عبد الكريم قاسم في رسالة ماجستير …

د. لاهاي عبد الحسين

بدت الطالبة البصرية في قسم التاريخ، كلية الآداب، جامعة البصرة “حنين سالم التميمي” مواليد (1990) صغيرة جداً ورقيقة جداً للإحاطة بموضوع يخص شخصية سياسية عراقية مهمة مثل “عبد الكريم قاسم”. فما زال كثيرٌ من العراقيين يتذكرون ما حدث في عهده بالتفاصيل الدقيقة ويناقشونها بحيوية بين محبّ وكاره، وبين من أعاد النظر فيما قال وأطلق أحكاماً متسرعة عليه وتأسّف على فظاظة ونزق أيام الصبا والشباب. ولما كانت لجنة المناقشة تتكون من أساتذة كبار يتقدمهم رئيس اللجنة د. فاروق صالح العمر وعضوية د. مقدام الفياض، قسم التاريخ، جامعة الكوفة ود. محمد، كلية القانون والسياسة، جامعة البصرة وإشراف د. عمار خالد الربيعي، فقد بدت المهمة صعبة على الطالبة التي لا يكاد يسمع صوتها الأقرب إلى الهامس منه إلى صوت الباحث المقتدر. ولكن ما أنْ تعاقب المناقشون في توجيه الأسئلة والانتقادات والاقتراحات حول منهجية الرسالة والزاوية التي قد تكون أكثر توفيقاً في رصد موضوع الرسالة حتى ظهرت الطالبة لتقول وبقوة “أنا هنا ولها”. فقد أجابت على الأسئلة ووضّحت الإشكالات، والأهم أنّها أظهرت مقدار الجهد العلمي الذي أدّى بها إلى أنْ تضع رسالة قد تكون الأشمل في تناول فترة حكم وشخصية الزعيم عبد الكريم قاسم وبالطريقة التي قلّبت بها المصادر بتنوع مشاربها وتحيزاتها السياسية وغير السياسية.
رسالة تقع فيما يزيد على (435) صفحة ومراجع شملت مصادر غير منشورة منها ملفات مجلس السيادة التي ضمّت الإضبارة الشخصية للزعيم وملفات وزارة الدفاع وملفات وزارة النقل وقرارات مجلس الوزراء وملفات مديرية التقاعد العامة. وهذه جميعاً تمّ الحصول عليها من دار الكتب والوثائق الوطنية. هذا إلى جانب مجموعة كبيرة من الكتب المنشورة باللغتين العربية والإنكليزية ومطبوعات حكومية وكتب وثائقية ورسائل وأطاريح جامعية منتقاة بدقة وعناية وكتب كتبت بأقلام عربية غير عراقية وموسوعات ومعاجم وصحف عراقية عاصرت الفترة من بينها الاتحاد واتحاد الشعب والأخبار والأهالي والبلاد والبيان والتآخي.. إلخ. إلى جانب ما نشر في مجلات علمية متخصصة ومقابلات شخصية محدودة من حيث العدد ضمّت مقابلة مع عبد القادر احمد العيداني عضو اللجنة الطلابية للحزب الشيوعي العراقي في البصرة و د. عباس الجميلي ومحسن ملا علي، وكلاهما في البصرة أيضاً. واختتمت الرسالة بمعاينة مواقع إلكترونية نشر فيها لشخصيات معروفة مثل عدنان الباجة جي الذي ظهر في برامج تلفزيونية ومقالات نشرت في ملاحق جريدة المدى العراقية.
تقع الرسالة في ثلاثة فصول رئيسة تضمنت أربعة مباحث في الفصل الأول، وثلاثة مباحث لكل من الفصل الثاني والثالث. وحملت الرسالة عنوان “الخطاب السياسي للزعيم عبد الكريم قاسم للفترة 1958-1963″، بيد أنّها توسعت واستفاضت على الموضوع مما يرشحها لتكون أشمل ما كتب ليس فقط عن شخصية الزعيم وإنّما عن الفترة الزمنية التي حكم فيها والظروف العربية والدولية التي رافقته. رسالة كان يمكن أن تأخذ عنواناً أكثر شمولية وإنصافاً للجهد المبذول فيها كما في “عبد الكريم قاسم: دراسة تاريخية”. فقد تناولت الرسالة جوانب متعددة من حكم الزعيم ولم تكتف بالخطاب السياسي له فقط بل تعقبت وتناولت بالعرض والتحليل أحداثاً مهمة تركت بصمتها على فترة حكمه كما في حركة الشواف وأحداث الموصل وكركوك والسياسات التي اتبعها لتكريس مبادئ ثورة 14 تموز وبرامجه لتحرير العراق سياسياً واقتصادياً من النفوذ والهيمنة الاستعمارية. وتناولت الرسالة سياسة الزعيم من القضية الكردية التي أقر فيها الدستور المؤقت الصادر في 27 تموز 1958 أنّ “العرب والكرد شركاء في هذا الوطن ويقر الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية”. وتعقبت الرسالة مواقف الزعيم من حركات التحرر العربية في الجزائر والقضية الفلسطينية. وسلّطت الرسالة الضوء على جوانب تستحق أنْ يقال عنها أنّها كانت شاهداً على نوع من الطفولة السياسية التي اتسمت بها مواقف أطراف متعددة يقف في مقدمتها النزاع الشخصي بين الزعيم ورفيقه في حركة الضباط الأحرار عبد السلام محمد عارف ومن ثم الموقف العدائي الذي اتخذه الرئيس المصري جمال عبد الناصر. صفحات من الصراع والمنافسة على السلطة بإسم المصالح الوطنية والقومية العُليا. صراع الامتيازات والحزازات الشخصية الضيّقة التي راح ضحيتها الآلاف من العراقيين الأبرياء.
على صعيد الظروف الاجتماعية التي أحاطت بشخصية الزعيم أوردت الرسالة أنّه ولد في محلة المهدية في جانب الرصافة ببغداد عام 1914. انتقلت عائلته وهو بعد في سن الطفولة إلى الصويرة بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية لوالده الذي كان يعمل نجّاراً. وعادت العائلة بعد ذلك إلى بغداد وأقامت في منطقة قنبر علي ليكمل الزعيم دراسته في الثانوية المركزية ويتخرج منها ليتقدم للعمل معلماً في قضاء الشامية التابع للواء الديوانية سابقاً محافظة القادسية حالياً ومن ثم الإنخراط في الكلية العسكرية التي يبدو أنّ قاسم وجد نفسه فيها. وصف عبد الكريم قاسم بأنّه كان وحدانياً لا يتقرب إلى شيوخ ووجهاء قضاء الشامية، حيث عمل معلماً على الضد من أقرانه من المعلمين الذين طوّروا العلاقات معهم واستفاضوا في هذا المجال. ولكنه انسجم تماماً مع زملائه ونظرائه في الكلية العسكرية. وكما تلاحظ الرسالة فقد أظهر قاسم انضباطاً واندفاعاً مكّنه من أنْ ينال ثقة مرؤسيه فتقدّم في الحصول على الرتب العسكرية حتى سافر إلى بريطانيا لنيل شهادة “ركن”. على صعيد عائلته يذكر أنّ أحد إخوته ويدعى “عبد اللطيف” كان برتبة نائب ضابط عند حدوث الثورة وبقي برتبته هذه طوال فترة حكم الزعيم.
تمثل هذه الرسالة نوعاً من بارقة أمل تشهد بتقدم أكاديمي نوعي يقف على رأسه جهد أساتذة وتدريسيون شباب يتقدمهم الأستاذ المشرف ويدعمهم أساتذة شيوخ ما زالت ذاكرتهم وقلوبهم ترفرف في سماء البحث عن الحقيقة وبث الحياة في المعلومة المنسية ووجهة النظر المستبعدة لهذا السبب أو ذاك. مارست الطالبة قدراً كبيراً من التفسير والتحليل جاء تحت عنوان “يبدو …” دون أنْ تبتعد كثيراً وتستطرد وتضفي من عندها وتخرج عن سياق الموضوع المحكوم بوضوح الفكرة والبيانات التي تدعمها والمعرفة شبه الحية المتداولة شعبياً لفترة حكم الزعيم. وهذه واحدة من مزايا الرسالة، حيث يسهل على الطلبة المتعجلين أنْ يستطردوا ويخرجوا عن صلب الموضوع ليتشعبوا حتى يضيعوا الهدف منها. مع ذلك لا يخلو عمل من هذا المستوى من عدد من المشكلات الفنية كما في الأخطاء الإملائية والنحوية والكتابية والطباعية وإنْ كانت قليلة. وهذه مشكلات قابلة للعلاج ولكن قد يكون من الأفضل أنْ يضغط على الطلبة أكثر ليتقنوا عملهم خاصة إذا ما أريد لهذا العمل أنْ يخرج من أروقة القاعات الأكاديمية ليشع بنور المعرفة والعلم على المجتمع الذي ما زال يختلف ويحاجج ويتساءل من أجل الوصول إلى مسلمات تؤدي إلى خطوات بحثية أكثر تقدماً. وهناك ملاحظة مهمة في ما يتعلق بحجم الرسالة. ليس مما يبعث على الارتياح أنْ يطول حجم رسالة علمية إلى بضع مئات من الصفحات بل الأفضل والأكثر مقبولية أنْ تضغط الرسالة وتعرض الاستنتاجات والخلاصات الرئيسة التي توصلت إليها، فيما تترك الخطابات التفصيلية والوثائق ذات الصلة لتضمن كملاحق في نهاية الرسالة. يلاحظ أيضاً أنّ الطالبة استخدمت في الخاتمة التي عرضت فيها لنتائج الرسالة مفردة “أثبتت الرسالة …”، وهذا استخدام قد لا يكون موفقاً. لعل البديل الأفضل على هذا الصعيد أنْ تستخدم مفردة “أظهرت الرسالة …”، في معرض تقديم نتائج الدراسة. يصح هذا على وجه التعيين في الدراسات التاريخية التي لا سبيل إلى التثبت المادي الملموس والقطعي من نتائجها مما يضع الباحث/ الباحثة في خانة الأمان إذا ما توخى الحذر وأفسح المجال لحكم الاحتمالية. فالعمل العلمي وبخاصة على مستوى إعادة النظر في تفسير ما حدث في الماضي يبقى رهن النظر وإعادة النظر.

جريدة المدى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here