من حي الزنجيلي في الموصل الى حي النصر في بغداد رواية/الفصل الحادي عشر

ذياب فهد الطائي

الفصل الحادي عشر

الخبرة ليست ما يحدث لك، بل ما تفعله بما يحدث لك.

ألدوس هكسلي

يبدو ان وزير الكهرباء قد وجد أخيرا الوسيلة التي مكنته من الوفاء بوعده ،كان الوعد في مجلس النواب بعد هجوم نائبة كانت تتحامل عليه واصفة وعوده بانها دائما من غير وفاء ، وللبرهنة على صحة استنتاجها رددت (حجيك مطر صيف )
صرخ نائب في الصفوف الخلفية (ما بلل اليمشون ).
ها هو هذه الليلة حي النصر كأنه في مهرجان احتفال الضوء والصوت ،البيوت والمحال وأعمدة الكهرباء التي علاها الصدأ ، كلها تنشر الضوء باحتفالية دفعت بالظلام الذي كان قد اعتاد ان يشمل حي النصر بوحشة تسكن الشوارع والأزقة، دفعت به الى التراجع كاشفا مساحات واسعة تسمح للاطفال ان يجعلوا من الشارع الرئيس ملعبا لكرة القدم،من البيوت والمحال التجارية والمقاهي تنطلق ضجة صاخبة بأغان مختلفة بعضها عراقية واخرى مصرية او سورية ،الجميع يعلن ابتهاجه باستمرار الكهرباء (الوطنية) منذ منتصف النهار ، الإشاعة تقول ان الكهرباء ستستمر طوال الليل ،غدا …لكل مقام مقال !
كنت في مقهى خليف الزاير حينما جاء مجمان ،بدأ الجو باردا الى حد ما ولكنها برودة يجب ان نتوقى منها ،أبي كان ينصحني دائما بأن أحذر من برودة الخريف فهي مضرة بالصحة ،جلس مجمان الى جانبي .
-ارجو الا أشغلك عن اصدقائك؟
-لا …لا شيء لدي
-ذهبت صباح اليوم الى شركة المقاولات ، قدم لي المدير خريطة البناء وكشفا بتفاصيل الكلفة ،كان الرسم المعماري للبناء جميلا كما كانت الكلفة مقبولة ،اتفقنا على المباشرة بالعمل الذي سينتهي خلال ستة أشهر،بالمناسبة المدير كلفني بان أنقل لك سلامه ،
-وعليكم السلام
– ربما استغربت موقف شيماء، منذ صغرها وهي عنودة وتتشبث برأيها ،واليوم لها صفات مميزة فهي لا تحب البهرجة في لبسها أوسلوكها عادة ما تكون جدية، ليست دائما ، فأنا الحظ في الكثير من الاحيان بسمة تجعل ملامحها رقيقة ، تنتشر في وجهها ولكنها تحاول ان تتفادى إعلانها،انا لا أخطئ ذلك ، لم افهم سبب حديثه عن شيماء ، ربما لأنه حدس إن شيئا ما يدور بيننا ، أو ربما لانها بقيت الوحيدة في البيت ،قلت له سيربككم البناء ،قال بان الفرحة بما سيتحقق اكبر من أية إرباكات ،
جاء ابو برنيطة ، غمزني بتخابث ، في خيالي كانت شيماء شمس تملآ فضاءاته بنور هادئ يبعث على الإسترخاء ،الزرقة المفعمة بالبهجة تسكرني ،استأذن مجمان فيما كان ابو البرنيطة يجلس ، قال بان لديه خبرا مهما من الشيخ صالح ولولاه لما أفسد الجلسة العائلية ،في التلفاز كان نقاشا مبتذلا حول توقعات نتائج الانتخابات ،قال ابوبرنيطة توقعاتنا ان تحالفنا سيكون في المقدمة ،لم أعلق ،قال عادل الاستراتيجي وكل حزب بما لديهم فرحون ،دنا مني ابوبرنيطة ليوشوشني طلب الشيخ صالح ان نقوم باعداد الترتيبات اللازمة لعقد اجتماع جماهيري في مقهى خليف الزاير ،قال المهم ان الميزانية مفتوحة ،علينا أن نجمع أكبر عدد من الحضور،تمرّ بالإنسان أحينا صحوة لقول الحقيقة …ولكن الكثير من الأمور لا يمكن البوح بها تظل في سريرة الانسان لا يمكنه التخلص منها رغم انها كعش للزنابير التي تجول في البساتين عند الخريف ، ربما تكون سامة ولكن دون ان تتسبب في الموت ،كنت أود ان أقول لأبي برنيطة إذهب انت وشيخك الى جهنم،هل يمكن أن اصدق مدّعيا عينه على فتيات الحي ، النسوان أجمل في الحياة حينما يقرن في بيوتهن ،قال الشيخ صالح هذا وهو يتابع شيماء تعبر الشارع ، لم أعترض لأن ذلك سيدخلني في نقاش بالغ التفاهة معه ،النسوان حالة متعة ،لم افهم قال لا تتعب رأسك حينما يتاح لك الزواج ستصل الى ما أعنيه .
اليوم لا يمكن ان تعمل بما تراه أنت بل عليك ان تعمل بما يطلب منك ،أو في أحسن الأحوال ان توائم بينك وبين الاخرين أو تجلس في بيتك ،قلت لابي برنيطة غدا لدي موعد في الجامعة لمعرفة موعد الامتحان للمتنافسين على دراسة الماجستير ،قال موعدنا مساء ، سأنهي كل شيء وعليك كلمة الافتتاح ثم تقديم الشيخ ،الجميع الان منظّمين وقد تعلموا من متابعة التلفاز وهو يعرض لقاءات متنوعة ،
كنت افكر ان أذهب مع أمي مساء الى بيت مجمان ،قال بأنه زارنا أكثر من خمس مرات ونحن لم نرد الزيارة غلا مرتين ،قلت له مساء اليوم سنكون عندكم ،قلت لابي برنيطة لا أشعر اني بوضع يسمح لي بالقاء كلمة ،هل يمكن تأجيل اللقاء الى يوم الغد ؟ حك رأسه ونظر نحوي بتخابث ،قال هذا يحتاج الى ثلاثة اشياش كباب وكاسة مخلل عند هاشم ،قلت غدا ظهرا ، أصر بعناد ، الان لدينا وقت كاف وستنتظرك المحروسة !يقول عادل الاسترتيجي لو ان الحكومة استعانت بابي برنيطة لاستطاعت ان تحل مشاكلها فهو يتمتع بقدرة على تمييع المسائل الشائكة كما ان لديه قدرة على ابتكار وسائل إقناع لاتخطر على البال، وهي بحاجة الى الاثنين معا لتعبر المتبقي من عمرها ،
جاء صبي الشيخ صالح ليقول لي ان الشيخ يرغب بلقائي ، الان !…قلت باستغراب ، قال إنه في السيارة خلف المقهى ، قال ابو برنيطة …إيدك بالدهن !،
كان جو السيارة يملؤه شذى عطر رخيص أشعرني بالانقباض ،كان الشيخ يمسح لحيته ويتمتم بعبارات لم أتبينها وخمنت انها دعاء لقضاء الحاجة ،حين صعدت الى جانبه طلب من السائق ان يترك السيارة وان لايبتعد ،حمل السائق مسدسا حربيا كبيرا ولم ينظر نحونا .
-فضلت ان اراك بالسيارة تحوطا
-باي مكان شيخنا سأكون حاضرا
-شكرا …
فرك يديه وتنشقهما وأخرج مسبحة بلون الفستق الاخضر
-لي عندك رجاء وكلي ثقة بأنك لن تخيبه
-أنت تأمر شيخنا
-استغفر الله …سادخل بالموضوع …الله المستعان … علاقتك بعائلة مجمان وثيقة كما علمت ، كما إني رأيته يجلس معك عند حضوره المقهى.
قفزت الى ماوراء حديثه ولكني شعرت بالدهشة ،الشيخ تزوج منذ أشهر ،ولكن يبدو انه يملك طاقة مخزونة يرغب في تجربتها قبل ان ينتقل الى مباهج الحور العين ،حين وصفت هذه الطاقة بالشيطانية ونحن نناقش في الركن الثقافي اشكال الطاقة قال طالب في كلية الشريعة استغفر الله ياأخي كيف تدخل طاقة شيطانية الى الجنه ،ولكن على العموم هي طاقة تنبت في الصحراء وفي بيوت الشيوخ لأنهم يزرعون الرمل ،
-صحيح
-حسنا ،لقد أرحتني ، انا أرغب في القرب منهم …بالزواج من ابنته الكبرى شيماء
كنت مستعدا للخبر وفكرت ان ما فعلته شيماء مع عريف الشلامجة يجب ان استفيد منه مع الشيخ ،سبق ان قلت لشيماء انها استخدمت الصدمة الخفية ،قالت الحديث المباشر الجازم يوقف المقابل ، قلت للشيخ- يؤسفني شيخنا ان اقول انك تاخرت ، شيماء بنت مجمان مخطوبة ،
التفت نحوي بكليته وتوقف يده عن تحريك حبات المسبحة واهتزت لحيته الحمراء فانطلقت منه رائحة حناء .
-من خطبها
كان تساؤله محبطا
-أنا
-انت !
-نعم
– لا حول ولا قوة الا بالله ،يمكنك ان تذهب
راقبني وانا أترك السيارة بصعوبة بالغة بسبب ارتفاعها ومشاكل الساق الصناعية ،شعرت اننا نسير بخطين متوازيين يظلان قريبين ولكن لن يلتقيا، هذا هو ما كان يسميه عادل الاستراتيجي التماهي الموضوعي وهو يعلق على التحالف الانتخابي .
في المساء لم أدعى الى التجمع الجماهيري في مقهى خليف الزاير ،كنت في البيت اقرأ في رواية لانريكو كان عنوان الرواية يعبر على نحو دقيق عن توجهها (حفلة التفاهة ) ، قالت امي شخص عند الباب يطلبك ، قلت من هو ، قالت لم اره قبلا ،نظيف وأنيق ، طير غريب ،ربما (عكعك )! ضحكت وانا ارمي الرواية وقلت ، علي ان أشكره اولا لأنه اوقف قرائتي .
كان فعلا غريبا وابتسمت وانا اتصوره من فصيلة طيور العكعك بألونها الخضراء المتدرجة ومناقيرها الزرقاء وذيلها الطويل الأنيق وهي تتأرجح فوق اسلاك الكهرباء فيما تلمع أجنحتها بلونها الاسود ،
قال بانه من حزب البيئة الجديدة وانه يرغب في الحديث معي ،قلت ولكني على موعد هذا المساء ويؤسفني ان أعتذر ، كانت شيماء ستحضر بأسئلة امتحان المنافسة للعام الماضي ،يعني كل ما اتطلع اليه سيكون أمامي عينا شيماء، وتفاصيل الماجستير.
قال –لا باس هل يمكن ان نلتقي في كافتريا الفقمة عدا الساعة الواحدة ظهرا؟
فلت –الفقمة بعيدة وانا لا أملك سيارة
قال – سأحضر بسيارتي ونذهب سوية
كانت شيماء تقترب …انسحب عن الباب وحينما جاورته انحنى بأدب وهو يقول، تفضلي ياانسة ،بدا الموقف كانه عملية تصوير مشهد سينمائي ، ابتسمت شيماء وهي تدلف الى البيت .
قال-في الساعة الخامسة سأكون عندك
سلمني بطاقة تعريف
قلت –حسنا
قالت شيماء ماذا يريد ؟
قلت لا أعرف
قالت امي-كيف ستذهب مع عكعك غريب
قالت شيماء-هل تعرفيه ياخالة
قالت امي- لا
قالت شيماء –ماهو العكعك إذا ؟
قالت امي-طير بين الغراب والهدهد ولكنه اكثر زهوا بنفسه يقف تحت الشمس ليتمتع بالتماع ريشه ،
كانت شيماء تجلس قبالة أبي تشمله بنظرة حانية وكان هو يعبّر في صمته وحزنه الرقيق عن تعاطف ابوي معها ، قالت لا بد من ان يتعرض لاشعة الشمس في ساعات الصباح على الاقل ،العتمة تولد الكأبة .
قالت شيماء –لقد جئتك بالأسئلة لمنافستين في عامي 2014 و2016 ،وفي الحقيقة وجدتها متشابهة الى حد بعيد واعتقد ان دراسة الاجوبة سيمنحك القدرة على الجواب حتى اذا ما غيروا فيها جزئيا .
تناولت الاوراق منها ،كانت كفي ترتعش وهي تلامس اصابعها البيضاء الرقيقة وفي عيني طافت غمامة صغيرة شوّشت مجال الرؤية وملأته بزرقة كظلال اشجار الحور التي يكتظ بها بستان ابو ستار على نهر ديالى في مدخل بعقوبة، جاء صوتها صافيا ينساب بعذوبة مسكرة ،
-متى سيكون إمتحان المنافسة ؟
-الاثنين القادم …. الذين سيؤدون الاختبار عشرة طلاب وهم الذين اجتازوا اختبار اللغة الاننكليزية .
-حظا سعيدا
-سأحتاج بعض المراجع من مكتبة كليتكم
-إعطني اسمائها وساستعيرها
قالت امي –لقد برد الشاي ،سأغيره لكما
توجهت بنظرها نحو شيماء وتابعت –متى سينتهي البناء
-مازلنا في البداية
-ارجو ان نفرح بك بعد ذلك
ابتسمت شيماء بخجل –مشواري طويل وأعدّ نفسي لمواصلة الدراسة
قالت امي –حينما يحل التفاهم تحل المشاكل
تضرج وجه شيماء بحمرة خفيفية فقد فهمت ما تلمح اليه امي ،وفي عينيها شاع رضا مفعم بالتعاطف ،شعرت وانا أتملى وجهها بان ما أريده ممكن جدا ،وان شيماء ستكون لي ، بشيء من الغرور فكرت انها قدري ، لم يكن أملا الجأ اليه كان ذلك الشعور بمثابة ثقة مطلقة باني استطيع تحقيق أولوياتي التي حددتها منذ زمن ، والتي ولمدة محدودة ، دفعها الشيخ صالح الى التراجع الى حد ما ، ما داخلني إحساس غريزي بالدفاع عن تلك الاولويات ضد غريمي الشيخ صالح ،لاح لي الشيخ شخصية بائسة .
خرجت أمي لتجمع الملابس من على حبل الغسيل ، قلت لشيماء،هل الوالد في البيت ،قالت لا سيعود من الشلامجة بعد أسبوعين …لماذا ؟ بدى تساؤلها كانه لتاكيد جواب تفكر به فقد شاعت في عينيها ظلال ابتسامة متواطئة ، قلت لها كنت افكر ان أفاتحة ! قالت ،بماذا ؟تحولت الابتسامة الى تحريض للاستمرار بالحديث، دخلت أمي تحتضن الملابس لتلقيها على الأريكة الفارغة وقالت ان جو الخريف هذا العام لا يؤتمن فهو متقلب ويلوح بايام عاصفة ، قال شيماء كل مافي بغداد هذه الأيام متقلب وعاصف ،قالت امي اعتقد ان موجة غبار ستحتل بغداد ،،كان الله في عون المصابين بالربو ،رفعت مؤشر الصوت في التلفاز ،كان المذيع يتحدث عن ارتفاع في عدد المنتحرات في كردستان ، وبدا هذا غريب بعض الشيء ففي زمن الحرية يزداد عدد المنتحرين ، لا أدري أين قرأت ذلك ، ولكنه يتكرر هنا ،قالت شيماء اي مخاض نمر به ، قلت مازحا الولادة .
كان ابي ينصت لنا وهو شارد ربما يفكر في هذا الدفئ العائلي ، أشار الى الشاي، استأذنت شيماء ، شعرت ان المساء يغادر معها ولا يبقى غير الظلام وهدوء عميق،
حين أويت الى الفراش كنت أفكر بالمونا ليزا ،لوكنت فنانا تشكيليا لرسمت شيماء فهي أجمل منها وأكثر حيوية بل هي ممتلئة بالحيوية ،حين بدأت اسقط في لجة النعاس ،فكرت إنها حظوظ !.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here