(كُلَّهُم) لغة العقل الذي انهارت أعمدته!نقطة راس سطر.

د. محمد أبو النواعير*

غالبا ما يقسم منظري علماء الاجتماع وفلاسفته الوجود إلى ذات وموضوع
خارج الذات, وغالبا ما تُحكم الذات في أنماطها السلوكية بآلة العقل
والتحليل المنطقي, التي وهبها الله للإنسان كخاصة يختص ويتميز بها عن كل
الموجودات, وأغلب مشاكل الإنسان تتمظهر في قصور أو عجز أو تهافت مخرجات
هذه الآلة, التي هي عماد الإنسان في الوصول للحقيقة.

في السياسة غالبا ما يكون التصارع والتنافس والاقتتال قائما على أدوات
كثيرة, منها ما يكون من أجل تحقيق النصر والمكاسب, ومنها ما يكون من أجل
إحقاق الحقوق ونشر العدل؛ وفي نفس الوقت تعتبر السياسة في زماننا الحاضر
ممثلة لكل نواحي الحياة البشرية بكل تفاصيلها, لذا كان تدخل السياسة في
كل تفاصيل الحياة العامة والخاصة, سمة مميزة لعالمنا المعاصر.

لم يعد الدين والاقتصاد هما المدخلين الأساس للصراع السياسي, بل أصبحت
السياسة متداخلة وبشكل فاعل ومؤثر وسلطوي في كل المجالات : الاجتماعية
والتعليمية والثقافية والتربوية والدولية والجغرافية والصناعية, بل حتى
أن موضات الملابس وقصات الشعر باتت تخدم أهدافا سياسية أيديولوجية معينة,
لذا يعتقد الكثير من المختصين بتهافت وسقوط نظرية فصل الدين عن السياسة,
لأن السياسة هي من باتت تغزو عقر الدين وتحاول السيطرة على أدواته!

في العراق, لا يزال الوعي المجتمعي غائبا عن فهم واستيعاب حضور
السياسة في كل تفاصيل حياته الصغيرة والكبيرة؛ نتج عن ذلك كسل عقلي
ومعرفي (جماهيري) على درجة كبيرة من التعقيد, بحيث أصبحت لغة السياسة في
هذا البلد لغة تستخدم (كسلاح) من خلال حَدّها التخريبي الذي بدأ ينخر في
كل منظومة المجتمع, وأصبح الجهل السياسي وسيادة لغة الانصياع والخضوع
لاستبداد الإعلام التسقيطي, متمظهرا وبشكل واضح بكلمة مشهورة, جسدت كل
أنواع الكسل الجماهيري (العقلي والمنطقي), والمتمثل بكلمة (كُلَّهم),
فأصبحت هذه الكلمة نمطا معلبا جاهزا للاستهلاك العقلي, الكسول عن البحث
والتحليل والمقارنة والرجوع للتأريخ, والتقدم للمستقبل, بل بات يمثل حالة
توقف وانهيار العقل وأدواته!

كلمة (كُلّهم) لم تكن وليدة الصدفة, بل جرى العمل عليها في غرف متخصصة
بصناعة الرأي العام وقيادته واستغفاله والتحكم به, وهي قد تأسست من خلال
التوظيف السيئ لقانون الذاتية, هذا القانون الذي يحاول أن يربط الحقيقة
بمفهوم محدد لا غير, يمثل هو الحقيقة لا غيرها ولا يمكن أن تكون غيرها,
ويظهر هذا التوظيف السيئ لهذا القانون المنطقي بأسوء وأبشع تجلياته, من
خلال استخدام قاعدة (الهوية المزورة), والتي تربط مفهوما كاذبا بآخر
صحيحا, ليكون كلمة وجملة واحدة يتماهى العقل معها كقطعة واحدة, كأن نقول
: الديمقراطية الأمريكية, أو ماء الفرات , أو : كُلَّهُم حرامية !

(كُلَّهُم) لغة اليائسين والمحبطين, وأكبر مشكلة نمر بها اليوم هو أن
قيمنا الأخلاقية والإنسانية التي نحاسب بها الآخرين, هي قيم مضروبة
وجاهلة, فلا نحن نحترم ديننا ووصاياه لنحتكم لقيمه وأدبياته, ولا نحن
نحترم القانون وما فيه من موارد ضبط للسلوك, ولا نحن نحترم عقولنا؛ بل
نسير دوما خلف ما تمليه علينا عواطفنا, ونقيّم الحوادث والناس من خلالها.

نحن بحاجة إلى إعادة تدريب عقولنا على التفكير المنطقي السليم!

*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here