ابو نؤاس في سطور !

(*)   د. رضا العطار

ان منزلة ابي نؤاس الفنية اوسع من ان تحدد في سطور. لكننا ونحن نسوق ابرز اراء النقاد فيه, نتلمس مواطن عبقرية الشاعر واسباب خلود شاعريته, فأنه ولا ريب  كان اول من نهج للشعر طريقته الحضرية واخرجه من النهج البدوي القديم  ونظم في شتى اغراضه وفنونه, فهو صاحب مدرسة لاتقل اهمية عن باقي المدارس الأدبية التي عرفت في عصره .
فقد قال عبيد الله بن عائشه : من طلب الأدب ولم يحفظ شعر ابي نؤاس فليس بأديب . كما قال الصولي : اذا رأيت الرجل يحفظ شعر ابي نؤاس علمت ان ذلك عنوان ادبه . كما قال الأمام الشافعي :  لولا مجون ابي نؤاس لأخذت من علمه.  تلك الأراء لهي عظيمة الدالة على نبوغ الشاعر علما ان الأبداع ليس مجرد ثمرة الموهبة بل انما هو نتاج  صرح كبير في تربة البحث والأصالة بعيدة الغور.

بيد ان ابو نؤاس لم يقصر في تحرشاته بالطقوس الأسلامية فحسب انما جاوزها الى النصرانية ايضا، قوله :

قل للمليحة في الخمار الأسود  * *     ماذا فعلت براهب متعبد

قد كان شمر للصلاة ازاره  * *      حتى وقفت له بباب المسجد

كما و شملت الديانة الموسوية كذلك :

وفتيان صدق صرفت مطيهم   * *   الى بيت خمار نزلنا به ظهرا

لكن يهودي يحبك ظاهرا   * *      ويضمر في المكنون لك الخترا

لم يروق لأبي نؤاس أساليب القدماء ويحتقر القديم بكل مافيه. فهو ضد  ثقافة الوقوف على الأطلال وبكاء الأحبة وذكر الديار ووصف حيوانات البادية من خيل وابل الذي كان يعتقد انها لا تتلائم مع طبيعة المجتمع العباسيي المتحضر, فقد تشبعت نفسيته بروح التمرد, وكان يثور ويبكي على الخمرة لا الأطلال قوله :

لا تبك ليلى ولا تطرب الى هند  * *      واشرب على الورد من حمراء كالورد

كأسا اذا انحدرت في حلق شاربها  * *            اجدته حمرتها في العين والخد

فالخمر ياقوته والكأس لؤلؤه       * *                 في كف جارية ممشوقة القد

ومن خلال الثورة العارمة هذه يكشف ابونؤاس عن مذهبه متماديا  في الجهر في اقترافه  للمحرمات دون مبالاة :

الا فأسقني خمرا وقل لي هي الخمر   * *       ولا تسقني سرا ان امكن الجهر

وبح باسم من تهوى ودعني عن الكنى * *   فلا خير في اللذات من دونها ستر

ولا خير في فتك بغير مجانة        * *             ولا في مجون ليس يتبعه كفر

فالحياة عند ابي نؤاس كانت نشوة  ليس سواها، حتى وكأن الدهر كله نشوة متواصلة.
فالعمر في نظره اقصر مما يعتقد, فيرى في اللهو مغنما ويرى في الصحو غبنا, فلا يرى معنى للهو بغير مجون ولا مجون بلا تهتك.

وفي معرض المفارقة الشعرية يلتقي ابو نؤاس  مع الشعراء الأعشى والأخطل بأشياء ويمتاز عنهم بأخرى , وهو في الحالتين يبدوا اروع اسلوبا وادق تعبيرا واجمل صورة . اقرأ هذه المقطوعة التي ارتجلها من خلال حالة نفسية مرحة, واصفا القدح وكأنه ينير ظلمة الليل :
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها  * *     لو مسها حجرُ مسته سراءُ

فلو مزجت بها نورا لمازجها    * *         حتى تولد انوارا واضواءُ

الحلقة التالية في الاسبوع القادم !

* مقتبس من ديوان ابي نؤاس لعمر فاروق الطباع دار الارقم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت 1998 ومن العصر العباسي الاول لشوقي ضيف، القاهرة 1960.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here