من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر في بغداد رواية /الفصل الثامن

ذياب فهد الطائي

الفصل الثامن
المثابرة و النجاح توأمان، الأولى مسألة نوعية و الثاني مسألة وقت
ماربل مورغان

وجدت إن من اللياقة ان أودع زملائي في مقهى خليف الزاير ، وان أطلب من ابي برنيطة ان يعتذر نيابة عني من الشيخ صالح،
سألته من يكون الشخص الذي كان يصحب الشيخ ،قال انه من فريق الحماية ،ربما لم تلحظ انه كان يحمل مسدسا ، مثل إبن سامية الحفافة بحماية الفريق أبو حسان ، حين قلت له أنا لا أعرف ابن الحفافة ولا الفريق أبو حسان ،قال الحفافة ماتت وابنها هرب الى كردستان ويعمل في مطعم للشيخ خالد ، الفريق أبو حسان كان أ حد ابطال قادسية صدام ،نحن كنا صغارا حين بدأت الحرب العراقية الايرانية ، قال لي صديق انه شاهده في الشارقة،
قلت-هذا التاريخ لايعنيني وانا جئت لتحمل عني رسالة اعتذار،غدا سالتحق بدراسة اللغة الانكليزية ,
بدت عليه الدهشة ،قال ربما يزعل الشيخ وهو عادة بطيء في الفهم ولكنه سريع الغضب ، قد يعرقل قبولك بالجامعة ،قلت ليس الامر بهذه البساطة ،قال انك لم تتعلم الدرس بعد ، قلت له في الجبهة تعلمت الكثير من الدروس ، هل ستوصل رسالتي أم أكلف شخصا آخر ،قال ساوصلها وذنبك على جنبك .
ودعت الجميع ،كان خليف الزاير ينظر إليّ بعطف وكأنه يتوقع ان أواجه أياما عصيبة ، أما عادل الاسترتيجي فقد قال بنبرة جافة وبصوت هامس ،سترى انك الرابح في النهاية ،قلت ولكنا لسنا في مباراة قال ،سنرى … الى اللقاء ياصديقي …ربما سنفتح صفا لتدريس اللغة الانكليزية !.
شعرت وانا أغادرمقهى خليف الزاير إني وضعت نفسي في مواجهة حقيقية، داخلني ارتباك فيما يتعلق بخططي ودعوت الله ان يساعدني ،لم تكن الصورة وردية وانا أعيد حساباتي، ولكني رغم ذلك قررت المضي بمخططي ،الماجستير وشيماء ،علي ان أحصل عليهما لأبني مستقبلي.
كانت امي تلملم حاجياتها بعد إن أغلقت التنور ، قالت كيف سارت أمورك ،قلت لا بأس .
أبي يجلس الى التلفاز يتابع مسلسلا سوريا ويبدو منفعلا مع بطولة (ابو عنتر) وتومض عيناه حين تظهر ممثلة برداء شفاف واكتاف عارية ،كان قدح الشاي مملوءا لم يباشر بشربه وقد برد تماما ،قالت أمي عجوز ومشلول وروحه خضرة!
لم يكن منتبها لما تقوله ،
سيارة بيضاء وقفت عند الباب ،خرجت أمي مسرعة ،
-هل شاكر في البيت
-نعم
صوتها فقد صلابته ،نبرة خوف غامض أصدرته حنجرتها ،
خرجت مسرعا فيما وقفت شيماء ،أبي يتابع المسلسل السوري
-تفضل معنا
-هل أعرف من انتم والى اين ساذهب ؟
كان الذي يتحدث معي شابا قصير القامة اسمر البشرة مع تقاطيع خشنة ،لم يكن يضع شيئا على رأسه بتسريحته التي شاعت بين الشباب ،الشعر في منتصف الرأس أما الجانبان فقط تمت حلاقتهما،
داخل السيارة ،في المقعد الخلفي فتى ربما في السادسة عشر بيدة بندقية كلاشنكوف مركونة الى جانبه .
-لن نتاخر ،الشيخ صالح يرسل لك تحياته ويرغب ان يتحدث معك
امي واقفة عند الباب ،قالت سآتي معه ، قال الشاب …هذا كلام رجال ،عيب أن تحضري ياخالة .
حين وقفت شيماء في مدخل غرفة الضيافة ،توجه بنظره اليها ،خمّنت انه سينقل معلومة قد تهم الشيخ صالح ،فقد بدا في نظرته فضول ،وشعرت انه يعاني من عسر الهضم فقد تقلص وجهه ولكنه يغالب الالم ،ربما تناول في دعوة الأمس مع الشيخ صالح لحما كثيرا ، وربما كان الرز يحتوي على إلية الخروف الذي كان يتمدد بعرض مغر فوق صينية الرز الذي تفوح منه رائحة السمن البلدي.
صعدت الى السيارة لأجلس جنب السائق الذي قفز على عجل ،قبل ان يتحرك فتح مسجلا كان امامه مثبتا في الواجهة ،بدأ صوت حزين مملوء بالشجن يتحدث عن مقتل مسلم بن عقيل في الكوفة ،تذكرت اني زرت المدينة وصليت في مسجدها الكبير ،قال السائق الجميع قتلوا،قلت القتل في العراق منذ سرجون ،قال باستغراب ..من ؟ قلت سرجون الذي حكم العراق ايام الاكديين ،قال لا أعرفه ،قلت والاكديين، التفت نحوي في عينيه شك باني أستغفله ،لا اعرفهم …أعرف حمورابي الذي كان يردد اسمه معلم التاريخ في الصف الخامس الابتدائي ،قلت وهل اكملت الابتدائية ، قال لا تركت المدرسة لاشتغل في مخبز الحاج سالم ، قلت لا اعرفه…قال الحاج سالم ابو نوريه …قلت ولا اعرف نورية أيضا …بدا كمن أسقط في يده ، تتملكه حيرة ، كيف يعّرفني بمخبز الحاج سالم !
قلت – الى أين نذهب
قال –الى البلديات حيث مقر الشيخ صالح
الدار التي وقفنا عندها كانت على تقاطع شارعين تتكون من طابقين ،في الواجهة حديقة يتقدمها سياج متوسط الارتفاع وعلى امتداده شجيرات ليمون ورارنج وفي النهاية ثلاث نخلات ما زلن في طور النمو بارتفاع متر ونصف وواضح انها تتلقى عناية ووفرة في المياه، كانت خضرتها داكنة والسعف الذي بدأيتجاوز السياج يلمع مزهوا ،البلكون الممتد على طول الواجهة الأمامية لا يبدو ان أحدا يستخدمه فقد كان السياج الحديدي بشبكته الزرقاء مكسوا بطبقة من الغبار ،كما لم أشاهد كرسيا او منضدة هناك ،الباب الحديدي للسياج كان مفتوحا والباب الخشبي الداخلي كان منقوشا بمسامير ذات رؤوس عريضة ربما يبلغ عرض قطرها أربعة سنتمرات ،تقول امي اني مولع بالتفاصيل ،هذا صحيح وقد علمتني اياه حينما كانت تصر ان أسرد عليه ما جرى لي حين أعود من المدرسة،
-أدخل
قال الشاب وهو يعود من الداخل ،نزل الصبي ببندقيته التي وضعها على صدره باستهانة ، فكرت لو ان العريف أبو محبس راه لأجبره على الزحف طوال النهار في ساحة العرضات الترابية .
الغرفة صغيرة مفروشة بسجادة غطت أرضيتها ولا يوجد فيها كرسي ،على امتداد الجدران كانت وسائد بالوان متنوعة ،
أجلس ،قال الشاب …سيحضر الشيخ بعد قليل فلديه ضيوف في الغرفة الثانية ، جدران الغرفة العارية مدهونة باللون الابيض ، في السقف وفي وسطه بالتحديد كان سلك كهربائي يتدلى بنهايته مصباح كهربائي ،في الزاويه الشمالية مروحة موضوعة على منضدة خشبية تم تغطيتها بشرشف بني ،قبل ان أدخل الغرفة اخذوا الهاتف النقال ،مرّ الوقت بطيئا وثقيلا ،بدأ احساسي بالخطورة يتزايد ،جلست على السجادة مسندا ظهري الى الحائط ، كلفني ذلك جهدا ومشقة ابعدتني عن الافكار المرعبة التي بدأت تتملكني ،لم اكن اعرف اني سأواجه مثل هذا الموقف ،كان امامي خياران….المكتبة التي اقترحتها أمي أ والعودة الى الدراسة التي اخترتها انا.
بدأ المساء ، ظلال كثيفة تتمدد في الغرفة ، ارتفع صوت أذان من التلفاز في الغرفة المجاورة ، شخص ما رفع درجة الصوت ، لم يطلب مني احد أن أتوضأ ، لم أكن أصلي ولكن من باب المشاركة، بعد دقائق خرج الشيخ وهو عاري الرأس وبصحبته ثلاثة اشخاص ودعهم عند الباب الرئيس ،دخل الغرفة ومد يده ليشعل مصباح الإضاءة الكهربائي،
-لماذا تجلس في الظلمة …..اعذرني فقد كنت مشغولا
-لا باس اقدر ذلك.
دعاني ان أصحبه الى الغرفة الثانية .
كانت معدّة جيدا ، كراس مريحة وسجادة حمراء تغطي أرضية الغرفة، عند الزاوية اليمنى في نهاية الغرفة منضدة صغيرة عليها فازة زرقاء رسم عليها شخص بملابس جبلية وقلنسوة سوداء ،الشخص على الفازة يتطلع بنظرات حادة وكأنه يعلن أنه القائد العام لمقاتلي كازخستان ! .
جلس الشيخ ،تقدم شاب في العشرينات بحزامه مسدس بغلاف جلدي اسود، يحمل قدحين كبيرين من الشاي.
قال الشيخ-حينما اخترناك للعمل في الحملة الانتخابية ،كان ذلك بناء على تقصّي عن شخصيتك وهو الى ذلك تكريم لك ،
صوت هادئ ولكنه صلب وخيل لي انه بلا رنين أوصدى حتى لو صرخ به بين الجبال في كردستان،
-ولكني لم أرفض لأني لا أرغب بالتعاون معكم ،الدراسة لن تترك وقتا اضافيا
– الحملة الانتخابية شهرا واحدا وقد يمتد عملك الى الاشتراك في عملية المراقبة وهي بضعة أيام …تعود الى الجامعة،
-لم يخطر هذا في بالي
-هل اعتبر هذا الجواب موافقة
لم يعد الامر مطروحا كخيار ، أصبح واجب التنفيد ،
وأنا أعود الى البيت بسيارة الشيخ ،كنت مجهدا.
كانت امي تجلس على كومة الحطب والى جانها كانت شيماء وأختها الصغرى،نظرات امي تتفحصني بعناية لتتأكد أني لم أصب بسوء،
قالت- شيماء ماذا حصل ؟
-لا شيء لقد وافقت ان أقود الحملة الدعائية لهم بدرجة (خروف).
-متى ؟ قالت أمي التي لم تنتبه الى السخرية في جوابي،في حين ابتسمت شيماء وقطبت اختها جبينها ،
-بعد ان انهي دورة في الموضوع لمدة اسبوعين.
قالت أختها إن عليها ان تغادر فقد تاخر الوقت وأمهما وحدها في البيت ،قالت شيماء وانا ايضا فقد طمأننا رجوعك سالما ، قالت امي لماذا لا تحضر ام شيماء ونتعشى سوية ، شكرت أمي في سري ،انا بحاجة ان أتحدث مع شيماء حتى عن مسائل الاحصاء ، فمجرد سماع صوتها او وجودها يشيع في نفسي شعورا جميلا بالغبطة .
فهمت شيماء الدعوة فيما ابتسمت أختها الصغرى ،حين ذهبتا قالت أمي أحسد مجمان على البنتين ، كم ساكون سعيدة لو كانت شيماء من قسمتك .
رغم سروري بحديث امي إلا اني افتعلت ما يشير الى عدم رغبتي به ،
قلت لها –لا تتعجلي فأنا مازلت في مفترق طرق كلها مفتوحة ولكني لا ادري أيها سيكون مستقري ، بعض الأمور لانقررها نحن رغم رغبتنا وانما الاحداث هي التي تصنعها بما تتمخض عنه من نتائج.
لم يبدو على أمي انها فهمت ما أريد بيانه ولكنها هزت رأسها موافقة ،قالت اخت شيماء الصغرى ان أمها تعتذر عن الحضور فقد جاء أبوهم من البصرة ،سلمت امي كيسا ورقيا، فستق إيراني أرسله الوالد ،
أبي يغفو على كرسيه ،أمي أمام صنوق الشاي الاسود ، طيف شيماء يملأ الغرفة ، اشم عطرها واسمع تردد انفاسها ،على يدي مايزال ملمس يدها نديا .
على سريري كنت أحدق بسقف الغرفة ،التي أشاع فيها الظلام المختلط بنور مصباح صغير معلق عند الباب ،لونا أشهبا باهتا ،بدى اللون الذي كان يملأ غرفتي كل ليلة ،شاعريا ، يمكن أن أتواصل عبره مع شيماء ، تقف عند الباب تشع عيناها غيمة عذوبة ،تكاثفت الظلال بخليط من الوان هادئة تنتشر في مساحات لا متناهية ،أخذتني الى نعاس مسكر .
*****
أقيمت الدورة في واحد من البيوت التي سبق إن تم الاستيلاء عليها ،المدخل الذي يقودنا الى باب البناية مرصوف بمرمر رصاصي لامع وعلى الجانبين حديقة بعشب ريّان يتمتع بخضرة زاهية ،على أركان كل جهة شتلات من الجوري بألوان متنوعة طغى عليها ثلاثة الوان هي الاحمر والاصفر والابيض ،لم تكن هناك اية شجيرات ،ثلاث نخلات فقط تقف متباعدة ،يبدو انها زرعت في وقت واحد فهي متماثلة في الطول ،قال احد المتدربين انها نخلات برحي ،المدخل ترتقيه بست درجات بعرض اكثر من عشرة امتار ،المرمر الرصاصي اللامع لم يكن من اختيار الساكنين الجدد،الباب الخشبي بلونه البني الغامق وارتفاعة الذي يبلغ ثلاثة امتار منقوش بصور سومرية واكدية ،في المحيط مسامير فضية ، قال أحد المحاضرين انه يعيذ بالله من بقاء تلك التشببيهات،القاعة واسعة حسنة التهوية فيها أربعة أجهزة تبريد ،والكراسي المرصوفة سلسلة من ستة عشر كرسيا يفصل بين كل ثمانية منها ممر بمتر ونصف،في الصدارة منصة بارتفاع متر واحد ومنضدة خشبية وثلاثة كراسي ،مكبرات الصوت مبثوثة بطريقة احترافية ، شاشة كبيرة الى الخلف تستعمل وسيلة ايضاح عند الحاجة.
الحراسة المشددة كانت واضحة ، في جوانب المدخل ،فوق السطح ،ينتشر مسلحون من أعمار مختلفة يحملون بنادق كلاشنكوف وفي احزمتهم مسدسات سوداء ،وقبل الوصول الى البناية كانت تقف ثلاث سيارات دفع رباعي ، واحدة خلف البناية واثنتان امامها يقطعان الطريق ، مع السائق هاتف نقال موضوع امامه.
يبدأ الدوام الساعة التاسعة صباجا وينتهي في الثانية عشرة والنصف ،كل محاضرة ساعة ونصف مع فرصة نصف ساعة، نتناول في الكافتريا الشاي والقهوة وقطع بسكويت متنوعة .
توزعت المحاضرات على اساليب الدعاية الانتخابية والعوامل النفسية وكيفية التاثير على الافراد ، فضلا عن دراسة موجزة لتاريخ العراق السياسي ، قال
ابو برنيطة ، سنصبح منظرين ولن أدع عادل الاستراتيجي يصدعنا بتحليلاته ،بالطبع اذا ما استطعت الاحتفاظ بكل هذه المعلومات.
كان المحاضرون من اساتذة الجامعة ، حين اقترحت على رئيس الدورة الاستعانة برجال اعلام مهنيون لديهم خبرة عملية ،عاد في اليوم التالي ليقول الاعلاميون مخترقون ، فهمت انهم لايثقون بهم ،شعرت اني بدأت أقبل الواقع الجديد ليصبح جزءا من عالمي وليضاف الى الخيارات التي اعتزمت على تحقيقها ،لم يعد الامر غريبا كما عرض علي في حينه ، ماتت الافكار المعارضة امام الممارسة اليومية والتعامل مع ذات المجموعة .من الواضح اني تعودت التعامل مع ظروفي الجديدة ولكنه في اعتقادي يظل موقتا حتى تنتهي الانتخابات وأعود الى دراسة اللغة الانكليزية ، كانت شيماء قد اعطتني مجموعة من الروايات الانكليزية ، معدّة بلغة بسيطة ،
كنا نحضر انا وابو برنيطة يوميا بسيارتهم ويظل السائق صامتا رغم محاولات ابو برنيطه جره الى الحديث ،ونبهني الى اننا يجب ألا نستعرض افكارنا في السيارة ، فقد تكون بعيدة عن خط التيار وتفسر بما قد يلحق الضرر بنا .
قالت أمي – المكتبة انتهينا منها ، ولكن زواجك….
لم ادعها تكمل قلت لها –بعد الانتخابات
-لماذا؟
-الانتخابات ليست عملية ميكانيكية تتم بصورة مجردة ، انها معركة حقيقية هذه المرة ، مدافعها قد تلحق بي الطرش، هل تعتقدين إن فتاة اليوم تقبل بزوج أطرش!
نظرت نحوي متسائلة عما اذا كنت اسخر منها
-سترين …نحن على الابواب
قالت –وسترى انت ….مساء ستحضر عائلة مجمان عندنا لأني دعوتهم للعشاء !
غرد عصفور مشاكس في صدري وشعرت اني أعيش حالة من الفرح الذي تمدد في كياني، وحالة رضا جعلتني مرتاحا على نحو لحظت أمي ذلك ولكنها تجاوزته لتعتني بأبي،
جوقة من العصافير الصاخبة بتعارض واضح في اللحن ،قررت فجأة ،ربما لفض الاختلاف بينها،أن تترك النخلة باتجاهات متباينة ،فكرت انها كانت تبحث في كيفية الاحتفال بتوديع الخريف الذي عارضه بعضها لأنه يرى ان الاحتفال يجب ان يكرس لمقدم الشتاء وبدء المطر وانتشار العشب الدي يستتبعه بالضرورة ظهور الديدان،
كان مساء رخيا ،الشباك المفتوح على الجنوب في غرفة الضيافة يعبره نسيم طري،وقامت أمي بوضع مساند قطنية نظيفة مطرزة بخيوط ملونة تمثل تشكيلات متنوعة من الزهور البرية ، قالت أمي انها اشترتها من كربلاء حيث كانت تعرضها امرأة قالت انها جلبتها من إيران ، بدت الغرفة كأنها تنتظر عروسا، شعرت بارتياح ، فيما قالت أمي ليس من السهل استقبال ضيوف، أنا وحدي ومشغولة بعملي ،هذه المصاعب التي تواجهها عائلة بدون بنت !
قلت ولكنك كنت مزهوة لأنك ام الولدين ،
قالت- …غشيمة .
كانت شيماء بهية بطلتها ، تمسك يد اختها الصغري ،تتخلف عن والديها ، كانت الام تحمل كيسا كبيرا ،ومجمان كالعادة بعينيه الزرقاوين ونحافته التي تضفي علية طولا بصريا ،كان حذاؤه الاسود لا معا على نحو ملفت للنظر ،فوجئت بان شيماء قصت شعرها بتسريحة الى ما فوق الأذنين، مما سمح لقرط طويل ذهبي ان يتدلى الى منتصف الرقبة ، تذكرت نزار قباني …
تعرفها
من خفها الجميل
من هسهسات الحلق الطويل
كأنه غرغرة الضوء بفسقيه..
تعرفها
من قصة الشعر الغلاميه..
من خصلةٍ في الليل مزروعةٍ
وخصلةٍ .. لله مرميه .
الفتيات عادة يخشين التجربة بتغيير تسريحتهن ،أعطاني هذا شعورا ان شيماء تملك شخصية متماسكة ،ترتدي فستانا من الكتان يزهو بلون مشرق، مما يطلق عليه الازرق الملوكي ،
-حاجيات بسيطة ،جاء بها ابو شيماء من البصرة
فتحت أمي الكيس ،كان فيه طيران من البط الذي يعبر الاهوار ،قامت ام شيماء بتنظيفهما من الريش واربعة اكياس من المكسرات الايرانية وعددا من علب الجبنة
-ولكن ماذا تبقى لكم ،قالت أمي
-خير كثير ، قالت ام شيماء
قلت في سري خير الشلامجة لا ينتهي .
قال مجمان- واخيرا سأعيد بناء البيت مجددا ،هل تعرف مقاولا يمكن الوثوق به؟
قلت –قرأت في الصحف اعلانا عن شركة إنشائية تتكفل بكل شيء وبوقت قياسي ولكني لم اقف على التفاصيل ،تعلم انا غير مهتم بهذا.
قال – هل يمكن ان تعثر على عنوان الشركة ؟
قالت شيماء- ستكون معاونتك ابي معروفا لن ننساه ، فهو ليس لديه خبرة
قلت – هذا اقل ما يجب عمله
نظرت نحوي ،اندفع شلال من الضوء الازرق ليغرقني ويملأ الغرفة ،الضوء الازرق يرفعني كموج البحر، اشعر اني على وشك ان أفقد توازني ،أتشبت بيد الكرسي وأسمح لروحي تنسل الى ظلال المساء الكثيفة ،تبتعد عن موج الضوء المتدفق ، أسمع مجمان يقول لقد ساعدني إبن العريف حسن برسم مخطط للبيت الجديد ، سيكون من طابقين ،الأول لصالة واسعة والمطبخ والمرافق الصحية والثاني لأربع غرف نوم وصالة وحمام ومرافق ايضا ،كذلك مشتمل صغير من غرفتي نوم ومرافق وصالة ،سأعرضه للإيحار ،ابن العريف حسن يدرس الهندسة المعمارية في البصرة ،هل تصدق لقد طلب العريف حسن ابنتي شيماء ،قال يمكن أن يتزوجا بعد اكمال دراستهما، شيء ما تغير فجأة ،اصبح الشلال الأزرق طوفانا من الموج المرعب وشعرت اني اختنق ويكاد دمي يتفجر من أناملي التي تتورم على نحو أشبه بوحش كافكا ،وفي غبش الظلمة التي ملأت عيني كنت أرى مجمان النحيف والاشقر ثورا غاية في الخبث يقف امامي وهو يحفر بقدمه اليمنى في بلاط الغرفة خافضا قرنيه استعدادا للهجوم ،
قالت امي –ولماذا الاستعجال ،كما ان انشغالها الان قد يؤثر على دراستها
قالت ام شيماء-كما انا مشغولون بالبناء
قالت شيماء-قلت لك اني لا افكر بالزواج الان ،امامي مشوار طويل للدراسة
توقف الطوفان ومن انفراجة صغيرة بدأت أتنفس .
قال مجمان –الموضوع اقتراح
عاد الشلال الازرق يتسرب من فتحات سرية في مسارب الطوفان وبدت في الافق الحمامة التي بعثها النبي نوح بشيرا بأن الماء قد انحسر في أماكن قصية ولكنها في النهاية أمامنا .
طلبت من امي شايا ،نظرت نحوي في عينيها شحنة تشجيع ،لقد فهمت كل التحولات وهي تشد من أزري،
قال مجمان –قبل ان نغادر ارجو الا تنسى عنوان الشركة
قالت شيماء –أذكرك بملازم الدكتور فلاح في النظرية الاقتصادية
قلت –لا…. غدا ستكون عندك
ابتسمت ،عاد شلال الضوء الازرق يتدفق ،اهتزت سعفات النخلة ونحن نقف عند الباب نودعهم،
قالت امي –الأحاديث على سفرة الشاي لقضاء الوقت
كانت (حسجة ) فهمت ما ترمي اليه
-تصبحين على خير أم غازي.
قبلت راس أبي قبل أن أذهب الى غرفتي ،كانت الساعة الحادية عشر ،في فراشي كنت اقف تحت الشلال الازرق ،وحين انطلق صوت أذان الفجر لم اسمعه حتى النهاية .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here