تجاوُر البناءين اللغوي والمكاني… وتحاورهما «لسانياً»

يعزز الباحث عبدالسلام المسدّي «توغل» الدكتور نادر سراج في علم اللسانيات، برفده بتشريح النص، وهو لذلك، أدرَجَ توصيف نظريات سراج في الاختصاص المذكور بأنه قادر على «تحرير علم اللسانيات من قيود كبّلهُ بها مَن أصروا على حصره في مجال الظاهرة اللغوية، دون الظواهر النفسية والاجتماعية والسياسية»(ص11 من كتاب «الخطاب الاحتجاجي»- منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).

في هذا الإطار، يأتي مؤلف سراج بعنوان «البيت- السوسيولوجيا واللغة والعمران- دراسة لسانية تطبيقية»- عن الدار العربية للعلوم- ناشرون- بيروت)، إذ يتمحور هذا المؤلف في شكل رئيسي حول مصطلحي «البيت» و «الدار» في مسمياتهما وتوصيفاتهما ودلالاتهما القاموسية منها أو المجازية، ناهيك عن وظائفهما الكلاسيكية والمتبدلة، ويعرضُ نماذج لمروحة مفردات السُكنى الأخرى (منزل، دارة، شقة)، ومصطلحاتها في اللسان العربي، وهو في هذا الإطار جديد في نوعه وفكرته.

كما أن المؤلف «عبارة عن أضمومةٍ مفرداتية ودلالية متخصصة، تنطوي على معلومات مثبتة وموثقة عن معاني ودلالات الدور والبيوت والمنازل والشــقق والحارات والمباني وسواها في تبدل أحوالها ووظائفها»، لذا، فهو كتاب «يجمع بين النافع والممتع، أي بين متعة القراءة والشغف في استقصاء أصول مصطلحات سكنية شائعة نفعية المنحى في حياتنا اليومية ومعانيها. كما أنه يعود بالفائدة على قارئ العربية ويثري محصوله اللغوي، فللغة منه مكانة أســاسية، وللسانيات نوافذ مشرعة، وللمعلومات الهندسية المعمارية حصة وافية، ولتاريخ مدينة بيروت العمراني حيّز ملحوظ، مع ملامتنا لقوله إن «الطراز المعماري التقليدي حافظ إلى حدٍ ما على نسيجه العمراني»، فالشواهد متعددة على تغييب هذا الطراز، وذاك التقليد وسط غابة من الإسمنت المتوحش في تكاتفه وبنائه وقساوة مرمى العين على إطلالاته، لكننا في ميدان لسانياته فلا نقربه، لأن سراج راقب وتابع وأنجز فأشار إلى أن «أكثر ما تظهرُ التطورات اللاحقة بالعمرانين المديني والريفي هو في اللغة التي تنبني وتتجدّد أسوة بالبنى المعمارية والرؤى الهندسية، استمراراً لتلك العراقة الودودة والمستمرة بين البيت حاضن البشر ووعاء الذاكرة، واللغة حاضنة الموروث الثقافي والفكر الإنساني».

فهذا الكتاب «هو في الآن نفسه دليل على قدرة علومنا الإنسانية المعاصرة على أن تتلاقى وتتفاعل وتتغاذى، كي تتشارك في طرح الإشكاليات والفرضيات، وتفسير المعطيات، وتزويد الدارسين بحصيلة معالجة ميدانية تسعى من خلال أنموذج مديني مُعاش لرصد بعض التحولاّت الثقافية والمتغيرات الاجتماعية التي تعيشها بيئاتنا العربية. لذا نرى اللسانيات تتشارك مع علم اجتماع العمارة ومع علم اللغة الأنتروبولوجي لدراسة العمارة بوصفها منتجاً اجتماعياً، ولتحديد وظيفتها بالنسبة إلى المجتمع الذي صممها وأنتجها واستثمرها وتفيّأ أبناؤه سقفها وجدرانها»، مما دفع به إلى «أن أخضعها لمبضع اللساني»، لأنه «من المتعارف عليه في هذا المجال أن كلاً من البنية التركيبية والبنية الفونولوجية تتطوران في شكل أبطأ إيقاعاً من التطور الذي يصيب البنية المعجمية، وهذه الأخيرة تتأثر بدرجة أكبر بتطور المجتمع، كما بظواهر»الموضة» أو الدرجة لا سيما في صفوف الناشئة، طليعة التغيير في المجتمعات».

وفي ظلّ هذه المسلمات، يصحُّ القول أيضاً إن اللغة الإنسانية عموماً، والألسن المتعينة والمتحققة بالتحديد، يمكنها أن تتطور وتخضع لقاعدة الحراك الاجتماعي، لكن الدعائم أو الثوابت تبقى هي نفسها على الدوام. وهذا الأمر ينطبق كذلك على موضوع متقارب هو البناء، أكان من الطراز القديم أم الحديث، لأن «البناء اللغوي والبناء المعماري اللذان سيتمحور الحديث عنهما في فصول هذا المؤلف هما شكل من أشكال التجاور والتحاور والتناغم التي تقوم بين اللغة والمكان»، مستشهداً بنظرية العالم اللساني الفرنسي أندريه مارتينه الذي التفت إلى هذه المواءمة بين هاتين المنظومتين، فكان أن «بدأت في تشكيل مدونتي الخاصة بمصطلح «البيت» أكان في الاستخدام اليومي المعيشي، أم في الموروث الشعبي، أم عند السلف، أم في آي الذكر الحكيم. وباختصار، إذا كان الدرس الفونوتيكي يتناول أصوات الكلام، فإن الدرس الفونولوجي يتناول أصوات اللغة. كما أننا «أجرينا إحصاءً مفهرساً وشاملاً نتج عنه 145 مفردة اختُصرت إلى 116 من تلك الأكثر استخداماً ورواجاً في نطاق المجتمع اللبناني»، فـ «البيت» مفردُ من المصطلحات اليومية المألوفة والمأنوسة والأكثر شعبية وشيوعاً وتداولاً في خطاب المجال العام»، معتمداً لذلك لسان العرب، والمخصّص، والقاموس المحيط، وفي الإنجيل، والبيت ونظائره في القرآن الكريم، فيذكر أن «مفرد البيت تواتر خمساً وستين مرة في التنزيل الحكيم، وورد ثمانٍ وعشرين مرّة بصيغة المفرد، وسبع وثلاثين مرّة بصيغة الجمع».

والحديث عن «السكنى والإعمار حديث في الحقيقة عن الثقافة، ذلك أن الإعمار نفسه ثقافة، أو أنه جزء منها، فلكلّ ثقافة نمطها أو أنماطها في الكتابة وموضوعاتها ومعالجاتها ورسمها وأولياته وطُرُزها المعمارية، فمن جهة هناك من يبدون حرصاً مبالغاً فيه على الماضي الذي يتجاوزه التطور الاجتماعي والتاريخي، ومن جهة ثانية هناك من يركِّز على الطابع الكوزموبوليتي للمدينة، لا هرباً من الماضي، بل من التاريخ، فلا بأس من القول إن لكل حال عمرانية فلسفتها ورؤيتها وأنساق تعبيرها الممّيزة والمؤشرة لتأثيرات المكان والزمان، لأن «البناء اللغوي والبناء المعماري منظومتان شموليتان، بجزئياتهما وكلِياتهما، على حد سواء، فهما تنطلقان من مبدأ الإطار الجامع، وتتّسمان بالطابع البنيوي نفسه، وتندرجان ضمن المنجز الإنساني الإبداعي، أكان منشأة عمرانية باسقة دانية القطوف، تكتنز أصنافاً بلاغية»، لذا، تقوم «فرضيتنا في شكلٍ رئيسٍ على النظر في صوابية اختيارنا الكتابات الصحافية اللبنانية بالتحديد، والعربية على سبيل الاستئناس، كمادةٍ لدراسةِ إمكانية ائتلاف وتسهيل مهمة التشفير على المتلقّين، وأثبتنا أن النص الصحافي، شأنه شأن أيّ نصِّ إبلاغي آخر، يتمّ تناوله وفق أسس المعالجة اللسانية، وبالاستعانة بأدواتها الإجرائية، قابل أن يكونَ مدونة عرضة للدرس، والتفكيك، والمقابلة. ليخلص إلى أن الوقائع أثبتت أن لا أداة سوى اللغة- أياً تكن- لاستشفاف الخيال الابداعي من جهةٍ، واستقصاء تأثيراتها وتجلياتها في المنظومة المعرفية للناطقين بها، واستبصار مآلاتها في عالم اليوم ووسائل إعلامه، من جهةٍ ثانية.

* صحافية لبنانية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here