رفيق البعث (قصة قصيرة) ح1

“شعلة البعث صباحي … وجبين الشمس ساحي
فأشربي نيسان راحي … يا مصافح الجراح”
شعر : علي محمد , الحان: الياس رحباني
تعزف هذه الانشودة من على جهازنا المسجل , حالما تقترب دورية رفاق البعث الراجلة من مجلسنا مقابل بيت صديقي منذر , حيث اعتدنا الجلوس كل ليلة هناك , نستمع الى اذاعات ممنوعة , لكنا كنا نحتفظ بشريط مسجل عليه مجموعة من أناشيد البعث , فقد كنا على علم بجولات رفاق البعث ليلا وتسكعهم بين الشوارع , في تلك الليلة , كان جبر طسه وهو احد الفارين من الخدمة العسكرية في وضع لا يحسد عليه , دورية رفاق البعث هذه المرة امامه مباشرة , لا يمكنه الجري والهرب , فأن فعل لحقوه , لكنه توقف ليشاركنا الاستماع الى هذه الانشودة , وتظاهر بالاندماج مع الحانها وكلماتها , بدا منسجما تماما , في الجهة المقابلة كان سامح كوسج في وضع لا يحسد عليه أيضاً , كان يتوسط الطريق بين مجلسنا والدورية , هو الاخر كان مطلوبا في قضية أخرى , حاول تدبر أمره , وإلا سوف يلقى القبض عليه , أسرع نحونا , وتناول إبريق الماء وتظاهر بالشرب , ولم يعرهم أي إهتمام كأنه لم يرهم .
وصلت دورية رفاق البعث الراجلة , وقفوا ليلقوا نظرة , استمعوا الى الانشودة , تظاهرنا بالانسجام التام , لكني لمحت الرفيق ابو رضاب كان معهم هذه المرة , وكان يرقص بحماس , وألقى علينا التحية ( كيف حالكم شباب ؟ ) , نهضنا جميعا محيين إياه بترحاب حار , أحر ما نستطيع , فمروا بسلام , وظننا ان الامر قد أنتهى!.
سامح كوسج كان يمتلك قريحة شعرية شعبية , لكن سوقية جداُ , قرر ان يرد على هذا الانشودة بطريقته المعهودة , فأرتجز مع شيءٍ من الحركات الساخرة:
طغمة البعث طماطي … طوطو طيطي طوطو طاطي
يا منابع الض…ط … ومفاعل العف….ط
مداخلة سامح كوسج أشعلت الحماس في جبر طسه , فقام بالرقص بطريقة جنونية , وتناول صديقي راجح إبريق الماء , سكب ما فيه , وأخذ يطبل عليه , وأنضم اليه باقي الاصدقاء راقصين بحماس , لم أرقص , لكني فكرت أن أحسّن الكلام المضاد وأترفع عن السوقية فقلت :
ظلمة البعث تراح … من الرفيق علا النباح
ومن الشعب الصياح … هبت عظام الرياح
***
عشت ايها الوغد فينا … نقف حينا ونحبو حينا
لن تميت الحب فينا … لن يكون المجد طينا
***
دورنا دور ريادي … فإذا نادى المنادي
أنتم يا شباب عمادي … هيّا قوموا للجهاد
***
الحب شأنٌ إستباقِ … نظرةٌ ثم لقاءِ
فإذا حـــــان التلاقِ … هاج حنين أعماقي
أحدثنا ضجة كبيرة في الشارع , كانت الاصوات الصادرة منا مرتفعة جداً , الامر الذي جلب إنتباه الاطفال وتجمهروا حولنا مصفقين , وتوقف بعض المارّة متفرجين ساخرين , لا منا بل من الرفاق ودورياتهم , لم نفكر إننا قد أزعجنا أحد ما , لكن .. كان أبو صديقي منذر نائماً فوق سطح منزله , عندما سمع الضجة التي احدثناها , وصوت جهاز التسجيل المرتفع , حقيقة لم يستطع النوم , فكلمنا بغضب من فوق جدار البيت متوعدا : (ما هذا الهراء؟, ماذا تفعلون؟ … سوف ألقنكم درسا لن تنسوه .. فقط انتظروني .. أذهبوا وراجعوا دروسكم بدلا من هذه التفاهات) , كان غاضباً جداً , أهملنا موضوعه بادئ الامر , لكن عندما خرج من بيته وبيده عصاً غليظة , فضلنا الفرار جميعاً .. والتفرق.
لاحظت ان صديقي منذر كان من الهاربين معنا , استوقفته مستفهماً (لماذا تهرب أنت؟ والى أين؟ ) , قال أنه لن يعود الى البيت حتى تهدأ ثورة أباه , فتسكعنا في الشوارع قليلاً , ثم قرر العودة , كان الباب مغلقاً من الداخل , فطلب مني مساعدته بتسلق سور المنزل الخلفي , لم امانع , كان خلف المنزل مظلماً تماماً , شبكت كفاي مع بعضهما ووضعه قدمه اليمنى محاولاً تسلق السور , أثناء ذلك , سمعنا أصواتاً من خلفنا جاءت من الظلام الدامس :
– قف !.
– قفوا أيها اللصوص !.
توقفنا , والتفتنا الى جهة الصوت , فإذا برفاق البعث يحيطون بنا من كل جانب , فبادرتهم الرد :
– لسنا لصوص !.
– ماذا إذاً ؟.
– أحاول أن اساعد صديقي منذر كي يدخل منزله .
– ولماذا يتسلق السور ؟ … أليس حرياً به الدخول من الباب.
لم أعرف ما سوف أقول , لكن جاءتني فكرة جيدة , أو هكذا بدت , نخزت منذر على بطنه , فهم معنى الاشارة , كنا متفاهمين جداً , فتظاهر بالسكر , فقال لي :
– اين أخفيت الزجاجة ؟ .
– أي زجاجة يا سكران ! .
– زجاجة العرق .. أحب العرق .
– اها .. ما جرى لك .. الم أخبرك بأني ألقيتها في الحديقة .. حديقة بيتكم .
– حسناً .. سوف أتسلق السور وأدخل الحديقة وابحث عنها .. لكن من هؤلاء الذين يمنعوننا؟ .
– هؤلاء ثلة من مناضلي حزب البعث العربي الاشتراكي .
– هل لديهم مزة ؟ .
– كلا انهم في الواجب .. لا يحملون المزة في الواجب .
– حسناً .. أطلب منهم أن يحملوني فوق السور .. فأنت سكران مثلي لا تقوى على حملي .
– بالتأكيد .. سوف يفعلون ! .
نظرت أليهم بابتسامة , فبادروا الى حمل منذر فوق السور , ما ان رفعوه , بدا ان هناك ايادي خفية تلقفته من داخل الحديقة , لقد كان ابا منذر , ولقد سمع حوارنا مع رفاق البعث , ويبدو أنه صدًق ان منذر كان سكراناً :
– أتشرب العرق يا ولدي ؟!.
– كلا .. كلا .. يا ابي .. دعني أشرح لك الموضع .
– أي موضوع يا شقي !.
– ومن كان هؤلاء الذين معكم؟.
– أنهم مناضلي حزب البعث العربي الاشتراكي.
– تباً لك ولهم .. جميعهم (دنكلون فوق الزنكون).
ثم سحل منذر وأدخله داخل البيت , بعد مرور ثوانٍ , سمعنا صراخ منذر يكاد يهشم زجاج النوافذ .
بما أني سكران , بدا ليّ انه يمكنني ان امازح رفاق البعث فقلت:
– سمعتم أبا منذر يقول واصفاً إياكم جميعكم (دنكلون فوق الزنكون).
لم يجب احدهم , هربوا جميعاً , لقد كان أبو منذر أكثر الناس معرفة بسكان المنطقة , يعرف تاريخ كل صغير وكبير فيها , حقاً لا أعرف ما تعني عبارته (دنكلون فوق الزنكون) , وما يقصد فيها , إلا إني سوف أسأله عن معناها يوماً ما , ثم أقفلت عائداً الى منزلي.
في الليلة التالية , جلسنا جلستنا المعتادة , لم يكن هناك أي حدث يذكر , نفسه الروتين المسيطر على الحال , دوريات رفاق البعث الراجلة هي هي نفسها تجوب الشوارع , كالكلاب السائبة .. المسعورة , يعترضون طريق كل من هب ودب , ألا انهم لم يعترضونا لأنهم يعرفون إننا جميعا طلاب في المعهد , لكن هذه المرة وقبل ان تنتهي جلستنا الروتينية بنصف ساعة , جاء الرفيق ابو رضاب , ألقى علينا التحية وجلس معنا , لم يكن مرحباً به بيننا , الا اننا تظاهرنا بالترحاب , وتبادلنا بعض النظرات , كوننا متفاهمين مع بعضنا البعض , حُكنا مؤامرة عليه بالنظرات فقط , ولعلمنا انه غبي ولا يفهم شيئاً , قررنا مناقشة بعض النظريات التي لا وجود لها في أي مكتبة من مكتبات العالم الا في جلستنا تلك , بادرت بدوري الى النظرية الاولى :
– يقول سلفاسيوس : إذا سرى تيار كهربائي في بركة ماء تحول الى قطب سالب…
لم أكمل كلامي بعد , حقيقة كنت محتاجة الى مداخلة ومقاطعة , فبادر منذر للتوريه :
– لا .. لا سلفاسيوس غبي .. ونظرياته جميعها ضربت عرض الجدار.
فبادرت الى الجواب:
– نعم .. الامر كذلك .. لكن لا بأس بها للاطلاع! .
كان الرفيق ابو رضاب يقلب سيكارته يميناً ويساراً , بدا عليه انه لم يفهم شيئاً من المواضيع المطروحة أمامه , لكنه بكبرياء يحاول التظاهر بالفهم والاستيعاب التام , تارة يقطب حاجبيه ويرفع رأسه ليحدق في السماء , وتارة يصدر بعض الاصوات موافقاً لنا إذا كنا موافقين , ويبتسم حين نبتسم , ويعترض إذا كان الاكثرية معترضين , ويحك قفاه بين الحين والاخر , بدا أنه وقع في ورطة ويريد الخلاص , فجاءه الفرج سريعا , حين قدم أبنه منادياً بسذاجة الاطفال ( ابي .. أمي تريدك!) , فأسرع الى النهوض وودعنا بابتسامة عريضة قائلاً (الحديث معكم ممتع !).
***يتبع

حيدر الحدراوي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here