الأنتقال من السيئ الى الأسؤ القدر الأهوج

كان الحكم الملكي في العراق مستقرآ الى حد ما و ذو طبيعة راسخة في اسلوب توارث الحكم من الملك حين الوفاة الى الوريث الشرعي و عادة ما يكون الأبن و حينها كانت دعوات الترحم و الأستغفار تنعم بها روح الملك الراحل و دعوات العمر المديد يرفل بها الملك الجديد و لا تذكر سيئات الحقبة الماضية ولا تكال عليها اللعنات فهي قد ذهبت مع مليكها و لا تملقآ ولا تزلفآ الى الملك الجديد لانه الأمتداد الطبيعي لذلك الأرث الذي ارسى قواعده الأجداد و الأباء من الملوك و لم تقارن الناس في تلك الفترة في الأنجازات التي تحققت بين الملوك الذين توفاهم الله او العاهل الذي آلت اليه امور المملكة فكان هو المكمل لأولئك الذين بدأوا المسيرة فكل واحد منهم يؤدي الدور الذي اوكل اليه و يأتي الذي يخلفه ليكمل ما تبقى و هكذا سارت عملية التسليم و الأستلام لمقاليد الحكم بكل سلاسة و بساطة .

تبدأ قصتنا و التي لم تنتهي فصولها بعد منذ الأنقلاب او الثورة او التغيير الذي اطاح بالنظام الملكي و اجهز على العائلة المالكة و بدأ بعدها عصر الجموريات و الأنقلابات و التصفيات الدموية و صارت الشتائم و اللعنات تلاحق النظام الذي هزم و اندحر و سيقت زعاماته الى السجون و المعتقلات و غالبآ الى ساحات الأعدام و بعد برهة من الزمن ليست بالطويلة و مع التجربة المريرة مع الحكم الجديد الذي كان قد اخلف ما وعد به ولم يف بها ليبدأ الترحم على اولئك السابقين من الحكام ليس كونهم من النجباء الأخيار بل لأنهم كانوا اقل سؤآ و اكثر تفهملآ و تعقلآ من ذلك الحكم الذي خلف .

بدأ العهد الجمهوري الأول بالهجوم على النظام الملكي الذي سبقه متهمآ اياه بكل الموبقات من العمالة للأستعمار و الأجنبي وانه كان ( النظام الملكي ) ينفذ الأجندات و السياسات الأمبريالية و تعددت الأتهامات من العمالة الى السياسات القمعية التي كان يمارسها ذلك الحكم تجاه الشعب العراقي و تكميم الأفواه و سلب الحريات و توسيع السجون و المعتقلات التي ضاقت بالأحرار و المعارضين لذلك النظام المتسلط و ما كانت الجماهير المنتشية بروح الأنتقام ان تصحو و تنتبه الى الواقع حتى كانت البلاد في ايدي مجموعة من الضباط الذين اعمت بصيرتهم شهوة الحكم و حب الجاه و السلطة ان فتك بعضهم ببعض و قتل رفاق السلاح زملائهم بكل برود و هدؤ و راحة ضمير .

انقض الضباط المتمردون رفاق الأمس على وزارة الدفاع ( مقر الحكومة في العهد الجمهوري الأول ) و كانت دبابات القوات المنتفضة تحيط بها من كل الجهات الى ان انتهى ذلك اليوم الرمضاني الطويل عن مجموعة من الضباط الذين سقطوا صرعى دفاعهم عن المعقل الأخير و رحلوا الى ربهم بثوابهم و ذنوبهم و هللت الجماهير المحتشدة للحكم الجديد الذي وعد ( كالعادة ) تلك الجماهير بالرخاء و الرفاه و الأمان و لكن سرعان ما غصت الشوارع و الأزقة بالمئات من المسلحين المدججين بالكراهية و الأحقاد و الأسلحة تجوب الأحياء و الحارات بحثآ عن المخالفين و المعارضين و بقايا المؤيدين للنظام السابق و الأيقاع بهم قتلآ و تنكيلآ و حينها كانت الناس قد بدأت بالترحم و التحسر على ذلك النظام الذي سبق .

اطيح بهؤلاء الضباط بعد اشهر معدودات من حكمهم و كان الذي اسقطهم هو رفيق درب و سلاح قديم اشترك معهم في كل الأنقلابات التي حدثت و ها هو يتحين الفرصة و نقمة الناس للأنقضاض عليهم وتجريدهم من سلطاتهم و نزع اسلحتهم و ايداع زعاماتهم في السجون و نفي الآخرين خارج البلاد و هكذا رحل حكم البعث الأول غير مأسوف عليه و تلاحقه اللعنات و الشتائم و الشماته بمصير اولئك الجلادين الذين تركوا اسلحتهم و استبدلوا ملابسهم العسكرية المميزة للحرس القومي بملابس مدنية و فروا هاربين حينها كانت نهاية تلك الفترة السوداء و التي لم يذكرها احد بخير ابدآ و لم يحن اليها احد حتى قادتها انفسهم .

كان الأنقلاب الذي ازاح حكم الرئيس ( عبد الرحمن عارف ) الذي كانت فترة حكمه و بشهادة الكثيرين من اهدأ فترات الحكم التي مر بها العراق الا ان ذلك الأنفتاح و الهدؤ لم يرق للبعثيين الذين اعادوا الكرة و استولوا على القصر الجمهوري في انقلابهم الأبيض و الذي انتهى ملونآ بالدماء من كثرة القمع و الأضطهاد و الحروب الداخلية و الخارجية ان غصت ساحات الأعدام و وقف المحكومون بالطوابير انتظارآ للمصير المحتوم قريبآ من المشنقة و من سلم من تلك المجزرة كانت الحروب بأنتظاره و التي التهمت مئات الالاف من البشر و كانت امنيات الناس و آمالهم المكتومة في الصدور هو التخلص من هذا الحكم و بأي وسيلة كانت و بأي ثمن و ان كان باهضآ و مكلفآ .

كان ذلك النظام على موعد مع القوات الأمريكية التي دخلت بغداد و احتلت العراق و اسقطت النظام و ابتهج المواطنين بذلك النصر الذي ازاح عن كاهلهم الكابوس الذي لطالما حلموا بالتخلص منه و ها قد حل هذا اليوم المنشود و توقع الجميع ان مرحلة من الحرية و الديمقراطية و البناء و الأعمار سوف تبدأ و ما ان استفاق الجميع من سكرة النصر ذلك و نشوته حتى بانت الحقيقة المرة في استيلاء الأحزاب الأسلامية على الحكم و التي كانت ترفع القرآن في يد و في الآخرى تحمل الأجندات الأجنبية ان التهبت الحرب الطائفية و تفككت البلاد و كانت على شفير التقسيم و انعدم الأمن و فقد الأمان و هاجر من استطاع الهجرة و سرق حرامية تلك الأحزاب خزينة الدولة و استولوا على عقاراتها و لم تكن لهم حسنة واحدة او صنيعة جيدة تحسب لهم و كان المحتل الأجنبي ارحم منهم و اكثر حرصآ على ارواح و املاك المواطنيين و كراماتهم .

بدأت الأصوات تهمس بخجل و خوف مقارنة بين الأمس السيئ و الحاضر الأسؤ الى ان تعالت و صارت اكثر جرأءة و وضوح و اعلنت عنها الجماهير الغاضبة ان النظام السابق ( صدام حسين ) بكل سيئاته و عيوبه و عند المقارنة و ترجيح كفتي الميزان فأن الكفة سوف تميل لصالح ذلك النظام الذي لو كان الكثير من المناضلين و الساعين لأسقاطه يعلمون ما ستؤل اليه الأمور و ما ستنتهي اليه شؤون الدولة والحكم بأيدي هذه الأحزاب الأسلامية لكانت قد اعادت قراءة المشهد السياسي مرات عدة قبل ان تقبل او تتعاون في اسقاط النظام السابق و ذهب القسم الأعظم من الشعب عدا اولئك المنتفعين من الحكم الحالي الى الترحم على ذلك النظام الظالم لأن الحكم الحالي اكثر تعسفآ و ظلمآ و كأن النبؤة العراقية التي تحذر من القادم الجديد الذي سوف يكون الأسؤ من الماضي القديم قد تحققت .

حيدر الصراف

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here