من مذكرات القصر الجمهوري / 2

كما يرويها د. صبحي ناظم توفيق
كنتُ ضابطاً خافراً في غرفة التشريفات بالقصر الجمهوري بعد إنتهاء الدوام الرسمي بعد ظهر يوم الأحد 6/12/1964
كان رئيس الجمهورية ( عبد السلام عارف ) قد طلب حضور ” الأستاذ عبد الرحمن البَزّاز ” سفير العراق في “لندن” القادم إلى “بغداد” بمناسبة عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، والذي يشغل في الوقت نفسه منصب السكرتير العام لمنظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” ورئيس الوفد العراقي المفاوض مع شركات النفط العملاقة العاملة في العراق، وذلك في مكتبه الرئاسي لمناقشة بعض الأمور في تمام الساعة السابعة مساءً, فأسجل ادناه رؤوس نقاط قد أفيد منها :-

تأميم النفط
وما رؤيتك -يا دكتور- نحو تأميم النفط، إذا ما إتخذنا مثل هذه الخطوة؟
تأميم النفط موضوع مُغاير يتطلّب قراراً سياسياً يتوجّب دراسته من جميع مناحيه وتقدير ما ستتخذه الدول الأخرى من مواقف محددة تجاهه، وخصوصاً الدول العظمى المتنفذة في أُمور العالم المعاصر -شئنا ذلك أم أبَينا- إذْ أن النفط شريان الحياة المعاصرة، فالسيارات والسفن والطائرات والقاطرات والآلات والمضخات والمعامل والمصانع وسواها تعمل جميعاً بمنتجات النفط، وقد أُضيفت إليها “البتروكيميائيات” التي أُدخلت في صناعات النسيج والمواد المنزلية والأبنية الجاهزة وصولاً إلى أبدان الآلات الثقيلة، هذا ناهيك عن الآلة الحربية لدى كل دولة… لذلك، فإن الحياة تتوقّف فعلاً في أي بلد صغير من دون النفط، فكيف الحال إذا كانت دولة صناعية كبيرة أو عظيمة؟… فلذلك، فإنهم لا يمكن أن يسكتوا مطلقاً ولا يمكن أن يظلّوا مكتوفي الأيدي إذا ما أمّمنا النفط، لا سيّما وأنهم يعدّون أنفسهم أصحاب فضل علينا وعلى دول (O.P.E.C) فلولاهم -حسب قناعتهم- لما أُكتُشِفَ النفط، ولما أُستُخرج من باطن الأرض أو البحر، ولما تطورت الصناعات النفطية… وفي إعتقادي، أنهم لو إلتزموا الهدوء ورضخوا تجاه أي قرار لتأميم النفط، فإنهم سيخطّطون للإنتقام مستقبلاً، والذي لن يكون بعيداً في عدد سنواته، وسيدخلوننا في مخاضات عسيرة لسنا أهلاً للخروج منها سالمين مُعافين، وسنتيه في صراعات لا يُحمد عقباها
لذلك أرى -أننا ما دمنا نمتلك أكثر من 50% من حصص الشركات النفطية الأجنبية العاملة في العراق- أن نكتفي بمواصلة المفاوضات الدائرة حالياً معهم لزيادة حصصنا لأقصى قدر ممكن إبتغاء تحسين أوضاعنا وإقتصادنا… وإذا ما لم ننجح بهذا المنحى، فلا أرى معضلة كبيرة في ذلك، ولا داعي لإثارة مشكلات كبيرة وعميقة، بل نتوكل على الله ونسير بخطىً رصينة ولكنها مدروسة، ومن دون “تطبيل وتزمير”، فكفى بنا خُطىً ثورية قد تجلب علينا أذىً لا نحتمله
ولا يمكن أن أنسى ما قيل عن الزعيم السوفييتي”نيكيتا خروشوف” في إيضاحه للرئيس “عبدالناصر” خلال مفاوضات إقتناء الأسلحة عام (1955) بــ((أن”الاتحاد السوفيتي” ليس على إستعداد لإطلاق طلقة واحدة في سبيل “الشرق الاوسط”، ولكن “الغرب” مستعد لإشعال حرب عالمية ثالثة في سبيل الحفاظ على مصالحها بالمنطقة نفسها .))
جمال عبدالناصر
ولكني لا زلتُ معجباً بالرئيس” جمال”، وأعتبره أخاً كبيراً، ونحن سائرون في طريق الوحدة معه بإذن الله
يا حجي” سأكون معك في غاية الصراحة، فالرئيس “جمال” قاد ثورة أفاقت الجماهير العربية وأبهرتها، ولكنه جعل “مصر” تنتكس إنتكاستين مُخجِلَتَين… إحداهما أن إحتلّت (إسرائيل) كل صحراء “سيناء” وبلغت قواتها “قناة السويس” خلال أيام معدودات عام 1956، في حين كان هو يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة المصرية، ولكنه إستطاع بوسائل إعلامه المقتدرة أن يبرّر ذلك تحت غطاء “العدوان الثلاثي” ومشاركة

-” دولتَين عُظمَيَين في تنفيذه… والواقع أنه لولا الضغط الأمريكي بزعامة الرئيس “آيزنهاور” بشكل خاص، إضافة الى الضغط السوفييتي، لما إنسحبت (إسرائيل) من “قناة السويس وصحراء سيناء” مطلقاً… وثانيتهما هي إنفصال “سوريا” عن الجمهورية العربية المتحدة، وفشل أول تجربة وحدة عربية في التأريخ المعاصر، إذْ كانت تصرفات القيادة المصرية وممثّليها في “الشام” وراء ذلك الإنفصال عنوة وبإنقلاب عسكري… وقد حاول “عبدالناصر” تبرير ذلك بقذف اللوم على الإستعمار والإمبريالية والرجعية العربية -كعادته دائماً-… ولكني على يقين بأن القادة السياسيين والعسكريين المصريين الذين عيّنهم الرئيس”عبدالناصر” بشخصه، هم الذين تسبّبوا في تأجيج المشاعر التي أدت إلى الإنفصال… فإن كان “سيادته” على دراية بذلك فتلك مصيبة، وإن كان لا يدري فالمصيبة أعظم… وحتى إذا ما إفترضنا أن أولئك القادة كانوا عُمَلاء مثلاً، أو مستغلّين، أو طغاة جائرين، فإن الذي بعثهم هو المسؤول الأول والأخير
ثم أن الرئيس “عبدالناصر” يحكم بالنار والحديد وبالإرهاب الذي يفرضه “المباحث” تارة و”المخابرات” تارة أخرى، و”الإتحاد الإشتراكي” تارة ثالثة، وما البعض من المؤسسات -التي يسميّها بالديمقراطية- سوى واجهات “إعلانية” وأكرّر أنها “إعلانية” وليست “إعلامية”… لقد ((تَبَهذَلَتْ)) مصر العربية، وحَجُم دورها، وأمست في الحضيض، وأنه لولا إسنادك يا سيادة الرئيس لأخيك “عبدالناصر” سواء بعد “ثورة رمضان” أو بعد “ثورة تشرين” بحرارة لما إستطاع الوقوف على قدميه… فـ”الجزائر” ما زالت منشغلة بهمومها بعد أن نالت إستقلالها حديثاً، و”اليمن” التي تورّط فيها “جمال” عسكرياً لا ثقل لها في جميع المستويات، و”دخول الحمّام مش زيّ الخروج منه” -كما يقول المثل المصري- وستثبت الأيام القادمات ما أقوله الآن، فالمُصارع مهما بلغ من قوة فأنه لا يستطيع مقارعة عدد من المصارعين الأقوياء، والرئيس”عبدالناصر” على خلاف مع معظم الزعماء العرب، ولاعب القمار الجيد ذو الدخل المحدود، لا يستطيع الغَلَبة على “مليونير” لا يَنفَد ماله بسهولة، والرئيس”جمال” يُعادي جميع الدول المتنفذة في سياسة العالم بشكل أو بآخر، وأنه بسبب تهوّره في إتخاذ القرارات فإنه سيغرق “مصر” في خضمّ نكسة ثالثة أكبر من سابقتَيها، وعندئذ سيبقى العالم متفرجاً عليه، إن لم يكن يُعاديه
وأودّ القول، أنه ليس من الشجاعة أن يتّخذ رئيس دولة قراراً جريئاً لم يدرسه أو يُقدِّر نتائجه بشخصه… فمن الوارد أن يبقى سالماً محافظاً على حياته ومحتفظاً بسلطته وكرسي حكمه، دون أن يتحسّس بما يُعانيه الوطن من مهانة والشعب من ضَنَك العيش والمَرارة والجوع والمرض والحرمان، بينما يتمتّع هو والمحيطين من حوله بملذّات العيش الرغيد.
يتبع 3 / احمد رامي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here