السياسة وأسطورة «المبادئ الرفيعة»!

رشيد الخيّون

ظهرت في غمرة الاستعداد للانتخابات العراقية (15/5/2018)، شبكة من الأحلاف خارج عقائد الأحزاب، كحلف اليسار العلماني مع اليمين الديني، على افتراض أن المبادئ لا تؤثر فيها طوارئ الليل والنهار، مع أن الأحزاب تعمل في واقع سريع التغير، تسقط فيه الثوابت، والكل يبحث عن التأثير في الجمهور، بينما الحس الديني والعشائري مهيمنان في النفوس، تحت سطوة تحالف الأحزاب الدينية بمسلحيها مع العشائر، وفي ظل هذه الأجواء يستحيل الرجاء بأمل منظور.

إنها الفوضى المشرعة والمعمدة بالحبر الأزرق، والتي عبّر عنها كاتب عراقي نابهٌ بمصطلح «الديمقراطية السجينة» (ساطع راجي، صحيفة «المدى»)، ديمقراطية عقيمة لا تلد القادم الأفضل، ومع هذا الإحباط، قد يكون الحقُ مع مَن يطالب بإلغاء الانتخابات ومقاطعتها، كي تبقى القوى المسؤولة عن كوارث الخمسة عشر عاماً (2003-2018) وجهاً لوجه مع النَّاس بلا شرعية، ولا يتحقق تدوير الوجوه القديمة بعناوين مخاتلة، فبث العراقيون على وسائل التواصل الاجتماعي لائحة ساخرةً بأعضاء أبرز التكتلات الانتخابية: فلان الجراح الكبير، والمهندس المعماري الدولي، وخبير البنوك.. وهي رسالة تحذير من أن خبرات وكفاءات هؤلاء، لا شيء سوى المصاهرة والقرابة!

حاول أبرز الأحزاب الإسلامية بعد تعرضه لهزات في الصميم، خلال رئاسته للسلطة التنفيذية أفقدته الألق الذي شاع عنه خلال سني المعارضة، الهروب مِن واقع الحال، كي يبقي على «أسطورة المبادئ الرفيعة»، فأعلن عدم مشاركته في الانتخابات، وسيدعم المخلصين من أعضائه في القوائم التي يختارونها، وهم كارثة على البلاد وفقاً لـ«أسطورة المبادئ الرفيعة»، ومن المجربين في الدورات السابقة. تستر حزب إسلامي آخر وراء أسماء وعناوين مموهة بألفاظ الإصلاح والمدنية والوطنية.

غير أن الحزب الذي يدعي أنه يتمسك بالمبادئ الرفيعة، كان من أكثر الأحزاب انشقاقاً عبر تاريخه، وكل جماعة تنشق عنه تُسقط الأُخرى، والبداية بين العمائم والأفندية، وعاد إلى العمائم، بعد أن أصبحوا آيات الله، لإصدار فتاوى تكفير لكل من ينتخب غير الإسلامي. اضطر الحزب أن يعلن موقفه الصريح من أخذ أحد كوادره في قضية فساد، وما فعله هذا الرجل لبغداد، عندما تولى أمرها، أن يظهر في حفلات «تكليف» الفتيات ذوات السبع سنوات، كي يتم تكوينهن ضمن مسار تدين حزبه، وآخر يجري العمل على تسليمه عبر الإنتروبول، كل هذا والحزب يرفع قولاً في موقعه، مؤكداً على إخلاصه للمبادئ الرفيعة: «كلُّ وعي سياسي لا يمتد إلى الإسلام فهو سطحي، يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تمون البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه»! أما الذين أُعلنت أسماؤهم ويدعمهم الحزب فهم بحسبه المخلصون والأكفاء، المعروفون بالتدين والتُقى!

معلوم أن التناقض بين السياسة والعقيدة، جعل فروع الجماعات الدينية، تميز بين الجماعة الدعوية والحزب، كي يعلقوا مساوئ السياسة عليه، ليحتفظوا بأسطورة المبادئ الرفيعة، لكنها كانت لعبة مفضوحة، فلا عناوين العدالة والتنمية ولا الحرية والمواطنة سترت واقع الحال، حتى غدوا عُراةً أمام الملأ بأكثر من مكان، وتلاحقت الانشقاقات الكبرى التي لا تبقي ولا تذر.

اقتبستُ العنوان من الباحث في علم الاجتماع علي الوردي (ت 1995)، «أسطورة الأدب الرفيع»، وضعه هازئاً ممن اعتقد أن القوة في الألفاظ لا بالأفكار والمواقف، وأن ضمير الأمة بشعر المديح والحماسة والهجاء، عليهم بلغة العبارة لا عمق الفكرة وسلوك الشاعر، وبهذا لم ير الوردي في من رد عليه واتهمه بالجهل سوى أنه واهم بأسطورة الأدب الرفيع، وصور حالة حال طه حسين (ت 1973)، عندما هوجم على كتابه «في الشعر الجاهلي» (1926). تمسك نُقاد الوردي بغلاف اللغة لا بلب الفكرة. لا تنحصر أسطورة «الرِّفعة» في الأدب واللغة، إنما نجدها ناطقةً في أحوال الأحزاب الدينية، أينما كانت، والتي جُربت في السلطة، وهي لم تُثبت أسطورة مبادئها على أرض الواقع، مثلما هي ظاهرةً في ألفاظ شعاراتها.

سيقول البعض، وهل غير الدينية طبقت صريح عقائدها في المساواة والحرية؟! نقول: ارتكبت خطأً عندما جعلت العقيدة، أممية أو قومية، حزباً وسياسة، فاستهلكت العقيدتين في العمل الحزبي والسياسي، لكننا أمام حزب يعتقد بالدين نظرية سياسية، فإذا قيل لهم: «الدين لله»، قالوا: نحن «حاكمية الله». هنا يكمن الفرق بين عثرة الحزب الديني واللاديني، الأولى تدمر ضمائر الناس، ورجاءهم بالله، ذلك إذا علمنا أن الدين ضمير، والثانية تُثبت عدم صحة عقيدة بشرية، تُخطئ وتُصيب بحدود معتنقيها.

يقول صفي الدين الحلي (ت 752هـ): «لَما رأيتُ بَني الزَّمانِ، وما بهم/ خِلٌ وفيٌّ، للشدائدَ أصطفي/ أَيقنتُ أَن المستحيلَ ثلاثةٌ/الغُولُ والعَنقاءُ والخِلُّ الوفي» (الديوان). هذا، وأجدها مناسبةً إذا أكملنا مستحيلات الشَّاعر الثَّلاثة برابعة: «مبادئ سياسية رفيعة»، كالتي تُقدمها الأحزاب الدينية!

الاتحاد الإماراتية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here