عظمة الاستقالة

لوسائل الاعلام فضل كبير علينا واكبر فضل هو تنوير عقولنا وفتح عيوننا على الحقائق، فصرنا نعرف ما يحدث في العالم من جرائم وفضائح واعمال خيرية وانسانية ومهرجانات ثقافية وثورات علمية ونحن جالسين خلف مكاتبنا او في بيوتنا، ولكن رغم ذلك فان الكثير من الناس يبقون اسرى عواطفهم ومشاعرهم القومية والدينية والطائفية فيبقون صامتين وساكتين على كل ما يتعرضون له من ظلم ونهب وكذب وخداع من قبل رؤوسائهم وقادتهم لانهم فقط ينتمون لنفس المذهب!.

ما يثير دهشتنا واستغرابنا نحن الشرقيين هو الاستقالات التي يقدم عليها اصحاب المناصب العليا في الدول الغربية والديمقراطية بسبب اكاذيب او فضائح اي كان نوعها وحتى التي ليس لها اية علاقة بعمل ووظيفة المستقيل لكن حفاظا على كرامته وسمعته يستقيل من منصبه ليعيش بهدوء بعيدا عن حديث الالسن، وذلك بالعكس مما نتلمسه في قادتنا، فاقدي السمعة والكرامة، الذين يلتصقون بالكرسي مدى الحياة! رغم كل الاختلاسات والسرقات والصفقات المشبوهة بالضد من ارادة الشعب ومصلحة الوطن.

فقبل مدة تناقلت وسائل الاعلام خبر اعلان وزير خارجية هولندا استقالته بعد اقراره بالكذب بشأن حضوره اجتماعا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل 12 سنة! حيث قال ” لا ارى اي خيار اخر اليوم غير تقديم استقالتي الى جلالة الملك”، لانه شعر ( اي الوزير المستقيل ) بان مصداقية وزير خارجية البلاد يجب ان تكون بعيدة عن الشكوك داخل وخارج البلاد، وهذا التصرف يكشف لنا عن التربية والثقافة الوطنية الراقية التي يتحلى بها مسؤولي الغرب، وفي نفس الوقت يشكف التربية والثقافة! والتفكير الدنيء الذي يتعامل به مسؤولينا الكرام مع الشعب ومصلحة وكرامة الوطن.

ما يربط العراقيين بهذه الحادثة هو الحسرة والتمني، الحسرة على السلاطين الذين ابتلينا بهم ويحكموننا حسب مشيئتم رغم كل الصفات الدنيئة والعلات المتجذرة فيهم، والتمنى على فقداننا لمسؤولين شجعان يقدمون على الاستقالة عندما تثير حولهم، او بالاحرى تثبت ضدهم، قضية فساد او رشوة او سرقة او اختلاس يكون ثمنها مئات المليارات من اموال الدولة او الالاف الارواح البريئة من ابناء العراق.

في العراق الجديد نهبت اموال تقدر باكثر من اربعمائة مليار دولار! من قبل مسؤولين حكوميين كبار دون محاكمة او محاسبة او حتى متابعة من قبل الاجهزة المختصة وذلك خوفا من سلطة الناهبين، وفي العراق الجديد ايضا اصبحت الرشوة علنية في دوائر الدولة لتمشية معاملات المواطن البسيط، وفي العراق الجديد تهدر المليارات من الدولارات سنويا بينما الشعب يعيش تحت خط الفقر ….الخ، في العراق الديمقراطي الجديد لم يبق شيئا من العراق سوى اسمه.

ربما يعجز المسؤولين الحكوميين من تطبيق القانون بحق المرتشين والمختلسين وناهبي اموال الوطن والمتلاعبين بقوت وارواح الشعب، وذلك لاحتماء هؤلاء بميليشيا مسلحة او كونهم تابعين لاشخاص اخرين متنفذين في قمة السلطة وما دام الفساد مستحكما في قمة الهرم السلطوي فلا يمكن محاربته ابدا، وكل ما يعلن عنه هنا هناك لا يخرج من دائرة خداع الشعب والضحك على ذقون ابنائه عبر محاكمة او ملاحقة موظفين صغار ليسوا سوى ضحية تقدم لادامة مذبح السلاطين، لكن رغم العجز الحكومي في محاربة الفساد فلا بد ان يكون لهؤلاء ضمير واحساس ومشاعر وكرامة وعزة نفس ليقوموا بمحاسبة نفسهم ومعاقبتها ومراجعة اعمالهم الفاسدة التي بلغت رائحتها العفنة اعالي السماء، عسى ان يتشجعوا يوما ويقدموا على تقديم استقالتهم والاعتذار للشعب على كل ما بدر منهم من مساويء تجاه الشعب والوطن، وهم الذين حكموا البلاد باسم الدين والتقوى.

مؤشرات الفساد العالمي لا زالت تصنف العراق من ضمن الدول الاكثر فسادا في العالم وهذا يعني ان العراق لم يخطو خطوة واحدة لمحاربة الفساد ولم يقم باي جهد لتصحيح المسار ووضع القطار على السكة السليمة، وليس بعيدا ان يبقى العراق محكوما على هذا المنوال اذا استمر الشعب بتغليب الطائفة والقومية على القانون والمواطنة.

ما يحدث في العراق من فساد واتجار بارواح المواطنين واثارة الاحقاد بين الاديان والطوائف والقوميات يطيل امد الحرب الخفية الغير المعلنة الى عشرات من السنين الاخرى وتدمر ما بقى من العراق، لذا على من كانوا سببا في دماره ان يتشجعوا ويقدموا اعتذارهم للشعب العراقي على كل ما جروه على هذا البلد من مآسي وويلات ويعلنوا استقالتهم لانهم لم يكونوا اهلا لهذه المناصب التي تسنموها بالكذب والمكر والخداع.

العظمة لا تأتي بالتسلط واحتكار المنصب ولا بنهب مئات المليارات من اموال الشعب ولا باثارة الفتن بين الطوائف، بل تأتي بالتواضع وخدمة الشعب وزرع المحبة والسلام بين الناس، فطوبى لمن تسلم كرسي الحكم مرفوع الرأس وتركه كذلك.

همسة:- العظماء وحدهم يعترفون بأخطائهم ليعيشوا بكرامة.

كوهر يوحنان عوديش

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here