استخدام المخاتلة اللفظية في صناعة المفاهيم الايمانية….ابن الله نموذجا !

حوارات في اللاهوت المسيحي 30

تصور نصوص الكتاب المقدس العلاقة بين الإله الخالق وبين المؤمنين به على شكل علاقة الأب مع أبنائه, فالرب هو بمثابة الاب الحاني العطوف المحب لأبنائه, والذي يريد لهم دائما السعادة والخير, وهذا التصوير المجازي للعلاقة موجود في ثنايا نصوص العهد القديم وكذلك العهد الجديد, مع بعض الاختلاف في تحديد من هم أبناء الله ؟!

فحسب نصوص العهد القديم , يعتبر الشعب اليهودي (حصرا) هم أبناء الله , بينما حصرت بعض نصوص العهد الجديد , وخصوصا الرسائل , البنوة لله في جماعة الإيمان المسيحي الناشئ والذين اختبروا الولادة الثانية و قبلوا الإيمان الجديد

ومع ان نصوص العهد القديم ,اعتبرت جميع اليهود أبناء الله وشعبه المختار, إلا أنه كانت هناك ايضا بعض الامتيازات لبعض أبناء الله من بين أفراد هذا الشعب, مثل داوود وسليمان الذين تردد وصفهم بالبنوة لله مع الوعد بثبات ملكهم , وكذلك تم وصف اسرائيل وافرايم بصفة الابن( البكر) لله , وهنا يقصد ايضا بالتوصيف الشعب اليهودي كله, وقد تم أيضا, توصيف (آدم) في الكتاب المقدس بأنه ابن الله.

مما تقدم , نستطيع ان نفهم توظيف الشاب اليهودي المصلح ( يسوع الناصري) لتوصيفات تعكس علاقة البنوة لله في خطاباته وتعاليمه التي كانت يخاطب بها المجتمع اليهودي الذي كان يعيش معه ويخاطبه ضمن أدبيات ثقافته ومفاهيمه الايمانية من خلال مفردات اللغة التي كان ذلك المجتمع يفهمها ويتعامل بها.

ومن هنا , نفهم لماذا كان يسوع الناصري يردد كثيرا توصيفه للرب بانه ( الاب) او ( ابيه) وكذلك يصف نفسه بانه( ابن الله), وبنفس الوقت كان يصف الاخرين بانهم ايضا ابناء الله , مثل صانعي السلام او التلاميذ

( طوبى لصانعي السلام لانهم ابناء الله يدعون)

(اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهي وإلهكم) يوحنا 17/20

بعد رحيل يسوع الناصري,وبعد الشروع في تأسيس العقيدة الايمانية الجديدة والتي اتخذت من شخصيته المحور الرئيسي الذي تقوم حولها جميع اركان العقيدة الجديدة,قام الاباء المؤسسون لهذه الديانة الجديدة ,باستخدام اسلوب المخاتلة اللفظية من اجل الالتفاف حول المعنى الاولي لدلالة لفظ (ابن الله) واستبداله بمعنى جديد يخدم فكرة وتوجه الديانة المستحدثة !

فأصبح (يسوع الناصري) هو اقنوم (الابن) والذي هو أحد أضلاع المثلث الأقنومي المكون لله ( بالاضافة الى الآب والروح القدس) وصار لفظ (الابن) يصرف حصرا الى يسوع الناصري بوصفه ( الابن الوحيد) لله !

ويستند اللاهوتيون في تمرير هذا المعنى الجديد الى عدة امور منها ما هو نصي ومنها ما هو استنتاج و تأويل للنصوص

بالنسبة للشواهد من النصوص, نلاحظ ان اغلبها ورد في انجيل ( يوحنا) او الرسائل المنسوبة اليه, وعند الاخذ بالاعتبار ان هذا الانجيل هو اخر الاناجيل كتابة من ناحية الترتيب الزمني( كتب بعد 70 الى 100 عام من رحيل يسوع) ولو اخذنا بالاعتبار التدرج في اضافة مفاهيم ايمانية جديدة مع مرور الزمن, لغرض اضفاء المزيد من هالة التقديس والاسطرة على الشخصية المحورية للديانة الجديدة, يتضح وقتها, السبب الذي جعل النصوص التي تشير الى بنوة يسوع الخاصة لله !…. ومن اشهر تلك النصوص

( لانه هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد , لكي لا يهلك كل من يؤمن به ..) يوحنا 3

( اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ)

وهناك نصوص اخرى , تشير الى ان يسوع هو (ابن الوحيد لله) , مع ملاحظة ان اغلب هذه النصوص تعود الى السادة كتبة انجيل يوحنا او الرسائل المنسوبة له, وهذا مما يرفع درجة الشك في نسبة النص الوارد في يوحنا (3) ليسوع الناصري, والغالب انه اضافة من الاشخاص الذين كتبوا بقية تلك النصوص ,لكنهم وضعوها على لسان يسوع والذي لم يستخدم توصيف (الابن الوحيد) في اي من النصوص الاخرى المنسوبة له في العهد الجديد!

ومع افتراض , نسبة تلك النصوص ليسوع او الوحي المقدس, فان ذلك لا يعني ابدا ان المراد منها حرفية اللفظ, وانما المعنى المجازي الذي تريد الالفاظ الاشارة اليه, لانه في حال الاصرار على حرفية معنى اللفظ, فإننا سنواجه مشكلة عويصة في فهم او تصور الكيفية التي من المفترض ان يكون الشاب يسوع الناصري( الابن) في ( حضن) الآب !!!

ولو تجاوزنا وقبلنا بحرفية لفظة ( الوحيد) في نص يوحنا (3) مع ذلك فإن هذه اللفظة الواردة في الكتاب المقدس لاتعطي معنى الوحيد (الذي لا احد معه!) وإنما تعني ( المتفرد الذي يمتاز عن غيره) لان كلمة (الوحيد) هي ترجمة عن الكلمة اليونانية (منوجينوس) والتي تعني ( المتفرد اوالمتميز) وقد استخدمها الكتاب المقدس في توصيف اسحق ابن ابراهيم, واعتباره الابن الوحيد لإبراهيم , رغم ان لابراهيم ابن آخر وهو إسماعيل والذي كان أكبر من إسحاق بسنوات كثيرة

(فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق) تكوين 22/2

ان طريقة ارجاع اللفظ الى أصله اليوناني ( لغة النص الأصلية) هي اسلوب يتبعه اللاهوتيون المسيحيون في تفسير عبارات وجمل الكتاب المقدس, للوصول الى فهم هو أقرب ما يكون للحقيقة, لذلك نجدهم, مثلا, يلجأون الى هذه الطريقة عندما واجهتهم مشكلة توصيف يسوع بانه ( بكر كل خليقة )

لان هذا التوصيف يستدعي ان يكون يسوع مخلوقا, وهذا الامر, ينقض العقيدة المسيحية ,التي تعتبره خالقا لا مخلوقا !

لذلك وجدنا اللاهوتيين , يذهبون الى أصل كلمة (بكر) في اليونانية( بروتو توكس) ليستنتجوا ان (البكر) لا تعني الاول من حيث الترتيب الزمني , وإنما تعني الأول من حيث ترتيب المقام, لكنهم لم يتبعوا نفس المنهجية مع لفظ (الابن الوحيد) جريا على اسلوب الانتقائية والتناقض المعهودة لديهم, في عملية انتاجهم للمفاهيم ,بطريقة المراوغة اللفظية !

ولو تجاوزنا طريقة المراوغة والتلاعب في معاني كلمات النصوص, وتتبعنا التفسيرات التاويلية التي يستنتج منها اللاهوتيون ان يسوع الناصري هو (وحده) الابن الطبيعي لله, سنجدهم ايضا يتبعون أسلوب متنطع في تفسيرات متمحكة, تحاول بشكل فج مطمطة معاني النص وجرجرته الى معاني بعيدة تسند المفاهيم الايمانية التي ابتدعها اللاهوتيون ,مثل

(من رآني فقد رأى الآب) وكذلك قول يسوع ( انا والاب واحد) وغيرها من النصوص المشابهة

و وجه التنطع في تفسيرات اللاهوتيين واضح جدا, فمثلا بالنسبة للنص الاول, فكل عاقل يفهم ان يسوع لم يكن يقصد ان الذي يراه ويبصر شكله وهيئته هو بالضرورة سيرى شكل الله الذي في السموات !

علما ان لفظة (راى) يستخدمها اليهود احيانا بمعنى ( عرف او علم) كما ورد في نصوص الكتاب المقدس

(وراى الله الارض فاذا هي قد فسدت، اذ كان كل بشر قد افسد طريقه على الارض) تكوين 12/6

(ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه) تكوين 25/32

ومن هنا, يكون المعنى الذي اشار اليه يسوع واضح ومفهوم ( من عرفني ..يعرف الاب)

أما بالنسبة للنص المهم ( انا والاب واحد) فإن تفسير اللاهوتيين المسيحيين يثير العجب والاستغراب, لانهم يصرون وبشكل مريب على تأويل وفهم هذه العبارة بنفس الطريقة التي اراد اليهود المتربصين بيسوع ان يفهمونها , لكي يجعلوا هذه العبارة سببا لادانة يسوع الناصري بالتجديف , فيكون وقتها مستحقا لعقوبة الرجم بالحجارة

وهنا نترك الاصحاح العاشر من انجيل يوحنا يخبرنا بالقصة….فعندما قال يسوع ( انا والاب واحد)

(فَتَنَاوَلَ الْيَهُودُ أَيْضًا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ.أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي. بِسَبَبِ أَيِّ عَمَل مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟

أَجَابَهُ الْيَهُودُ قَائِلِينَ:لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأَجْلِ عَمَل حَسَنٍ، بَلْ لأَجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلهًا»

أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ مَكْتُوبًا فِي نَامُوسِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ؟

إِنْ قَالَ آلِهَةٌ لأُولئِكَ الَّذِينَ صَارَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ الْمَكْتُوبُ،

فَالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ، أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: إِنِّي ابْنُ اللهِ؟

إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي.

وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أَعْمَلُ، فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي فَآمِنُوا بِالأَعْمَالِ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا أَنَّ الآبَ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ».

فَطَلَبُوا أَيْضًا أَنْ يُمْسِكُوهُ فَخَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ)

وهنا نلاحظ ان يسوع يريد تذكيرهم بما هو مكتوب في العهد القديم, في المزمور ( 82)

((أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ) والمخاطب هنا هم القضاة من بني اسرائيل

مما تقدم يتضح ان يسوع الناصري,قام بتوضيح وتصحيح الفهم المغلوط لليهود لعبارة ( انا والاب واحد) حيث اكد لهم انه لايقصد بها انه اله او مساوي للرب, وانما يقصد ان لديه سلطان اعطاه اياه الرب , كما اعطى قضاة بني اسرائيل , وهو ابن الله, كما كان القضاة ابنائه !…..لان الرب قد قدسه بصفته رسول الرب الى العالم.

ورغم هذا البيان والتوضيح من يسوع الناصري, لكننا نجد اصرار من اللاهوتيين المسيحيين ,على تغافل واهمال توضيح يسوع المسيح , والتمسك بالفهم اليهودي الخاطئ والمتربص والذي كان غرضه الايقاع بخصمهم يسوع!

إن تعبير يسوع الناصري و توصيفه,على أنه واحد مع الآب, هو نفس التوصيف الذي استخدمه مع التلاميذ, حيث اعتبر أن إيمانهم سيجعلهم ,متحدين في الهدف معه ومع الاب,ليكونوا فيه وهو فيهم,لان الجميع يسعون لتحقيق غايات الله الاب

(ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم

ليكون الجميع واحدا ، كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك، ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ، ليؤمن العالم أنك أرسلتني

وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد

أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتني، وأحببتهم كما أحببتني) يوحنا 17

ورغم هذا الكلام الواضح ليسوع الناصري والذي يوصف فيه علاقته مع الله(الآب) ضمن إطار مفاهيم وثقافة مجتمعه والمفردات اللغوية التي كانت مستخدمة في ذلك الوقت, إلا أننا نجد الآباء المؤسسين للديانة المسيحية, يجتهدون في ابتداع تفسيرات وتأويلات تقوم على منهجية ملتوية تعتمد المخاتلة اللفظية من خلال الاجتزاء تارة او الاقتطاع من النص تارة اخرى, لكي يتم الالتفاف على المعاني الاصيلة لمفردات النص, والخروج بمعاني مغايرة تؤيد فكرهم وعقيدتهم الجديدة, والتي كان الجزء الأعظم منها ,مقتبس من العقائد والأساطير اليونانية والاغريقية ,التي كانت رائجة في ذلك الوقت

فصار يسوع هو الأقنوم ( الابن) وهو الابن ( الوحيد ) الذي في حضن الله (الاب) لأنه متحد معه في الطبيعة اللاهوتية!

وبذلك انتجوا ايمان جديد يقوم على مفاهيم جديدة مثل, اللاهوت والناسوت, والطبيعة والجوهر والاقانيم!!

علما ان كل هذه المصطلحات, لم يذكرها او يتحدث عنها يسوع الناصري ابدا !!

وربما لم تكن تخطر على باله اصلا !!

د. جعفر الحكيم

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here