أمك ثم أمك ثم أمك.. لميعة طالب وما أدراك ما أمي

محمد نعمان مراد

الحديث عن الأم والاحتفاء بها لا يمكن إختزاله الى يوم واحد فكل أيام العمر لهـا، فهي التي حملت وهناً على وهن وحملت كُرهاً ووضعت كُرهاً وفي نهاية المطاف الجنة تحت أقدامها.
سمات كثيرة تجمعها وتحملها الأم فلا أم بلا حنان أو بدون صبر أو بلا طيبة سمات عامة ألتصقت مع أمهاتنا، لكنني أريد ان أقول هناك ثمة ثلاث سمات تتفاوت نسبها بين أم وأخرى، وإنمذوجي هنا هو أمي (لميعة طالب عبد الغني) التي ربت أجيال بصفتها كمعلمة في مدرسة الثغر الابتدائية ومن ثم معاونة في المدرسة ذاتها من ثم معاونة في مدرسة الميناء المختلطة في معقل الطيب والثقافة والأصالة في بصرة الخير، فقد كابدت أمي مشقة الحياة أيام وأشهر وسنوات بحلوها ومرها بفرحها وترحها بحروبها وحصارها بأمراضها ومصائبها وبمتغيرات الزمن والأجيال فيها، استطاعت أمي بروح الانسانية وقيم الاسلام أن تحافظ على رونق معدنها الأصيل بخلقها وطباعها وصبرها وتصرفاتها بمنتهى الحكمة والهدوء والتروي، لم تتأثر بمغريات الحياة ومادياتها ولا بتغيراتها حافظت بشكل لا يضارعه أحد من الأمهات على السمات العامة للأمهات والسمات التي أريد الخوض بها وهي ثلاث سمات أخذت قيمها للأسف بالتناقص داخل الانسان.
هذه السمات هي الحق والعدل ونكران الذات واعتقد انها معايير هامة لمعرفة التفاوت ليس بين أم وأخرى بل بين إمرأة وأخرى وإنسان وآخر، فكانت أمي دائماً تنظر بعين العدل والحق والصدق في مجمل تعاملاتها وتجعل من مصلحتها الشخصية آخر شيء يمكن أن تفكر به وتتعامل معه. وفي هذه السمات لا غيرها يكمن الاختبار الحقيقي في انها لم تفكر بمجرد التفكير في ان تفضل مصلحتها الشخصية على مصالح اولادها وابوهم أو مع الناس أجمعين ومدبرة ماهرة في أمور الحياة. أنا لا أقول ان أمي لميعة عي كاملة بهذه الخصائص لكنها تسجل الدرجة الأعلى والتقييم الأمثل من بين ما شاهدت وسمعت من تصرفات لأمهات ونساء كثر في حياتي.
تتعامل أمي مع المواقف العصيبة بهدوئها المعتاد دون عصبية أو تشنج تمزج بعفوية ونباهة بين حكمة العقل وعاطفة القلب معاً لتجاوزها تفكر في مصلحة جميع من حولها دون مصلحتها الشخصية، بل هي دائماً تحمل براً لوالديها ولأناس كثيرين من أقاربنا أو من أصدقائنا أو حتى الناس الغرباء على حد سواء منهم من أساءوا لنا ولها لكنها تتمتع بالوعي الانساني والديني ما يجعلانها تنسى أموراً كثيرة ويبقى البر من سماتها الرائعة.
في أوقات كثيرة أراها تضحك وتبتسم لكن في قلبها يعتصر ألم معاناة الحياة لا تريد أن تزرع فينا الشجن واليأس، قوية وصبورة في تجاوز المحن.
والأم مدرسة كما يقول المثل، أذكر باعتزاز بالغ موقفاً لها معي يحكي باختصار تربيتها لنا، فعندما كنت في الصف الرابع الابتدائي وأنا يغلبني النعاس ليلاً ولدي امتحان مادة الحياتية آنذاك وكنت مستلقياً في حضنها لتدرسني كعادتها يومياً وإذا بها تضربني وتقول لي: اصحى وكمل الدراسة للامتحان، فهي تريدني ان أدرس وأعرف المادة بأكملها كلمة بكلمة، علماً بأنها هي معلمة المادة وهي التي امتحنتي في اليوم التالي دون أن أعرف ما هي أسئلة امتحان الحياتية، وقد أديت الامتحان شأني شأن بقية زملائي من الطلبة!. لقد آثرت بالعدل والحق أن أكون بمثل بقية الطلبة لا تريد أن تفضلني وتميزني دون وجه حق على الآخرين. هذا موقف من مئات أو آلاف المواقف في حياتنا وحياتها.
هل هناك أجمل وأصدق وأعقل من هذا بعد. الدروس التي تعلمتها منها كثيرة في مخافة الله والعدل والصدق والنبل والصبر والعقل والحكمة والطيبة والقلب البيض والمحبة والهدوء والحنان ونكران الذات والتضحية وأحاول أن اقلدها وأصل الى مستواها في كل السمات التي ينبغي أن يتحلى بها من يريد أن يكون انساناً على وجه الأرض لكن المسافة تكون بعيدة حتى أصل الى مثل هذا المقام الرفيع.
كيف يمكن أن نجازي مثل هذه الأم، الناس تجازي امهاتهم فقط على حنيتهم وصبرهم فكيف لي أن أجازيها على سمات باتت اليوم سلعة نادرة بين البشر، ومهما فعلنا في حقها نبقى مقصرين ومقصرين دائماً في رد الكثير والكثير مما أدت وضحت من أجلنا، لا نملك سواء الدعاء الى العلي القدير بأن يكون الفردوس الأعلى مكانها والجنة تحت قدميها.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here