قيم الفرد العراقي بين الزهد والجكسارة !

د. محمد أبو النواعير*
من المفترض أن كلمة مجتمع تُطلق عادة على مجموعة بشرية معينة, تعيش في مساحة مكانية معينة, وتملك هوية ثقافية وأخلاقية ودينية, تشكل وجودها كمسمى (مجتمع), كما وتشكل مكونات الهوية هذه نوع من المثالية القدسية, التي قد يستقتل الناس في سبيل الحفاظ عليها, ومثال عليها في مجتمعنا العراقي : مفاهيم الغيرة والشرف والأمانة وتقديس الدين ورموزه كالنبي ص وأئمة أهل البيت ع؛ وهي تكون في ثقافتنا كمصدات أخلاقية وقيمية, ضد أي انجرار نحو الاستهلاكية, التي بدأت تطغى على أغلب الجماعات البشرية !
إن سبب خراب مجتمعاتنا الحديثة وتفكك قيمها الأصيلة, هو نجاح الغرب في زرع قيم الاستهلاك كقيم مقدسة لدى الأفراد والجماعات, حيث أن الغرب الرأسمالي التوسعي علم جيدا, أن سيطرة الأخلاق المثالية والدينية على محركات السلوك والتفكير لدى الأفراد والجماعات, سيجعل من هذه القيم الحافز الأول لمخرجات السلوك الفردي, وهي ستقف في الكثير من المناطق التي تتنازع فيها مع حب الفرد للدنيا, فتهذب السلوك الإنساني, وتطمئن الروح الجائعة لكماليات الدنيا, وتحقق لديه حالة زهد عن الكثير من الكماليات الاستهلاكية, إن كانت تتعارض مع قيمه الأخلاقية أو الدينية.
هنا, ستشكل منظومة الأخلاق الدينية (في حسابات الرأسمالي الغربي), عامل إعاقة في وجه مشروعه الاقتصادي الرأسمالي الاستهلاكي,لأنها ستقف في وجه مؤثراته التي تريد أن تسلب من الإنسان نزعته الأخلاقية, (وبالأخص منها التي تحقق نوعا من الزهد بالاستهلاكية, التي تقود إلى صراع لا أخلاقي يضرب القيم عرض الجدار), وهذا ما قاد الغرب إلى تبني مشروع مهم, يهدف للقضاء على كل التنوعات الأخلاقية والقيمية والدينية للشعوب, (وبالأخص المسلمة منها), لتحل محلها منظومة قيم أخلاقية موحدة من صنعه, تتفه الفرد, وتمنحه حرية موهومة, ومن جانب آخر تسيطر على كل مقدراته الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وتحاول أن تجعله مشروع اقتصادي استهلاكي مستمر.
المشكلة أننا بتنا اليوم كلنا ننقد تغير حال الدنيا وتغير أخلاق الناس, وتقاتل أهل المناصب والمصالح على مكاسبهم, ونحن لا نعلم بأننا جزء من هذه المنظومة, لأننا كلنا نسعى مستقتلين إلى ضرب كل مفاهيم الزهد الأخلاقي, من أجل الحصول على تلك القيم الاستهلاكية الاقتصادية, مهما كانت بسيطة, وهو ما يعني بالنتيجة نجاح خطة الرأسمالي الغربي بشكل مبهر!
المعنى : حياتنا أحيانا تحتاج إلى مفهوم الزهد, لأن ضابطة الزهد هي التي تكبح جماح الانهيار الأخلاقي, وضابطة الزهد متعلقة بمقدار الخضوع للأخلاق القيمية والدينية, فإذا تم ضرب هذه الفواعل الأخلاقية, انتهى مفهوم الزهد, وأطلق العنان لوحش القيم الاستهلاكية التي تقتل فينا كل يوم, جزءا كبيرا من أخلاقنا ومتبنياتنا الروحية, وتجعلنا ندوس من أجل التنافس للحصول على امتيازات هذه الاستهلاكية, على كم كبير من قيمنا وثوابتنا الأخلاقية والاجتماعية والدينية.
الغرب نجح في تصدير حرية استبدادية لنا, حرية مبطنة بسيطرة كاملة على نفوسنا وعقولنا, فأصبحنا نبحث عن كل ما يتمم لدينا الكمال المادي (الاستهلاكي), ونستقتل في استيراد كل السلع الكمالية الاستهلاكية, وأصبحنا عبيدا لهذه الاستبداد الرأسمالي, الذي سيطر على عقولنا وأرواحنا وأذواقنا وأخلاقنا, وباتت حريتنا المزعومة, كغلاف يتستر تحته غول كبير ومرعب, يسوقنا كالعميان إلى محرقته الاستهلاكية.
*دكتوراه في النظرية السياسية- المدرسة السلوكية الأمريكية في السياسة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here