مصر وكفاح الشعب في الجزائر

د. علي الصلابي
كان للتأييد المصري أهمية بارزة وتأثير إيجابي على مسار الثورة الجزائرية يَعترف به كل من درس بعمق تاريخ الثورة الجزائرية وقلب في صفحاتها الزاخرة. فعندما اندلعت الثورة الجزائرية التحريرية الكبرى تحولت القاهرة إلى جزائر ثانية في عهد الضباط الأحرار والرئيس جمال عبد الناصر بلا منازع. ولعبت دولة مصر الخمسينات دورها البارز في دعم جميع الشعوب ونضالها في سبيل نيل الحرية والكرامة والاستقلال من الهند إلى كوبا، كما قاومت مؤامرات القوى الامبريالية العالمية. فلاقى الكفاح البطولي الذي بدأ به أهل الجزائر صداه الواسع في القاهرة، وكانت إذاعة صوت العرب تنطق باسم الشعب الجزائري بالنصر والتحرير، وكانت القاهرة أول عاصمة عربية أذاعت بيان ثورة الجزائر في شباط/ فبراير 1954. ولم تتوقف مسيرات ومظاهر التأييد للشعب الجزائري في مصر. فقد ضجت الشوارع بالأناشيد الحماسية، وشهدت الميادين عشرات الفعاليات الطلابية والنقابية، وكثرت التعليقات السياسية، وترددت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحض على الجهاد والشهادة في سبيل الله من أجل الحرية وكرامة الأمة في ساحات القاهرة ومدن مصر الكبرى.
1. الرئيس عبد الناصر قبل اندلاع الثورة الجزائرية
كانت القاهرة مستقر النخبة للثورية الجزائرية، ومصدر إلهام لكل الشعوب العربية التي تسعى للاستقلال والحرية، وإن كانت مرحلة الملك فاروق بالنسبة للجزائريين تميزت بوضع لبنات قوية في صرح بناء مغرب عربي موحد، انطلاقاً من مساهمتهم في مكتب المغرب العربي إلى لجنة تحرير المغرب العربي؛ فإن مصر الثورة أكملت مشوار النضال وقدمت كل ما في وسعها لنصرة كل القضايا العربية ومنها قضية الجزائر، التي كانت تصل إلى كل العرب من المحيط إلى الخليج عن طريق إذاعة صوت العرب من القاهرة.
2 ـ تأييد مصر للحكومة الجزائرية المؤقتة
بمناسبة تأسيس الحكومة الجزائرية المؤقتة، لعبت مصر دوراً أساسياً في دفع أعضاء جامعة الدول العربية لتخصيص 12 مليار فرنك فرنسي قديم للثورة الجزائرية، وبقرار من الرئيس عبد الناصر نفسه خصصت مصر المداخيل الأولى من تأميم قناة السويس للكفاح الجزائري؛ هذه المبالغ التي وصلت إلى ثلاثة مليارات فرنك فرنسي قديم.
وكانت أهم مجالات التنسيق الدبلوماسي الجزائري تتم عن طريق مصر، ومعظم النشاطات السياسية والدبلوماسية لجبهة التحرير الوطني والحكومة الجزائرية المؤقتة انطلقت من القاهرة.
الرئيس عبد الناصر نفسه، أو عن طريق مستشاره الشخصي فتحي الديب، كان يشرف على عملية التأييد المعنوي والمادي للثورة الجزائرية، والتأكيد من تعميق قوة التضامن المصري مع الجزائر، بما فيها حتى حضوره الأسابيع الخاصة للتضامن مع الشعب الجزائري، والتي كانت تنظم دورياً عبر أنحاء التراب الوطني المصري، متضمنة جمع التبرعات المالية والتعبئة المعنوية والإعلامية، تنظمها وتنشطها القيادة المصرية وعلى رأسها الرئيس جمال عبد الناصر وتحت إشراف القيادة المصرية.
2. الإمداد بالسلاح:
قدرت أول شحنة سلاح من مصر بحوالي 8000 جنيه مصري، وتم تمريرها عن طريق ليبيا، وكانت أول صفقة سلاح من أوروبا الشرقية بتمويل مصري حوالي مليون دولار، ومعظم الأموال 75% التي كانت تقدمها جامعة الدول العربية للثورة الجزائرية والمقدرة 12 مليون جنيه سنوياً كانت تأتي من مصر، وأهم التدريبات العسكرية الفعالة لجيش التحرير الوطني خارج الجزائر كانت تتم بمصر.
كان التنسيق بين أحمد بن بلة وفتحي الديب مندوب المخابرات المصرية على مستوى عال جداً، للبحث في الوسائل والطرق التي تكفل توفير السلاح والذخائر للثوار الجزائريين. كانت الخطة المسطرة هي استعمال كل الطرق للحصول على الأسلحة، فكانت تشترى من المهربين الدوليين عن طريق مصر، وهم يقومون بعد ذلك بإيصالها إلى أماكن محددة داخل التراب الجزائري، وفي حالة فشل عملية من عمليات الشراء يتم تزويد الثوار بالأسلحة من مخازن الجيش المصري.
وكان الترتيب مع السلطات الليبية لمرور السلاح من خلالها إلى الجزائر على قدم وساق إلى جانب الطريق البحري، حيث كانت الأسلحة والمؤونة الحربية تصل إلى الجزائر باستعمال السفن المصرية من جهة، و استئجار سفن أجنبية من جهة أخرى إذا اقتضت الضرورة، وكانت عمليات إمداد جيش التحرير بالاسلحة في بداية الأمر تتم بواسطة السفن المصرية، إلا أن القيادة المصرية استبعدت قضية شحن السفن المصرية لما لها من تأثير سلبي على سمعة مصر إقليمياً ودولياً في حالة اكتشافها من طرف السلطات الاستعمارية، وفي مارس 1955م تم شحن «اليخت دينا» بالسلاح إلى المجاهدين الجزائريين بعد أن تم تأجيرها من طرف مصر.
ومن السفن الأجنبية التي اشتهرت بحمل السلاح إلى الثورة الجزائرية إلى جانب اليخت دينا هناك اليخت «نمو»، واليخت «جودهوب»، هذا الأخير هو الذي تمت بواسطته إيصال الأسلحة إلى الجبهة الغربية الجزائرية.
لم يتوقف الدعم العسكري المصري للجزائر بعد هذه الحادثة بل واصل المصريون عملية إمداد السلاح، وهو الأمر الذي دفع بفرنسا إلى المشاركة في العدوان الثلاثي على مصر، إلى جانب كل من مصر وإسرائيل، خاصة بعد إعلان الرئيس جمال عبد الناصر تأميم القناة.
تواصلت عمليات تهريب السلاح ولم تنقطع خلال ليبيا عن طريق التنسيق مع سلطاتها وبعض رجال الأعمال الليبيين الذين لهم خبرة في تهريب الأسلحة، وكللت هذه العمليات بوصول دفعة من الأسلحة استلمها المناضل علي مهساس في شهر فيفري 1957م، وأمّن وصولها إلى الولايات الشرقية بالجزائر.
4 ـ الانتصار المصري لثورة الجزائر في المحافل الدولية:
كان تأييد مصر للقضية الجزائرية ولكل مطالب جبهة التحرير الوطني كان مطلقاً ومتشدداً وبدون تحفظ، حتى لو تعلق الأمر بعلاقة مع دولة كبرى لها مصالح حيوية واستراتيجية معها مثل الاتحاد السوفيتي، ذلك ما عبر عنه الرئيس عبد الناصر في تحذيره إلى خروتشوف -الرئيس السوفيتي -من الانسياق وراء محاولات ديغول لإقناعه بزيارة حاسي مسعود، منطقة آبار بترولية جزائرية كبرى بالصحراء، لأن ذلك سوف يتسبب في هوة فاصلة بين الشعب السوفيتي والشعوب العربية.
أ ـ التدخل للإفراج عن المخطوفين الجزائريين:
جاء اختطاف زعماء الثورة الجزائرية أحمد بن بلة، محمد بوضياف، ومحمد خيضر، وحسين ايت أحمد، يوم 22 أكتوبر 1956م، وكان موقف مصر من القضية قوياً وسريعاً، حيث قامت وزارة الخارجية المصرية بإعلام كل السفارات العربية والأجنبية بملابسات القضية، وأخبرت الأمين العام للأمم المتحدة بذلك وطلبت منه التدخل للإفراج عن المختطفين الجزائريين، كما كلفت إذاعة صوت العرب بشن حملة دعائية كبيرة ضد فرنسا، والعمل على رفع معنويات المجاهدين.
وبأمر من جمال عبد الناصر كلف الملحق العسكري المصري في الرباط القيام باختطاف بعض الشخصيات الفرنسية بمراكش والاحتفاظ بهم كرهائن إلى غاية الإفراج عن المعتقلين الجزائريين.
ب ـ دور مصر في منظمة تضامن الشعوب الأفروـ آسيوية:
سياسياً ودبلوماسياً لعبت مصر دوراً هاماً في تدعيم مشاركة الجزائر في مؤتمر باندونغ «ماي 1955م»، كما كان لمصر دور فعال في تمكين الجزائريين من لعب دور مؤثر في منظمة تضامن الشعوب الأفروـ آسيوية منذ نشأتها بالقاهرة «ديسمبر 1957م».
ما يميز مؤتمر باندونغ، هو ليس تدويل القضية الجزائرية ومساندتها معنوياً فقط، بل أكثر من ذلك ،إلى درجة التزام أعضاء المؤتمر بتقديم المساعدة المادية لحرب التحرير الجزائرية، وتأكيد شرعية مطالب الشعب الجزائري وشرعية الوسائل المستعملة «العمل المسلح» من أجل الاستقلال والحرية، كان ذلك من بين التزامات الدول المشاركة في مؤتمر باندونغ، التي أكدت تقديم مساعداتها المحسوسة إلى الشعوب المكافحة من أجل استقلالها.
شكّل مؤتمر باندونغ «أفريل 1955م»، والذي جاء شهوراً قلائل بعد اندلاع ثورة نوفمبر «1954م»، أول فرصة واسعة لطرح القضية الجزائرية على المستوى الدولي، لم يؤكد المشاركون في المؤتمر فقط تأييدهم المعنوي للقضية الجزائرية دولياً، بل التزموا بالمساندة المادية لحرب التحرير الجزائرية.
إن مؤتمر الدول الأفروـ آسيوية يؤيد حقوق شعوب الجزائر والمغرب الأقصى وتونس في تقرير مصيرها بنفسها ونيل استقلالها.. وتلتزم بتقديم مساعدتها المحسوسة إلى الشعوب المكافحة من أجل استقلالها.
ج ـ مفاوضات مصر مع فرنسا:
مع تقهقر فرنسا على الصعيد العسكري وتغيير موازين القوى لصالح الثورة الجزائرية سياسياً؛ أدركت فرنسا قوة الدعم المصري للجزائر، لذا لجأت إلى الرئيس جمال عبد الناصر طالبة منه مساعدتها في إجراء مفاوضات مع جبهة التحرير الوطني، من خلال لقاء وزير خارجيتها كريستان بينو مع جمال عبد الناصر، الذي طلب من الوسيط الفرنسي أن تفضي المفاوضات إلى حل مشرف يضمن للجزائريين حقوقهم الكاملة في السيادة على أرضهم، شريطة أن تكون جبهة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للجزائريين. وجاءت مرحلة ديغول التي تميزت بتصريح رئيسها حول حق الجزائريين في تقرير مصيرهم، وإبداء رغبته في إجراء مفاوضات معهم، وكانت مصر سابقة في إعطاء رأيها حول عملية المفاوضات، حيث قام الأستاذ أحمد توفيق المدني بإجراء مشاورات مع ممثلي الدول العربية بالقاهرة، والاتصال بالرئيس جمال عبد الناصر الذي وافق على ذلك، شريطة أن تصب المفاوضات في قضية الاستقلال اللامشروط للشعب الجزائري.
ومع بداية مفاوضات إيفيان، أصدرت حكومة الجمهورية العربية المتحدة 20 ماي 1961م بياناً أكدت فيه مساندتها للحكومة الجزائرية المؤقتة في المفاوضات التي ستجرى مع الحكومة الفرنسية، والتي ترمي إلى الاعتراف للشعب الجزائري بحق تقرير المصير، حتى يتحصل على استقلاله وسيادته التامة ووحدة ترابه، وتؤكد الجمهورية العربية المتحدة أنها تعتبر الصحراء الجزائرية جزءاً لا يتجزأ من الوطن الجزائري يخضع إلى سيادة الشعب الجزائري كبقية تراب الوطن، كما أنها تساند المساندة التامة مواصلة الكفاح الوطني بجميع الطرق الناجعة حتى يتحصل الشعب الجزائري على حريته واستقلاله ووحدته بدون قيد أو شرط.
5 ـ دور مصر في الأمم المتحدة:
إن تدعيم وتأييد الشعب الجزائري في صراعه الوطني القومي والحضاري مع الاستعمار الفرنسي أصل مميز في الدبلوماسية المصرية وسياستها الخارجية، ذلك ما أكده الرئيس عبد الناصر دورياً في تعبئته لتدويل القضية الجزائرية، في خطابه في الدورة 15 للأمم المتحدة ذكر الجميع أنه:
ليس ما يخالجنا شك في أن الحرب الدائرة في الجزائر اليوم، والتي قدم لها الشعب الجزائري طواعية أرواح مليون من أبنائه حتى الآن ؛ لا يمكن أن تنتهي بغير انتصار الحرية، إن الأمم المتحدة اليوم ليتعين عليها أن تقوم بواجبها، ما أظن أننا نغالي إذا ما تقدمنا بطلب الشعب الجزائري في تقرير مصيره.. لا يمكن للحكومة الفرنسية أن تغير إرادة الله الذي جعل الجزائر قطعة من القارة الإفريقية وجعل شعبها جزءاً من الأمة العربية.
إن مصر بقيادتها التاريخية في تلك المرحلة تعدّ حليفة للثورة الجزائرية الأكثر فعالية والأكثر أهمية، فيما يتعلق بالدعم المادي والمعنوي والسلاح والعتاد والمواقف الداعمة دولياً للجزائر بدون حدود وبدون تحفظات.
ومع بداية مفاوضات إيفيان أكد الرئيس عبد الناصر دعمه للجزائر فقال: إننا نتجه بكل تأييدنا المادي والمعنوي بدون حدود وبدون تحفظات لنضعها في نصرة الجزائر في هذه المفاوضات، واثقين أن نتيجتها لابد أن تكون على مستوى التضحيات والأعمال البطولية للشعب الجزائري الذي خاض المعركة ليس ضد فرنسا وحدها بل ضد الحلف الأطلسي كله.
هكذا انتصرت مصر لثورة الأحرار في الجزائر، ووقفت قيادة وشعبًا بجانب الجزائريين في ثورتهم وحربهم المستعرة مع فرنسا ومن ورائها الغرب كله. ولم تترك حكومة مصر برئاسة عبد الناصر ميدانًا إلا ودافعت فيه عن حق الشعوب في الحرية والكرامة والاستقلال، وعلى رأسهم الشعب الجزائري حتى نال استقلاله عام 1962م.

مراجع المقال:
أحمد حلواني، موقف الشعب السوري من ثورة التحرير الجزائرية: خلفياته، وأشكاله، وطموحاته، ونتائجه)، دمشق، الجمعية العربية للعوم السياسية، ص. ص 1 – 14. 
إسماعيل دبش، السياسة العربية والمواقف الدولية.
مريم صغير، مواقف الدول العربية من القضية الجزائرية.
صالح فركوس، المحتصر في تاريخ الجزائر من عهد الفينيقيين إلى خروج الفرنسيين/ دار العلوم للنشر والتوزيع، عنابه، ص 261.
علي الصلابي/ كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي، بيوت، دار ابن كثير، ج3، ص. ص 638 – 652.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here