أسماء وأتجاهات في السينما الفنلندية

يوسف ابو الفوز
تشير الاحصاءات الرسمية، في نشريات الجهات المهتمة بصناعة السينما في فنلندا، الى انه في فنلندا يتم سنويا انتاج 12 ــ 15 فيلما سينمائيا، وهذا الرقم يعتبر عاليا قياسا لعدد سكان فنلندا الذي يبلغ 5,5 ملايين نسمة، وذلك لان سوق الافلام الفنلندي تغطيه افلام اوربية مستوردة وخصوصا من الولايات المتحدة الامريكية، ولذلك فأن ما ينتج من الافلام الفنلندية ، في غالبيته، لايزال سوقه داخلي، وبسبب من هذه المنافسة فان الفلم الفنلندي يعاني من شدة التنافس وايضا عدم القدرة على التنافس، فاغلب موضوعات الفلم الفنلندي، ولسنوات طويلة كانت محدودة، وظلت تدور في موضوع الحرب الاهلية عام 1918 وحرب الاستمرار (1941 ـ 1944) وموضوعات كوميدية، وافلام تدخل في سياق موجة الافلام الامريكية التجارية ذات الخلطة من مطاردات وعنف وجنس. ولم يتسن للسينما الفنلندية ان تخرج كثيرا للمهرجانات الا في فترة متأخرة وبجهد فردي من اسماء محدودة لمخرجين مخلصين للسينما والثقافة الفنلندية .
ويشير باحثون الى ان ظهور التلفزيون وانتشار اجهزة الفيديو كان له تاثير على سوق السينما المحلية، خصوصا في الخمسينات من القرن الماضي، وأثر بشكل كبير على ارقام الانتاج بل وعلى نوعية الافلام المنتجة التي راح بعضها يساير الموجات الهوليودية السائدة. ان الدعم الحقيقي من قبل الدولة للسينما الفنلندية جاء في بداية 1960، اذ تم تأسيس صندوق السينما الفنلندية بميزانية دعم من الدولة. هذا الصندوق لايقوم بانتاج الافلام بنفسه وانما يقدم الدعم المالي والفني. ساعد ذلك على ظهور حركة ما سمي بالموجة الفنلندية الجديدة، حيث بدات موجة من الافلام الجادة تقترب من العالمية، وبعضها سعى للوصول الى السوق العالمية عبر الاشتراك بالمهرجانات الاوربية. نذكر على سبيل المثال فلم (الارض … الاغنية المحرمة 1973) للمخرج راوني مولبيرغ (1929 ــ 2007) والذي يعتبر من المخرجين المشهورين في فنلندا ، فلمه هذا حصل على اهتمام عالمي وبعد فترة صمت طويلة عاد الى الواجهة من جديد بفلمه الثاني ( الجندي المجهول 1985)، وهذا الفيلم عن قصة للكاتب الفنلندي الشهير فاينو لينا (1920 – 1992) الذي يرويها من وجهة نظر الجنود العاديين، وقد اخرجت للسينما أكثر من مرة على يد اكثر من مخرج. وتتناول هذه الرواية ما يسمى “حرب الاستمرار” بين فنلندا والاتحاد السوفياتي، وكانت استمرت من 25 حزيران 1941 حتى 19 ايلول 1944، وارادت فنلندا، المتحالفة حينها مع النظام الهتلري، استعادت اراضي كان الاتحاد السوفياتي احتلها في هجوم أستباقي. يذكر ان النسخة الاولى من فيلم الجندي المجهول كانت اخرجت عام 1955 بأدارة أدفين لايني (1905–1989)، وعاد أكو لوهيميس (مواليد 1986) عام 2017 لاخراج النسخة الثالثة من الفيلم بمؤثرات حديثة كمحاولة للاقتراب من السوق العالمية، ومن الجدير بالذكر انه ومنذ عام 2000، وسنويا، تبث قنوات التلفزون الفنلندي هذا الفيلم، بنسخه المختلفة، وذلك في يوم استقلال فنلندا، المصادف في 6 / 12 / 1917.
ومنذ بداية الثمانينات في القرن الماضي، توقف عن العمل تماما مخرجون مثل يورن دونير (مواليد 1933)، وهو منتج ومخرج وكاتب وناقد فنلندي، من القومية السويدية ، ورغم انه من عائلة غنية ومعروفة كثيرا في فنلندا، الا ان اعتناقه الافكار اليسارية في فترة شبابه ترك تاثيرا على كتاباته وافلامه. وتميز بغزارته في الانتاج، فله تقريبا اربعين عملا ادبيا منشورا، وحاز دونير عام 1985على جائزة فنلنديا في الادب عن روايته (الاب والابن)، وهي ارفع جائزة رسمية ، ويعتبر اول فنلندي يحوز الاوسكار عام 1982 وذلك لانتاجه الفيلم الدرامي السويدي “فاني وأليكسندر” من اخراج السويدي انغمار بيرغمان (1918 ـ 2007) الذي حصد اربع جوائز اوسكار منها جائزة افضل فيلم بلغة اجنبية اضافة لأفضل تصميم إنتاج ،لأفضل تصميم أزياء ولأفضل تصوير سينمائي. واخرج دونير بنفسه اول افلامه الروائية” الاحد في سبتمبر” عام 1963 وتلا ذلك بحوالي 24 فيلما اخر بعضها يستند الى اعماله الادبية، وثم اشتغل في السياسة واصبح نائبا في البرلمان الفنلندي لثلاث دورات برلمانية، اعتبارا من عام 1987 ثم البرلمان الاوربي (1996 ـ 1999) وعمل في السلك الدبلوماسي (1995 ـ 1996) ، لكنه ترك السياسة عام 2015 وتحول الى الانتاج السينمائي والادبي. وتوقف عن العمل ايضا مخرجون اخرون لاسباب مختلفة، مثل ايركو كيفاكوسكي (1936 ـ 2005) وماونو كوركفارا (1926) ، ومع نهاية الثمانينات مات بعض اشهر مخرجي السينما الفنلندية مثل ريستو يارفا (1943 ـ 1977) ، ميكو نيسكانين (1929 ـ 1990) و هيكي بارتانين (1942 ـ 1990).وكل هذا ترك اثره على ساحة العمل الفني والسينمائي شيئا ما، الا أن الانتاج السينمائي لم يتوقف، اذ شهدت الثمانينات من القرن الماضي وبشكل ساطع ولادة جيل جديد من المخرجين . يتصدرهم الاخوين كاوريسماكي: ميكا كاوريسماكي (مواليد 1955) واكي كاوريسماكي (مواليد 1957)، الذين تميزا بكتابة افلامهما بانفسهما واخراجها بشكل مشترك او على انفراد، وخلقا افلاما متميزة، اذ كان ابطالهما الناس البسطاء من العمال والعاطلين عن العمل، وحافظا في حياتهم العامة على التصاقهم بما يقوله ابطالهم بمواقف حياتية اذ ظلا يترفعان عن حضور المجالس الرسمية لرجالات الدولة والسياسيين، وادانا السياسة الامريكية في الشرق الاوسط وغزو العراق والعولمة الراسمالية والحركات العنصرية، وخرجا بافلامهما الى مهرجانات عالمية، فمشاركتهما في المهرجانات العالمية خرجت بالفلم الفنلندي الى العالم، وهما معروفان ليس في اوربا فقط بل في امريكا واليابان. كان اول افلامهم (الكاذب 1981) و(المفلسون 1982) والتي كتبهما اكي كاوريسماكي واخرجها ميكا كاوريسماكي، وبافلامهما التي اشتركا فيها معا، أو عملاها على انفراد، حاولا التأسيس للموجة الجديدة في السينما الفنلندية، ومنحها الفرصة لتتنفس هواءا جديدا، فهما الى جانب اعتمادهما ميزانيات محدودة، تناولا موضوعات شائكة تهم المجتمع الفنلندي وتناولاها برؤية سينمائية واقعية جادة ومتميزة . والى جانب ذلك فان تعاملهم وبحساسية عالية مع الكاميرا جعل من اعمالهما دوما تحسب في خانة الافلام المتميزة بجودتها الفنية، وشئ يحسب لهما دائما ، انهما قدما صورة الانسان الاجنبي، والملون خاصة، بشكل مخالف لما اعتادته السينما الفنلندية التقليدية، حيث دائما نرى الافارقة خدما للرجل الابيض، والغجر دائما سراق ومحتالين والروس دائما من رجال المافيا وهكذا،أما الاخوة كاوريسماكي قدما وجهة نظرهما الموضوعية واحيانا بلقطات قصيرة معبرة، وكأنها برقية اعلان عن وثيقة، فقدما من اخراج ميكا قصة عن الجريمة في فيلم (الزمرة 1984) وفلما عن السباقات ( روز 1985) وفلما كوميديا (جا … جا … جا 1989) وفلما عن افراد العصابات التقليدية (هلسنكي ــ نابولي : طول الليل 1987) وفلم (الامازون 1990)، وقد تميز الاخ الاصغر أكي كاوريسماكي بكونه ميالا للكوميديا السوداء والجرأة في النقد الاجتماعي للتفاوت الطبقي، هكذا قدم من كتابته واخراجه فيلم ( ظلال في الجنة 1986) وقدم فيلم (أريل 1988) وفيلم (فتاة لعبة النصر1990) وكان أكي قد بدأ مسيرته الاخراجية مع اقتباس عن الكاتب الروسي فيدور ديستيويفسكي فقدم برؤية معاصرة فيلم ( الجريمة والعقاب 1983) وبنفس المنحى اقتبس عن شكسبير وقدم (هاملت رجل اعمال 1987) وثم تنقل خارج فنلندا وقدم اعمالا عديدة ، من خلالها خلق له اسما في الاوساط الفنية العالمية وعرف العالم بالسينما الفنلندية، ففي امريكا وبالاشتراك مع الفرقة الموسيقية الساخرة والانتقادية (لينيغراد كاوبي)، التي ظهرت في بداية الثمانينات، قدم فلم ( لينغراد كابوي في امريكا 1989) وانتجه في امريكا وحاول فيه ان يقدم رؤية ساخرة للحياة الامريكية، وثم انتقل الى بريطانيا ومن لندن قدم فلما ممتعا عن الحب (سمعت بأتفاق للموت 1990) ومن باريس قدم ( حياة بوهيمي 1992) ثم قفل عائدا الى فنلندا والى موضوعاته الطبقية وتفاصيل الحياة الفنلندية، فقدم (تاتيانا، انتبهي الى وشاحك 1994) وثم (الغيوم المندفعة 1996)، وتوالت افلامه ، فرشح عام 2002 فيلمه (رجل بدون ماض) لجائزة الاوسكار عن فئة الافلام الناطقة بلغة اجنبية ، وثم في مهرجان كان السينمائي 2002 فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم ، وفازت ممثلة الفيلم كاتي أوتينن (مواليد 1961) بجائزة افضل ممثلة لدور نسائي رئيسي . والفيلم دراما كوميدية ، عن رجل فنلندي يسافر يبحث عن عمل في العاصمة،هلسنكي، فيتعرض للاعتداء ويفقد ذاكرته ويجد نفسه بين مجموعة من الناس المهمشين في المجتمع ويتعرف الى امراة فنلندية تتطور علاقته بها مع احداث الفيلم ، وايضا تم اختيار الفيلم من قبل اسبوعية “Telerama” الفرنسية وهي مجلة ثقافية مختصة بالاعمال الفنية تأسست عام 1947 ،كواحد من افضل عشرة افلام لعام 2002 .وفي عام 2016، وفي مهرجان برلين السينمائي، فاز فيلمه (الجانب الاخر من الامل) بجائزة بجائزة الدب الفضي لافضل مخرج ، وفي مهرجان دبلن نفس العام، نال ممثله الشاب السوري شيروان حاجي (1985 مواليد ) جائزة افضل ممثل . والفيلم ، كوميديا سوداء عن موجة اللجوء الى اوربا ، والصعوبات التي يواجهها طالبي اللجوء من سوريا والعراق في فنلندا، واسند المخرج في الفيلم الادوار الرئيسة والثانوية الى مهاجرين ولاجئين من سوريا والعراق فمنح الفيلم صدقية عالية. ومن مهرجان برلين فاجأ اكي كاوريسماكي الجميع ، باعلانه اعتزال العمل في السينما وان هذا الفيلم سيكون اخر اعماله .
ومن ابرز الاسماء التي سارت بالتوازي مع افكار واسلوب الاخوين كاورسماكي يأتي المخرج فايكو التونين (مواليد 1955) الذي ومن انتاج الاخوين كاورسماكي قدم فلمه الاول (التسوية النهائية 1987) ، واشترك معه اكي كاوريسماكي في كتابة السيناريو ، عن صديقين يشتركان في عملية سرقة ، يهرب احدهما ويصاب الاخر بمواجهة مع الشرطة ويلقي القبض عليه ويرفض الاعتراف على شريكه ويدخل السجن، بعد الافراج عنه يلتقي بشريكه وقد اصبح عمدة لمدينة صغيرة، لكن نجاحه الحقيقي والباهر كان مع فلمه الثاني ( ابن المبذر 1992) والذي تناول فيه علاقة صداقة بين رجلين ، محتال وطبيب نفسي ، ومن خلالها قدم تشريحا عميقا لواقع المجتمع الفنلندي، وكان فلما مشحونا بالتوتر والعاطفة. وبنفس التوتر والشحنات العاطفية قدم (صلاة الراهب 1993 ) حيث تناول مشكلة البطالة واثارها على المجتمع الفنلندي. ايضا يمكن الحديث عن ماركو بولونين (مواليد 1957) الذي عاد بافلامه الى مرابع طفولته، منطقة كاريليا الشمالية وعن طفولته وعن الفلكلور ، والهجرات من هذه المنطقة وتاثيرات الحرب ، ويذكر انه بعد الحرب العالمية الثانية وبسبب من اشتراك فنلندا الى جانب المانيا الهتلرية في الحرب، وبقرار محاكم الحلفاء المنتصرون، فقدت فنلندا، لصالح الاتحاد السوفياتي، تقريبا 12 % من اراضيها وتدخل في قوام ذلك اجزاء كبيرة من منطقة كاريليا. في عام 1995 قدم بولونين فلم ( الزواج الاخير ) لتتشابك في فيلمه المعاناة الانسانية مع الحنين والموسيقى بالطبيعة والحلم الانساني بالواقع الثقيل الاقدام، مازجا ماهو مأسوي بما هو كوميدي برؤية تتسم بالشفافية والعمق .
يمكن القول ان جيلا جديدا من السينمائيين، ولج عالم السينما الفنلندية، وساعد على اعادة اكتشاف موضوعة من يعيش على الهامش، خارج السائد، الى جانب معالجة موضوعة الجذور والتاريخ بروح نقدية وكسر المالوف. فظهرت افلام عن حياة الشباب وافلام تعيد محاكمة التاريخ الفنلندي ، وكلها تحاول ان تخرج بالسينما الفنلندية من سوقها المحلي الى العالمية .
* المدى . العدد رقم (4120) بتاريخ 2018/01/25

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here