم، الاول ملكي من 1921 الى 1958 وحكمه ثلاثة ملوك من عائلة واحـــــــــــدة، والثاني جمهوري منذُ 1985 وحكمـــــــــــــــــه ٩ اشخاص (1985،1963،1966،1968،1979،2003،2005،2006،2014) جميعهم رجال وهم بين عسكري ومدني، سني وشيعي، علماني واسلامي. خلال الفترة الجمهورية مرت الدولة بمجموعة من الجمهوريات حسب التصنيفات السياسية المختلفة. التصنيف الاول للجمهوريات يعتمد على الفترات 1985 الى 1968 ، و1968 الى 2003 ، و2003 الى الوقت الحالي. هذا التصنيف يعكس ثلاث جمهوريات للعراق فقط ويعتمد في تصنيفه على طبيعة نظام وحكم معين متعلقة بقبل وبعد حقبة البعث (احمد حسن بكر وصدام حسين) وحكمهم لخمسة وثلاثين سنة “4”.

هناك تصنيف اخر متعلق بطبيعة رجالات الحكم لإدارة الدولة وهيكلياتها القيادية المختلفة وهذا التصنيف يعكس فترات مختلفة اخرى وهي من 1958 الى 1963 ، و1963 الى 1968 ، و1968م الى 1979م، و1979م الى 2003م واخيراً 2003م الى الوقت الحالي، أي انها تعكس خمس جمهوريات ذات نظام سياسي وهيكلية إدارية مختلفة عن التصنيف الاول.

وهناك تصنيف ثالث لجمهوريات العراق متعلقة أكثر بالمتغيرات السياسية الملازمة للانقلابات المختلفة والتي تنطلق من حكم العسكر (باستثناء مرحلة إدارة المدني القصيرة لعبد الرحمن البزاز 1965 الى 1966) وملازمة لطبيعة النظام الدكتاتوري لها، ومن جهة أخرى لدينا ايضاً حكم الدولة المدنية وملازمة النظام الديمقراطي لها وهذا التصنيف يعكس وجود جمهوريتين فقط للعراق، الاولى من 1958 الى 2003 والثانية من 2003 الى الوقت الحالي.

ليس مهما أي التصنيفات او ترقيم نعتمد او نثبت صحتها من عدمه في علوم السياسة، ولكن المهم هي العبرة منها والتعلم من دروسها والتخطيط المستقبلي لطبيعة الجمهورية المناسبة لنا والتي من المفروض ان تعكس تطلعات المجتمع وتصون كرامتهم وسلامتهم وتحفظ هويتهم وتحقق امانيهم وتحدد الطريقة الأفضل لإدارة مسيرتهم الجماعية للشعب ضمن إطار جمهوريتها بعيداً عن العنف والقهر واللااستقرار. من المفيد ان نبين ان هناك اتفاقا بين التصنيفات الثلاثة اعلاه باعتبار النظام السياسي بعد 2003 كجمهورية جديدة.

من جانب اخر،من الضروري ان نعرف ان علم العراق منذ الجمهورية الاولى الى الوقت الحالـــــــي تغير 6 مرات (1958، 1959 ، 1963 ، 1991 ، 2004 ، 2008) والاعلام عموماً تعتبر معلما مهما من معالم وهوية البلد وسيادته ومدى استقرار واستمرار نظام حكمه “5”.

وإذا نظرنا للدستور فأننا سنرى نمطا مشابها لتطورات الاشكال المختلفة للعلم العراقي، فالدستور الاول تبنى عام ١٩٢٥ ، ثم تبدل بدساتير عام 1958 ، و1963 ، و1964 ، و1968 ، و1970 واخيراً دستور عام 2005 والذي تم التصويت عليه باستفتاء شعبي. طبعا هذه الدساتير لم تكن دائمية بل اغلبها كانت تسمى بـ”الدستور المؤقت” “6”.

من جانب اخر اذا نظرنا الى طبيعة انتهاء الحكام من حكمهم خلال كل الملكيات (اثنان من ثلاثة ملوك) والجمهوريات العراقية (كلهم باستثناء اثنين) نرى بوضوح غلبة العنف والقوة كآلية لإنهاء الحكم من خلال الانقلابات العسكرية او القتل. حتى في الجمهورية الأخيرة، أي ما بعد 2003 ، لم يتم الانتقال السلمي للسلطة فيها بطريقة طبيعية انسيابية الا قليلاً جداً، اذ واكبت العواصف السياسية الهدامة مع كل تغيير سلمي للسلطة “7”.

لعل سائل يسأل هل ان تعدد الجمهوريات والاعلام والدساتير والتحولات الدراماتيكية للحكومات الدكتاتورية والديموقراطية(اذ حكومات ما بعد 2003 تغيرت ولكن يبقى تداعياتها الى اليوم) وقرب الفترة الزمنية بينها يعكس خللاً سياسياً بين طيات المجتمع وحكامه وبالتالي عدم الاستقرار وصعوبة ادامة الحكومات في العراق؟ الجواب، نعم، اذ طول عسكرة المجتمع اثناء الحكومات الجمهورية أخل بطبيعة العلاقة والعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، والشيء نفسه بخصوص تداعيات الدكتاتورية والنظام الشمولي والتمييز العنصري والعرقي والقومي والحزبي والمحاصصة وغيرها من خصال التصقت بثقافة الدولة العراقية المعاصرة والتي تقدم رفاهية وامن الطبقة الحاكمة او شخص الدكتاتور نفسه على عزة وسلامة ورفاهية مواطنيها. هذا الخلل السياسي أدى الى فقدان المصداقية لطبيعة العقد الاجتماعي بينهم وعدم شعور المواطن بحرية الاختيار او صحتها وبالتالي وجود شرخ واضح في الحقوق والواجبات بين المواطن والمسؤول او بين الراعي والرعية(بالمفهوم القديم) وبالنتيجة تعاطي المواطن مع الدولة على ان الدولة ملك للحكام وليس العكس وبالتالي ترسخ لدينا نوع من الخصام بين الدولة والمواطن.

Regards,

Lukman
Sent from Lukman Faily’s iPhone

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here