أربعة + واحدة = خمسة

د. عدنان الظاهر 26.04.2008

أربعة + واحدة = خمسة

(( كرنفال الأحزان / إحدى قصص كتاب الهروب إلى آخر الدنيا للدكتورة سناء كامل شعلان . منشورات نادي الجسرة في قطر 2006 )) .

وشهد شاهدٌ من أهلها فقال : سناء تبحث عن جسدها سُدىً . يضيع منها فلا تلقاه . هل لها أكثر من جسد ؟ هي تتوهم ذلك فما أساس هذا الوهم ؟ هل لها جسدٌ بشريٌّ من لحم وعصب وعظم مثل باقي البشر وأخر تتصوره مجسَّداً ربما من لا مادة أو من مادة غير معروفة في الطبيعة بعدُ . من مادة أو معدن متوفر في كوكب آخر . ما الجسد في نظر سناء ؟ أهو الجسدُ الرمزُ ، الرمز التأريخي … الرمز الأسطوري أم الرمز الذي ورد ذكره في سورة طه إذ صنع السامري ُّ ( أو هرون أخو موسى كما في التوراة ) عجلاً { جسداً } له خوار ؟ [[ فأخرجَ لهم عجلاً جسدا ً له خوارٌ فقالوا هذا إلهكم وإلهُ موسى فنسيّ / الآية 88 ]] . ما معنى العجل الجسد ؟ جسّدَ يُجسِّدُ تجسيداً … أي تصويراً أو تشكيلاً مجسداً ذا ثلاثة أبعاد . صنع السامريُّ تمثالاً أو صنماً مسبوكاً من ذهب مصهور تماماً كما ينحت ُ الفنان تمثالاً من حجر صلد أو من خشب أو حديد وسواه من المعادن . إنها عملية تجسيد أي تكييف المادة بحيث تخرج منها هيئة تشابه جسداً معروفاً كالإنسان أو الحيوان أو الطير . محاكاة بثلاثة أبعاد فضائية وليس كالرسم ببعدين على الورق . واصل الشاهدُ من أهلها حديثه ، حديث الجسد ، جسد سناء أو أجساد سناء فقال : أحسبُ أنها تتوق علناً وسراً لعالم آخر غير عالمنا فقد برمت سناء بعالمنا فضاق بها . زهدت فيه بل واشمأزّت مما فيه فطاب لها التجوال في عوالم آُخرَ لا تمتُّ لعالمنا بصلة [[ قصة مدينة الأحلام / كتاب أرض الحكايا . منشورات نادي الجسرة ، قطر 2007 ]] . إنفصلت سناء عنه وعنا وراحت تقضي زمانها في ( يوتوبيا ) من تصميمها أرضاً وبشراً وسماءً . من يجرؤ ـ تساءل الرجل من أهلها ـ على إقتحام عالمها هذا الذي له قدسية خاصة في فكر وقلب سناء لا تضاهيها أية قدسية تعارف البشر عليها منذ حواء وآدم . سألها أبو الطيب المتنبي وكان ثاني مَن حضر : هل أنتِ متزوجة يا سناء أو كنتِ يوماً متزوجة ؟ لم تجبه ُ . أعرضت عنه وعن سؤاله لكنها لم تعترض ولم تمتعض . إكتفت بالإشارة برأسها المبرقع بشال حريري وردي ناحية أبي العلاء المعرّي فالتقط المتنبي الإشارة وفهم مغزى سناء !! سألها هل كتبت يوماً شعراً ؟ قالت أجل ، قرأت شيئاً يسيراً من شعرها فواصل المتنبي هزَّ رأسه متعجباً مما يسمع . أنشدت سناء بصوت أسمهان الدرزية ولهجة فيروز المارونية اللبنانية :

أريدُ أنْ أركبَ معك
ولو لمرةٍ واحدة
قطاراً ينسى أرصفته وقضبانه وأسماءَ مسافريهِ
أُريدُ أنْ تلبسَ
ولو لمرة ٍ واحدةٍ
معطفَ المطر
وتقابلني في محطة الجنون .

تمايل الحضورُ حتى سكروا .

ما سبب حزنك يا بنيتي الجميلة سناء ؟ سألها أبو العلاء المعرّي فأجابت على الفور : محبساك أولاً منعاني ثم َّ عزوفك أنت عن الزواج قد ألهمني عزوفي عنه وزهدي فيه فأنتَ المعلم الرائد وأنت الكبير . إحتج َّ المتنبي بعنف قائلاً : يا سناء ، لا من مجال للمقارنة بينك وبين أبي العلاء . شيخنا هذا ضرير يتيم نكبه زمانه بعلتي اليتم والعمى فما الذي يشبهك فيه ؟ هل لديك في بيتك مرآة تُريك روعة سحر وجهك لا سيما شفتيك القرمزيتين وعينيك اللتين وصفهما أحد معارفك يوماً بعيني عقيق أخضر ؟هل رأيتِ يا سناء الزمرّد الأخضر الصافي ؟ إعترض المعري فقال : يا ابا مُحسّد ! قلْ زبرجد ولا تقلْ زمرّد . لقد كتبته في كتابي ( رسالة الغفران ) زبرجد لأننا لا نعرف هذا الزمرد في بلاد الشام . جاء صوتُ الفنان محمد بوكرش جهورياً ملعلعاً من أقاصي جنوب الجزائر وفي كفه حفنة ٌ من تمر دقلة نور : أهل العراق يسمونه زمرّد ولا يقولون زبرجد . سكت المسكين المسالم ابو العلاء ولم يكابر ولم يجادل وشعاره { إدفعْ بالتي هي أحسنُ }.
إنتبهتُ … كنتُ نائماً أو كالنائم . تساءلتُ أين أنا من أنا أين كنتُ ؟ مَن هؤلاء القوم من أتى بهم إلى بيتي كيف عرفوا عنواني كيف دخلوه بدون إذن ٍ مني وهل كان الباب مفتوحاً على مصراعيه أم كان الباب موارباً ؟ هل إخترقوا كالأشباح والموتى جدران بيتي ؟ عجيب ! أتساءل ولا من مُجيب . لا مَن يهتم بسؤالي لا من يسأل عني فمن أنا وما قيمة أن يكونَ البيتُ بيتي ؟ أهؤلاء صحابي وهل كانوا يوماً من صحبتي وصحابي ؟ الأجوبة جميعها لدى الفنان محمد بوكرش عاشق التمر واللون والحجر . كان يزورني أحياناً لكنه حين يغادر بيتي يترك كرشه الكبير جالساً على أحد الكراسي وحيداً لا يقرأ ولا يأكل ولا يدخن . أهملني الجميعُ وهم كالضيوف غير المدعوين في بيتي . أما يحق لي أنْ أسأل أو أستوضح أو أستفهم أو أعترض ؟ أليس في فمي لسانٌ ومزمارٌ وشفتان وهداني ربي النجدين ؟ عم َّ أسأل ؟ قهقه َ المتنبي الذي قرأ أفكاري في رأسي الغائب عني وعن الجميع . قال سل ْ يا رجل … سلْ ولا تخفْ فنحنُ أصدقاؤك وإنْ كنا ضيوفك الثقلاء . سلْ ولا تتهيبْ الموقف . هل أسأل ؟؟ هل أتجاسر وبمن أبدأ سؤالي ؟ أدرتُ رأسيَ ونظري بين الحضور فتعلق بها … بها هي دون سواها . سحرتني عيناها بما تراكم فيهما من معادن مناجم العقيق الزمرّد والزبرجد وسحرني حد َّ الخَبال سرابُ مرايا ماس أسنانها وقرمز الحزن في شفتيها فهل فيهما عَلَق ٌ يترشف دم عشاقها المهووسين بحبها والهائمين على وجوههم في طُرقات البحث عنها في المدائن والعواصم ؟ ما حكمُ الذي تصرعه العيون في دين الإسلام ؟ أموته شهادة أم جنون وتهور ونقص عقل وعقوبته نار جهنمَ وبئس المصير ؟؟ لم يطلْ بي تجوالي بين المدائن والعواصم فلقد عقدتُ عزمي أنْ أغادرَ المكانَ الذي أذلني وأضاع قدري . أنْ أبحثَ عن مكان لي بين المجرّات خلاصاً من تأثير سحر عقيق العيون وزمرَّدها المسحور بألف تميمة والذي يتقد فيه السناءُ ويتوهج ُ فيشتعلُ حتى كمال نضوب النار . إنسحبتُ من داري فكيف أمضى الضيوفُ الأربعةُ الباقون وقتهم أثناء غيابي ؟
المتنبي :ـ
تغرَّب َ لا مستعظِماً غيرَ نفسهِ
ولا قابلاً إلا لخالقهِ حُكما

ـ المعرّي :
في اللاذقيةِ ضجّة ٌ ما بين أحمدَ والمسيحْ
هذا بناقوس ٍ يدق ُّ وذا بمئذنة ٍ يصيحْ
كل ٌّ يعززُ دينه يا ليتَ شعري ما الصحيحْ ؟

محمد بوكرش :

ينحت نخلة تمر دقلة نور في واحة قريبة من مدينة تيزي وزّو الجزائرية .

سناء كامل شعلان :

كانت منهمكة … تنفق مداخيلها على ملابسها والصور الجميلة ولا تتخلى عن محاولات البحث عن جسد ثالث يمثل حالة المادة الرابعة أو البعد الرابع بعد أن نجحت في تصنيع الجسد الثاني : فينوس آلهة الفتنة والسحر والجمال وربّة العقيق والياسمين والأرجوان .

غادر الضيوف منزلي فوقفتُ في حجرة الإستقبال وحيداً مشدوهاً مشتت الفكر مردداً قول فارس العرب الزنجي عنترةَ بن شدّاد العبسي (( هل غادر الشعراءُ من مُترَدمِ … )) : هنا جلس المتنبي وهذا مقعد المعري . هنا ظلَّ بوكرش واقفاً ينحتُ بأصابعه العارية في جذع نخلته ويجبلُ من شعر لحيته الأحمر ليفاً لها مَسَداً . أدرتُ رأسي متسائلاً أين سناء ؟ أين كان مجلسها ؟ أجابني جسدها الثالث الذي لم تجده بعدُ : ما كانت سناء خامستكم . ما كانت معكم أبداً وسوف لن تكون . إنها جد َّ منشغلة تساعد صديقاً عزيزاً عليها حلَّ في العاصمة فاستنزف َ جُلَّ وقتها . كانت هناك ولم تكن معكم .
هل أنا في حُلم ؟ أجاب ضيوفي جميعاً وبصوت ٍ واحد : أجلْ يا نائم … كنتَ في حُلم فمتى تصحو ، متى الصحوة يا رجل ؟ .

ملاحظة : للدكتورة سناء كامل قصة مستقلة بعنوان ( الجسد ) وهي إحدى قصص كتاب قافلة العطش / منشورات مؤسسة الورّاق للنشر والتوزيع / عمان 2006 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here