كمال العبدلي … الشاعر الذي يكسر المصباح بحثا عن الضوء

نبيل رومايا

منتدى الرافدين للثقافة والفنون
العنوان كتبه الشاعر خالد مطلك في كتاب “أقلام مهجرية” عن قصائد شاعرنا “المتأمل بين العين والنهر”، حيث قال عنه: “قادم من الغربة، التي يقع بيتها هناك في البعيد، وفي فمه سؤال دائم عن الانسان.. اين مضى.. ما الذي حل بتاريخه.. تحت أي سماء سوداء تصفق اجنحته المخذولة؟”
وكتب الشاعر العبدلي في قصيدته “تاج أنت يا عراق”
ليستْ جنائنك … يا بابل
هي المعلّقة
بل هيَ روحي المعلّقة
ها هو الشاعر كمال العبدلي الذي حمل عراقه في وجدانه وشعره بالرغم من سنوات الغربة والحنين في ملجئه الأمريكي.
كمال العبدلي الحالم الهادئ كان باستضافة منتدى الرافدين للثقافة والفنون في ولاية مشيكان الامريكية يوم الاربعاء 25 نيسان 2018، في أمسية احتفائية بمناسبة صدور ديوانه “أيتها النائمة في رحم ما” عن دار الجواهري للنشر والتوزيع. والشاعر العبدلي عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وعضو اتحاد الكتاب العرب.
افتتح الحفل التكريمي السيد خيون التميمي مرحبا بالحضور والشاعر كمال العبدلي، ومرحبا بالضيوف من الشعراء والكتاب والناقدين.
قدم الدكتور عزيز التميمي مقاربة نقدية جميلة في تجربة الشاعر كمال العبدلي ملقيا اضواء خافتة على نتاج غزير وتاريخ حافل بالإنتاج والعطاء، (تجدونها منشورة في نهاية التقرير، وفي اماكن أخرى).
وشارك في الأمسية الشاعر صادق العلي والذي قدم رسالة الشاعر الناقد د حاتم الصكَر والذي أرسلها بمناسبة تقييم شاعرنا بعنوان “قِراءة أولى للمُنجَزِ الشِعري للشاعر كمال العبدلي: قصيدة السؤال والحزن الإنساني”. (تجدونها في نهاية التقرير أيضا، وفي أماكن اخرى).
شاركت الشاعرة اللبنانية فاطمة هاشم في الأمسية مقدمة قصائد بالشعر الشعبي اللبناني الجميل.
شارك في الأمسية أيضا الشاعرة السورية أباء إسماعيل والتي قرأت قصيدة “أيتها النائمة في رحم ما” من ديوان الشاعر كمال العبدلي بنفس الاسم.
اعتلى الشاعر كمال العبدلي المنصة شاكرا الحضور ومقدما قراءات من دواوينه واشعاره.
من إغواءاتُ الماوراء
حزن
إنْ كنتُ حزيناً
فذلك لأني..
أختزنُ الفرح المؤجل على الدوام.
——
من تقاسيم على وترِ الحروف
تراجعت النحلةُ
فانقطعَ العسل
تراجعت الشمسُ
فانقطعَ الضوء
تراجعت الاثداءُ
فانقطعَ الحليب
تراجَعتِ.. فانقطعتُ..
نزيفَ ضوء
—–
وطبعا رائعته بغدادُ لوحةُ الوجود
بغدادُ كم تلاونتْ
صفحاتُكِ الجُلّى
على لوحة الوجود
فَلَم تقـتصِري
بمجدِكِ مجمَعَ البساتين
ولا بخريرِ السواقي انتظمَتْ
قيعانَ أشجارِها الناطِقة
بإفصاحِ الثِمار..
يُغنّي سِحرَها.. رشدي العامل
(تجدونها كاملة في نهاية التقرير، وفي أماكن اخرى).
—–
شارك في الأمسية التكريمية الفنان الشاب خضر العواد في مقاطع موسيقية عراقية على العود اغنت الحفل واضفت عليه بعدا تراثيا جميلا.
في نهاية الأمسية جرى توقيع كتابين للشاعر كمال العبدلي وهما ” أيتها النائمة في رحم ما” و “المتأمل بين العين والنهر”.
حضر الامسية تجمع ثقافي متميز من محبي الشعر والثقافة عراقي وعربي.

منتدى الرافدين للثقافة والفنون
نيسان 2018
————–
مقاربة نقدية
في تجربة الشاعر كمال العبدلي
د عزيز التميمي
الحديث عن تجربة الشاعر كمال العبدلي يعني الخوض في الحداثة الشعرية، وما تعنيه قصيدة النثر في مصطلح الحداثة الشعرية. والمتتبع لحكاية النشأة والتطور لهذا الوليد الشعري الذي تمرد إن صح التعبير على القولبة العروضية التي رسمت المشهد التعريفي للقصيدة العربية لقرون طويلة. بل تجاوزت هذه الهيمنة للحدود المعرفية للقصيدة ونفذت إلى الإحداثيات السلوكية والنفسية للبنية المجتمعية، وصارت تتمازج مع تعريف مفاهيم الخير والشر وملامح الشخصية وغرائزها. وبعد هذا التجذر والتناسل العروضي في ذاكرة تعتاش الملحمة والأسطورة والخرافة والإرث الديني، حضرت قصيدة النثر، لتطرح الأسئلة من جديد. ومن هنا بدأت المكابدة بين جيل يؤمن بالعروض ويؤمن بالتغيير والتجديد وبين جيل لا يرى في التجديد جدوى، وللحقيقة لم يكن المنحى التجديدي محلي النشأة بل كان تماهيا مع موجات الحداثة الغربية، وهذا لا يعد عيباً فقراءة التجارب الحداثية واستشفاف روحها ريادة بحد ذاتها.
قصده النثر التي اجتذبت الشاعر كمال العبدلي إلى حقولها تمخّصت عن نص يتناغم مع طروحات الحداثة ويسمو بها إلى مناطق معرفية وكونية غيّرت كثيراً في النص الشعري، بل أثّرت كثيراً في اشتغالات أجناس أدبية أخرى كالرواية والقصة والمسرح في الأدب العربي. لم تكن كتابة الشعر بطريقة النثر سهلة كما يتخيلها البعض، بل هي مكابدة فلسفية قبل أن تكون مغامرة لغوية، يقول بورخس في كتابه (صنعة الشعر) لقد بدأت بالاعتقاد أن الشعر الحر او الشعر المنثور هو أسهل من الأشكال المقيدة إلى قواعد وقوالب قديمة ثابتة، وأنا اليوم شبه متأكد من أن بيت الشعر الحر أصعب بكثير من الأشكال الموزونة والكلاسيكية التقليدية.
الشاعر كمال العبدلي ساهم وبشكل كبير في تدوين المنجز الشعري ضمن مساحات قصيدة النثر في العراق تحديداً وكان متفاعلاً مع طروحات الأسماء المبدعة التي تبنّت هذا الاتجاه، مثل سركون بولص وفاضل العزاوي، وطبعاً لا ننسى الشاعر حسين مردان الذي وصفه الكثير من النقاد على أنه من الرواد المؤسسين لهذا النص المسمى بقصيدة النثر، وشخص الشاعر حسن سلمان لحضور إسم حسين مردان كاول من كثب قصيدة نثر تحت مسمى (النثر المركّز).
لم يكن كمال العبدلي مهتماً بفكرة الاجيال الشعرية التي مورست قسراً في تاريخ الشعر العراقي، بل يرى القصيدة كأنها دفق مستمر يجايل فكرة الوجود والإنسان والحب. كان مستفزاً ومتأملاً حاذقاً في سبعينيات القرن الماضي، ومنشغلاً في معترك الإبداع في العقد الثمانيني، لم يدع الزمن يغلفه في المحن اللاحقة، انحاز لقضية الإنسان وكان متشائماً أزاء ما يتعرض له الوطن والحياة في بلاد الرافدين في العقود اللاحقة.

الملامح الفنية لقصيدة كمال العبدلي
المخيلة الجامحة:
قصيدة النثر تمحورت على طرح الرؤية الفلسفية ضمن مفهوم الصورة المجازية المؤثثة بأدوات مخيلة جامحة، القصيدة عند كمال العبدلي تؤسس مناخاتها وعمقها على دعائم مخيلة مترفة، مخيلة تتناسل فيها الصور والأمكنة والأزمنة ضمن حرية مفعمة بالتأويل، لا تؤمن بالحدود الآنية للكتابة، تخوض في الوجع المتوارب في حواضن التاريخ والجغرافية، هي هنا ضمن امكنة نعرفها وهناك في تخوم أساطير مؤولة لنا في ذاكرة جمع من العراّفين والخونة وربما أدعياء وكذّابين.
اللغة المرهفة:
اللغة هي شفرة الإيصالية بالمفهوم الفسلجي، اللغة هي النسيج المتشكل في الذاكرة عقب عملية التأويل، لغة كمال العبدلي الشعرية مربكة أحياناً ولذيذة في أحيان أخرى، لغة شفافة تتشظى في الأسماع لا بدافع التعتيم بل محاولة تشكيل واستثارة، تحفز الركود لتبني التساؤل، تتوائم وكثرة الاستفهامات لتنتج الصورة الغنية بالمعنى، تتعالى عن رتابة الصياغة، تعترك في اختيار المفردة، لتؤكد نبل الهم الإنساني الذي تقاسي استجلائه.
نقاء الرمز:
الرمز في القصيدة دال معرفي يسهم في تأثيث الصورة الشعرية، والمتتبع لكتابات كمال العبدلي يكتشف رموزه، لم يتشدق برموز لا تنتمي إليه بل تفانى في صياغة رموزه التي تعرّف مساحات الوجع في مفهومه، تناول الوطن كرمز للانا الذاتية للكون، عرّف المرأة في كتاباته بيت كنهوتي مليء بالأسرارـ أيتها النائمة في رحم ما، المكان رمز وجودي في جملته الشعرية، والزمن رمز أزلي للتجدد، فكانت القصيدة في مفهومه رمز متشعب ذو جذور وانسجة بأديم ذاكرة متوقدة.
ثراء الصورة المجازية:
الصورة المجازية تشكل ركنا أساسيا لفلسفة قصيدة النثر، وعدّها الكثير من القرّاء والمهتمين بالشهر الحديث على أنها القارب السحري الذي يبحر بشذرات القصيدة إلى ضفاف التلقي، بعض النقّاد يعتقد بنوعية قصيدة النثر من خلال متانة صورها المجازية، لماذا؟ لأنها ببساطة تروض جموح الخيال الشعري المتفلت وتحيله إلى نسيج أنيق يلامس ضجر الذاكرة. ثقافة الشاعر وتراكمه المعرفي له دور كبير في تخطي معضلة بناء الصورة المجازية في القصيدة ، كمال العبدلي كان حذرا في التعامل مع الكيانات المجازية في كتاباته فكان يعتمد المرجعيات التاريخية والميثيولوجيا وحتى التراكم التقاليدي المجتمعي في تحري البنى الدقيقة التي تساهم في نسج الصورة، حتى لا تسجل هذه الصورة الغرائبية في ذهنية المتلقي، فنجد النهر يحضر بتسمياته التأريخية التي تحفل بها أمكنة جرياته لا بماهية النهر المعرفية، فالنهر في البصرة غير النهر في روما والنهر في كتابات بابلو نيرودا غير النهر في كتابات كمال العبدلي.

البعد الوجودي:
ربما يتساءل الكثير منا عن ماهية البعد الوجودي في الأدب والشعر، البعد الوجودي عامل حاسم في تشكيل التوجه الفلسفي للكتابة الشعرية تحديدا، حينما تكون القناعات الوجودية للشاعر متشكلة ضمن إحساسه الشعري ستساهم بشكل او بآخر في توجيه الجملة الشعرية. ومن خلال تواصلنا مع القصيدة عند كمال العبدلي نجد ان القصيدة عنده تنحو لتأسيس خطاب إنساني داعم لفلسفة الحياة المبررة، الحياة التي استحكمت أسئلتها وتجاوزت مفهوم البحث عن الأجوبة، الحب في قصيدة كمال العبدلي حب عقائدي لا حب عبثي، حب مؤسس على دعائم وجودية مبرهنة لا رغبات حائرة، القصيدة لا تتسائل عن مبررات الأنا بقدر ما تنشغل بتساؤلات الحياة، الحياة الكائنة ضمن حدث الخلق المستساغ. لم نقرأ للعبدلي قصائد تروج لأسئلة حائرة، بل تأتي طروحات القصيدة من خلال حميمية لوجود مبرهن ومبرر. ويمكننا القول أن القصيدة لا تنشعل بأسئلة الوجود بل تتعامل مع الوجود كمنطق محسوم وتنزغ لتأثيث حركة الفعل الوجودي للإنسان.

مغامرة التجديد:
كان الشاعر كمال العبدلي مدركاً أن كتابة القصيدة بلغة نثرية تحتاج الكثير من العناء اللغوي والمعرفي، ولا تركن لمساحاتها المفتوحة التي تتيح للمخيلة الذهاب بعيداً في مسرحة الصور والمعاني، كان الشاعر يكتب بروح التجديد التي تطرح الكثير من الاستفهامات من خلال تحريك الجمل الشعرية ضمن انساق متحولة ترصد الإرهاصات النفسية للمتلقي، مستثمراً الخصائص الغنية للغة العربية وتشابكها مع الأرثي والمثيولوجي.

__________________

قِراءة أولى للمُنجَزِ الشِعري للشاعر كمال العبدلي:
قصيدة السؤال والحزن الإنساني
بقلم: د.حاتم الصكر

تنقلنا تجربةُ الشاعر كمال العبدلي إلى زمن العافيةِ الشعرية وازدهارها عبر مشروعات التحديث التي بدأها جيله الشعري، مستكملاً ثورةَ الروّاد في منتصف الأربعينيات للإنتقال بالقصيدة من التقليد إلى التفعيلة الحُرّة والبيتِ الشعريِّ المستجيب للدلالة وغرض الشاعر، وليس للنظم والهيجانات اللغويّة وافتعال التقفية وعلوِّ الموسيقى ووضوح المعاني الذي لا يدع مجالاً للقارئ باتّجاهِ التفكير بمغزى الشعر.
يمكن لنا تجييل العبدليّ ضمن جيل الستينيات الذي استكملَ المشروعَ الرياديَّ والذي نصِفهُ بـ (التجديد)، ونقله خطوةً أوسعَ صوبَ (التحديث)، وبين التجديد والتحديثِ اتّخذت تجربةُ العبدليّ مرجعيّتَها الشكليةَ والموضوعية.
وقد استوقفتني في حديثِ العبدليّ لمؤلِّفِ موسوعةِ (أقلام مَهجريّة) مسألتان، الأولى: تفريقُهُ بين القراءةِ البصريّة لقصيدة الحداثة، وبين الإستماعِ المنبريّ لقصيدة العمود، إذ يقول:(إنه يكتب قصيدةَ الحداثة ؛ لما تتيح لهُ من مدياتٍ مفتوحةٍ على الغوص في الذات وولوجِ الرؤيا وليس كما تفعل القصيدةُ العموديةُ التي تزيح المُخيَّلةَ لترتطم بالقافية..)، والمسألةُ الثانية تتعلق بالمزايا الشفهيّة التي يتنازل عنها شعراءُ الحداثة؛ لكونِها صوتيةً عابرةً وصَفَها العبدليُّ في حديثه أيضاً فقال: (القصيدةُ المنبريّةُ تتّسع لما ينتظمها من جرس الإيقاع، فيما تتطلب قصيدةُ الحداثةِ، القراءةَ البصريّة).
لا تحدّ كتابةَ العبدليِّ الشعريّةَ حدودٌ ولا يضعُ نفسَه في خانقٍ فنّيٍ أو جَمالي، فهو يكتبُ التفعيلةَ وقصيدةَ النثر وبحماسةٍ وحيويّةٍ تنعكس على نصوصِهِ قديمها وجديدها، فها هوَ يكتبُ القصائدَ القصار ذات الكثافةِ والتركيز ببراعة، تستثمرُ طاقاتِ هذا الشكلِ الجدّيّ، وأمثّل لذلك بنموذجٍ من مُبتكَرَةٍ له:
“لو لمْ تكُن للضياء
صورةٌ أخرى
لَما شاهدهُ الأعمى”
وبنموذجٍ آخر من ديوانه (المتأمّل بين العين والنهر) يتمثّل في قصيدة بعنوان (مسافات):
“كيف يُمكِن
أن أحسبَ للشمسِ
هذا البُعد
وهي تلامِسُ يدي وملابسي؟
وأنْ أحسب بُعدَ الموت
وهو جالسٌ على عتباتِ
كلِّ أبوابي؟
وأنْ أحسبَ لِحياتي
هذا القربَ
وهيَ أبعدُ ما تكون عنّي؟”
يلاحظ قارئ قصائد العبدليّ أنّه من ضِمنِ جيل الستينيات المهزوم بالنكبات والتعثّرات والخسائرِ التي انعكست على ذوات الشعراء خاصةً، وأنتجتْ هذا التمرّدَ والدورانَ حول الذات التي رأينا كيف يمجّدها العبدلي في حديثهِ ذاك وفي النموذجَين اللذين استشهدنا بهما.ويُلفتُ نظرَ القارئ، الاستفهامُ بكثرةِ الأسئلة في شعر العبدلي، ليؤشِّرَ لنا ذلك بأنه مهمومٌ بالسؤال كنايةً عن عدم التيقّن ممّا في الحياة من مرتكَزاتٍ هزّتها العواصفُ والرياحُ العاتية التي أطّرتْ شِعرَ جيله. لا يعني ذلك أنّ الشاعرَ لا يضع للجمال والحبِّ والحياة مكاناً في شعرهِ، بل سنجدهُ حزيناً ومستفهِماً من أجل تلك القيم الغائبة التي يؤمن بها.
“إن كنتُ حزيناً
فذلك لأنّي
أختزنُ الفرحَ المؤجَّلَ على الدوام.”
هذا النَصّ بعنوان (حزُن)، وهو مثالٌ جيّد للتكثيف وللرَمز اللذَين يتّسمُ بهما نصُّ العبدلي على المستوى الفنّي والأداء.
وفي ديوانه الأحدث صدوراً (أيتها النائمة في رحمٍ ما) 2016 نجد تلازم البنية الشعرية لديه بشكل اكثر مما سبقت له كتابته. العبدلي هنا مطمئن إلى الشكل الذي اختاره، وهو قصيدة النثر بما تتّسع له مساحتُها من الأسئلة والفكر والخيال، بلا قيد خارجي يحدّ من قوّة دلالاتِها وصورها وأخيلتها، ولا يلغي جماليّاتِ اللغة التي تحتفظ بحيويتها وفاعليتِها في قصيدة النثر.
اللمسةُ الإنسانية شديدةُ الوضوح في شعر العبدلي ما جعلَها سِمةً تبوح بها نصوصُها بلا استثناء. هذا الهمُّ الإنساني أوقفه عند مآسي الأبرياء والمُغتالين والمهمَّشين، كما أنّه لم يبخل بإنسانيتة حتى على المخلوقات الأخرى نباتاً وحيواناً.
تلك الإهتماماتُ الموضوعيّة يصوغها العبدلي صياغاتٍ تبدو بسيطةً مباشرةً للوهلة الأولى، لكنّها تُخفي دلالاتٍ عميقةً، ترتبط باستراتيجياتِ الخطاب الشعري، وليس بالنصوص ذاتها فحسب، وهذا ما لاحظه قبلي زملاؤه الشعراءُ الذين كتبوا عنه.
وحين يكون الوطنُ موضوعاً لقصيدة العبدلي، فإنَّ العراقَ يأتي بهيئة أخرى ليست هي التي تمثله كسَكَنٍ أو ذكرى قديمةٍ فحسب، فالمسافاتُ بين الشاعرِ ووطنهِ بسبب الإغتراب ليست كافيةً للنسيان أو الصمت إزاء ما يجري من أهوالٍ وأزماتٍ عاصفة، ولدينا شواهدُ من نصوصهِ تؤكّدُ ذلك، لعلّ أبرزَها دلالةً قصيدتُهُ (تاجٌ أنتَ ياعراق)، فهي أشبه بصرخة شوق وألم:
“من بعيد
كالمخنوق
أتلمّسُ بريقَ القباب الذهبية
المرفوعةِ فوق أضرحتِك المُقدَّسة
يا عراق.”
لقد تقابلت المسافةُ هنا بين المُغترَب والوطن، وجرى وصفُ الإختناق بعيداً عن القباب التي ترمزُ لحزنِ الوطن وجمالهِ معاً.
أمّا عن الماضي الحضاري للعراق فيقول العبدلي بكثافةٍ واقتصاد:
“ليست جنائنكِ ….يا بابل
هي المُعلَّقة
بل هي روحي المُعلَّقة.”
إنَّ القراءةَ النقديّةَ الفاحصةَ لشعرِ العبدلي ستتوفّر على دلالاتٍ مُعمَّقة رغم بساطة العبارةِ والبُعد عن التعقيدِ والغموض المُفرغ، وهو ما نراه يتراكم في نصوصٍ كثيرة تتوهّمُ الإنتماء للحداثة.

——————-
بغدادُ لوحةُ الوجود
شعر: كمال العبدلي

بغدادُ كم تلاونتْ
صفحاتُكِ الجُلّى
على لوحة الوجود
فَلَم تقـتصِري
بمجدِكِ مجمَعَ البساتين
ولا بخريرِ السواقي انتظمَتْ
قيعانَ أشجارِها الناطِقة
بإفصاحِ الثِمار..
يُغنّي سِحرَها.. رشدي العامل
ولا بسُكونِ الليل
يهدهِدُ الأزقّةَ والحارات..
يؤرِشِفها..غائب طعمة فرمان
تمنحين الساكِنين
عبَقاً مُتهافِتاً
من عطورِ الحنان
ينثُرُها.. يوسفُ العاني
تبقينَ على الشِفاهِ بسمةً
من هدهداتِ الأمّهات
يرسمُها.. جواد سليم
واختُصّتْ سماؤكِ الصافية
فوقَ انسيابِ المشاحيف
بعقودِ النجومِ الزاهرات
كما لو كانت فريدةً
عن بقايا السماوات
يصوغُها.. مظفّرُ النوّاب
ويجمعُ من برديِّ أهليها
عريانُ السيّد خلف
حِزَمَ المواويل
ومن وهج سنابلِ بابلكِ
ومن حروف المراثي
لزرقاءِ نجفكِ
يُشعلُ الأوجارَ في بيوتِ الحنان
بعزِّ البردِ للسارين
عبدُ الإلهِ الصائغ
تومئين..
بإشارات القبُلات
لجبالِ كردستان
يرتدي الصخرُ عليها
حريرَ الخُضرةِ المتماوجة
تظلِّلُ الأوديةَ الوديعةَ المترقرِقة
بمياهِ الينابيعِ الباردة
يصدحُ من أعلاها
صوتُ عبد الله كوران
رافعاً من نارِ كاوة الحدّاد
مشعلَ الحريّة
وتمضين قطاراً
على صدرهِ لافتةٌ
تلامعتْ حروفُها
(وطنٌ حُرٌّ وشعبٌ سعيد)
قطاراً يُقِلُّ الناجينَ من محارق الطغيان
يحدو به الجواهري
بل كنتِ مجمعَ البيانِ وسِحرَ الحروف
ونبضَ الفكرِ يشدّني
إليكِ من كلِّ عصَبٍ
منذُ الضجيجِ المُحيط
بالصحوِ في مفازاتِ الوجود
حتّى محَطِّ الرأسِ
قلقاً تهدّئ من رَوعِهِ
رسومُكِ السابحةُ على مرمى الرؤى
متجمِّعةً في محيطِ الوسادة
هل أنتِ يا بغداد بحرٌ
كلّما داهمتْهُ عاصفةٌ هوجاء
عادت مويجاتُهُ
موجةً تراقصُ أخرى؟
أم أنتِ مُختبَرُ الأمكنة
كلّما هبّتْ عليها عاصفةٌ غبراء
عادَ نسيمُها العليل
يُراقصُ أوراقَ الشجر
وجدائلَ الصبايا
وأجنحةَ الكناري؟
أم أنتِ مُزهرةُ البيت
والطريقُ المُفضي إلى مقاهي الأحبّة
وسط شارع القلب
والكأسُ التي تبادلها الأنخابَ
بناتُ الجمال؟
أم أنتِ ماسحةُ الحزنِ
عن وجوهِ الثكالى
كلّما خضَّبت الأرضَ دماءُ الشهداء؟
..من بعيد..
أبعدُ من هَولِ المسافات
أراكِ الفنارا
وها أحالت الغُربةُ مدَّ البصر
مدائنَ العصرِ في الغربِ قفارا
ولو حطّت قدمي على أرضِ القمر
لرأيتُكِ أنتِ أنتِ الفنارا
ويا أيّتها الأيدي احتضنتْ مَهدي
لن تمتدَّ أيادٍ تحنو عليه
إذا استقرَّ هذا الجسد
في عُمقِ لِحدي
سِرُّ بغدادَ أن تُباري العصورا
أبداً تسبقُ الثُريّا حضورا
هيَ والأحرُفُ انبثاقٌ وريقٌ
حيث ضمّتها في ثراها جذورا
تتراءى خلفَ الحروفِ عروساً
إن نظرتُ الحرفَ اجتباها نظيرا
أنتِ يا بغداد اشتُرِعْتِ بقاءً
وهْوَ من ركبِكِ استعارَ المسيرا
تنطوي صفحاتُ المُعاديكِ طيّاً
في وراءٍ وتزدهينَ عُبورا
كلّما شاكسَتْ مُضاكِ دهورٌ
رُحتِ سِفراً تؤدّبينَ الدهورا
بِسَنى الفِكرِ تغسلينَ دِماءً
قد تنزّتْ من الضحايا غُدورا
وكأنْ من سلسالِ فِكرِكِ عذباً
أبداً يروي في رُباهُ الزهورا
أيْ ويا سيمفونيّةَ النخلِ طارتْ
بجنانِ الدنيا ضحىً وسُحورا
كلّما فُكَّ عنكِ قيدُ حِصارٍ
أو طُغاةٍ فككْتِ خيراً وفيرا
بانتشاءٍ لكلّ حاضرَةٍ من
مُعصِراتٍ تترى مدَدتِ جسورا
إنْ تفارَقْنا فالرؤى مُلتقانا
والنَوى يُغشي العينَ زَوْغاً وزَوْرا
أعَموديٌّ نبضُ حَرفي، وشَوقي
لكِ عُشبٌ أحالني منثورا؟

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here