نشأة الدولة الرومانية

علي الإبراهيمي

[email protected]

استيلاء كهنة ( آمون ) على السلطة في الجنوب ، وإقامة إمارة دينية في بلاد ( النوبة ) ، التي تشكّل القسم الجنوبي من المملكة الفرعونية القديمة . وفي خضّم الصراع في الشمال وبداية تزايد نفوذ القبائل الليبية عسكرياً ، والنفوذ الرافديني اليوناني فكرياً ، يبدو انّ مجاميع من ( الملأ الفرعوني ) القديم بدأت بالهجرة شمالاً او شمالاً غربياً ، تحمل ثروتها الكبيرة معها ، وتحاول الحفاظ على إرثها الفكري والمالي .

وهذا ما يفسّر لنا التزامن الغريب بين انشاء مدينة روما في حدود ٧٥٢ ق م ، وبين انهيار الفرعونية القديمة في شمال مصر . حيث سيطرت القوات النوبية بقيادة ( بخنعي ) على مصر في هذه السنة تقريبا . وقد تمّ انشاء مدينة روما على يد مجموعة من المنفيين – بحدود ٣٠٠٠ عنصر – بقيادة ( رومولس ) ، والذين كانوا غرباء كليًّا عن النواحي الإيطالية ، كما انهم حملوا معهم مجموعة من القوانين الخاصة بهم ، ومن ثم طوروها لتشمل جوارهم ، ولاحقاً أضافوا عليها فقرات تتناول الممالك المرتبطة بهم ، لكنهم اصروا على نشر صورة تحضّر الروماني وحده .

لم تكن رؤيتي هذه قائمة على السنة التي دخل فيها النوبيون شمال مصر ، لكنها تأخذ في الحسبان تأريخ الصراع الذي ابتدأ منذ خروج الهكسوس ، وتزايد الخلاف الفكري في شمال مصر ، وكذلك الفترة التي وصلت فيها القبائل الليبية للحكم لأوّل مرة ، لتؤسس الاسرة الثانية والعشرين ٩٤٥ – ٧١٥ ق م ، وما حمله المنفيون الرومانيون من إمكانية حضارية ، جعلتهم ينشئون حضارة امبراطورية في فترة قياسية ، لا يمكن ان تكفي مجموعة مبتورة لإنشاء مملكة ، لاسيما فيما يتعلّق بالقوانين ، كما انّ اندماج الرومان بالمعتقدات اليونانية – الفرعونية يثير الباحث ويفتح الباب أمامه واسعاً عن حقيقة الارتباط الحضاري والتاريخي بين هذه الامم .

انّ روما حين تمّ بنائها فتحت ابوابها للمطاردين والمهاجرين ، وصار كلّ الذين يهربون من العدالة والقانون في بلدانهم يلجأون اليها . ولعلّ الاغرب انّ ثلاثة من اهم ملوكها المؤسسين – رومولس و تركان الاول و سرفيوس تليوس – كانوا مجهولي الأصل ! . فيما قامت البلاد في توسعها وانتقال السلطة على المؤامرات والدسائس والقتل والغدر . وقد شهد اغلب ملوكها طعنة في ظهره ، وعانى الكثيرون من سياسييها وأمرائها جرعة من سمّ .

انّ كلّ ذلك – بالاضافة لما سيأتي من حقائق – يدفعني للاعتقاد بأنّ روما قامت على تحالف متعدد الجنسيات ، كان الملأ الفرعوني جزءاً مهماً منه ، بالاضافة الى عناصر يونانية تعتقد بذات الاعتقادات الفرعونية ، ومن أركانه أيضاً مجموعة من اليهود الذين هاجروا بسبب الحروب والصراعات والانهيارات التي اصابت مجتمعهم منذ الانقسام بحدود ٩١٣ ق م الى حوالي ٧٠٠ ق م ، اي قبل السبي البابلي الذي قضى على تاريخهم تماما ، وقد اندمج داخله مجاميع من العناصر الجديدة المنبهرة لقدرته التنظيمية .

وإذا كانت الامبراطورية الرومانية قامت بالمعنى الرسمي بحدود ٢٧ ق م فلقد كانت الفترة من ٧٥٢ ق م حتى هذا التاريخ ضرورية للوصول بالفكر الروماني للإمبريالية .

انّ الامبراطورية الرومانية هي الأصل الذي قامت عليه الأفكار الأوربية الحديثة ، وهي كذلك احد الأسباب بل والفلسفات التي أنتجت العقل الأوربي القائم على الأسس التصنيفية للبشر .

لكنّنا لن نجد كبير عناء في توصيف تلك الامبراطورية القديمة باخرى مستنسخة عنها معاصرة ، انها الإمبريالية الامريكية . فالشبه بين الدولتين كبير جداً جداً ، الى الدرجة التي يمكننا القول معها أنهما ولدتا عن عقلية واحدة لا عن عقليتين اجتمعتا صدفة . لقد تشكّلت كلتا الدولتين على يد مهاجرين يملكون مالاً ، هاربين من واقع ما ، ثمّ فتحتا ابوابهما للمهاجرين المطاردين والمنبوذين تماما . وابتدأت تلك الدول حضارتها بخداع الشعوب الأصلية وقتلها ، وكلنا يعرف ما فعله الأمريكيون بالهنود الحمر ، السكان الأصليين للقارة الامريكية ، لكن الباحث فقط من يعرف انّ الرومان قاموا بخداع ( السابنيين ) ، السكان الأصليين لمنطقة روما ، ومن ثمّ قتلوا رجالهم ، واستولوا على بناتهم ونسائهم ، قبل ان يدخل الطرفان في صلح قائم على المصلحة والامر الواقع . وانقسم المجتمع عند تأسيس الدولتين – واستمرّ تأثير ذلك لاحقاً – الى أشراف وعوام ، أغنياء وفقراء ، أثرياء رأسماليين واجراء وعبيد . ولم يكن فيهما قانون يحدد الحكم في شخص ما وعائلة تتوارث ، وإنما كان بإمكان كل الذين يبرزون كقادة في الحروب ، او اصحاب الثروات ، او ذوي النفوذ ، ان يصلوا الى حكم البلاد ، لكنّ الامر في الدولتين ظلّ يدور على الدوام في عوائل ومؤسسات محددة ، في آلية غريبة جدا ، حيث يحكم شخص ما ثمّ بعد فترة من الزمن يعود فرد من أسرته للحكم ، وقد يصل من هو خارج الاسرة لكنّه ضمن دائرة المال والنفوذ لها . امّا الصورة التي اختارتها كلتا الدولتين للحكم فكانت متطابقة ، حيث الرئيس الأعلى ، ومجلس الشيوخ ، الذي هو قائم على مؤشرات اجتماعية خاصة ، وكذلك مجلس النوّاب العموم ، والخاضع لتأثير المال والنفوذ . انّ المجتمعين اختارا نظاماً هجيناً بين الديمقراطية والأرستقراطية ، بمعنى للشعب حقّ الاختيار ، لكن ضمن دائرة الاشراف واصحاب الأموال فقط . ومن الطريف انّ المجتمعين لم يجعلا الشرف والنبالة حكراً عائليا ، بل اعتمدوا في هذا التوصيف على مقدار الثروة في زيادتها ونقصها ، لذلك كان الاشراف وذوو النفوذ يتغيرون في الدولتين ، مع بقاء العوائل المؤسسة ضمن هذه الدائرة . فيما قسّمت الدولتان العالم الى أقاليم ، قريبة وبعيدة ، بعضها يخضع لمجلس الشيوخ ، وبعضها يخضع لاوامر الإمبراطور ، وتبعاً لهذه القسمة كان يتم تصنيف الحقوق ايضا ، فليس للأقاليم الخاضعة للإمبراطور – وهي الامم والشعوب الاخرى المختلفة – ذات الحقوق التي للرومان الذين يشرف عليهم مع الإمبراطور مجلس الشيوخ ، وكذلك الحال ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم . ولم يكن للامبراطوريتين من حدود حقيقية ، وليس هناك تعريف واضح لنفوذهما ، لذلك اعتمدوا تماماً على العسكرة ، والتزموا تجييش شعبيهما بكل الوسائل والاليات ، فكانت لهما فرق دائمية خارج الإطار الجغرافي للسلطان السياسي ، كما كان لهما أسطول ضخم جدا . لقد تميّزت الإمبراطوريتان الامريكية والرومانية – عن سواهما – بوجود جيوش شبه مستقلة تنوب عن سلطتهما المباشرة في مختلف بقاع العالم ، وقد غيّروا بذلك نظام الحاميات الصغيرة . وفيما يبدو الانتشار العسكري الامريكي اليوم واضحا ، او شبه واضح ، فالانتشار الروماني لم يكن اقل منه ، فقد كانت الجيوش الرومانية تمتد ضمن العالم القديم بما يشبه الانتشار المعاصر ، كانت هناك فرق في شمال شرق إيبيريا ، والقطاع الغربي من افريقيا ، امّا اهم الفرق الرومانية فكانت في مصر ، وفي سوريا ، وعلى الراين والدانوب الأعلى . فيما كان تجهيز الجيوش الأجنبية للقتال بالنيابة أمراً طبيعياً لدى الإمبراطوريتين .

اما النظام الاداري للأقاليم الرومانية فهو اقرب ما يكون الى نظام الامبراطورية البريطانية ، حيث أقاليم وطنية ، تتبع للسلطة المشتركة بين الإمبراطور ومجلسي الشيوخ والعموم ، واقاليم تابعة شبه مستقلة ، تخضع لإحدى سلطتين ، نائب عن الإمبراطور ، او ممثلين عن عموم الدولة ، بحسب الأهمية الجيوسياسية للإقليم ، حيث كانت مصر تأتي في المرتبة الاولى ، وتخضع للسلطة الامبراطورية مباشرة ، فيما أقاليم مثل الالب وموريتانيا فكانت خاضعة لسلطة الخيّالة العامَّة .

لقد كان الإمبراطور والقناصل والقضاة والحكّام هم الوجود الفعلي للدولة الرومانية ، ولم تكن للدساتير – مثل دستور انطونين – من أهمية واقعية بالنسبة لمن هو خارج هذه الدائرة ، كما لم يكن للمثل الانسانية المكتوبة من دور فعلي في حماية الأقاليم التابعة وسكّانها ، وكأننا نعيش الخداع الكلامي المعاصر الذي يأتي من عالم الدول الكبرى ، حيث يتم استغلال القيم الانسانية لسحق كرامة الانسان في العالم . فالدولة الرومانية لم تكن ديمقراطية أبداً ، بل هي دولة أرستقراطية ، إِلَّا انها أرستقراطية تمزج بين الأرستقراطية الملكية البريطانية المعاصرة والأرستقراطية الرأسمالية العسكرية الامريكية الحديثة . لذلك لم يكن من الصعب على طبقة من رجال الكهنوت المصري التغلغل الى عمق العقائد الشعبية ، اذ هي أخضعت العوائل الحاكمة لسلطانها الباطني ، بما يشبه الكهنوت الذي تمثّله المسيحية الجديدة في السياسية الامريكية ، والممتزجة باللوبي اليهودي للكبّاليين ، في عملية إذابة للعقل العام بانسيابية وبطئ ، حيث احتكار المال والتشريع القانوني والسلطة العسكرية بيد مجموعة من العوائل . وقد كانت القوانين خاضعة في مجملها للسلطة الامبراطورية ، وكذلك سلطة العوائل الكبرى ، فيما يشبه الاتفاق القائم على المصالح المشتركة ، وحتى حين صار للعموم مجلسهم كان خاضعاً لتأثير المال والإعلام الأرستقراطي ، ومحتاجاً للأثر العسكري ، لذلك لم تكن هناك من ديمقراطية حقيقية ، لا على المستوى التشريعي ، ولا على المستوى العملي ، ورغم انّ القانون لا يحتكر الوجود الإمبراطوري في عائلة محددة الا انّ الوصول الى ذلك المنصب – ومنصب القنصل – كان خاضعاً للواقع الأرستقراطي والعسكري ، وهذا شبيه بنسبة كبيرة للواقع الامريكي المعاصر عند تحليله .

انّ اكثر الخدع الحكومية الطويلة الامد شبهاً بين الإمبراطوريتين الامريكية والرومانية كانت ترتبط بالنقد والعملة ، حيث اجبرت عسكرة المجتمع في الدولتين وتزايد ضخامة الإنفاق العسكري الحكومتين على توفير المزيد والمزيد من النقد . الا انّ النقد لم يكن لعبة عبثية ، فقد كان ذهبيّاً ، او مقوّماً بالذهب ، ولاحقاً بالعين المملوكة ، ولأنّ الدولتين لم تملكا موارداً توازي انفاقهما العسكري فقد اضطرتا الى خلق التضخم ، حيث القيمة الوزنية للعملة لا تساوي قيمتها الاسمية ، ولم يكن من داعم لوجود هذه العملة الا الكفالة السياسية ، التي هي عرضة للانهيار . لقد كانت هذه السياسة النقدية واضحة في زمن ( كاركلا ) ، الذي أوجد عملة ( انطونينيانوس ) الهزيلة ، لسدّ نفقات الجنود التي زادت بنسبة ٢٥ ٪ عام ٢١٥ م . فيما حاول ( اورليانوس ) تحديد قيمة العملة اسميّاً بشكل تحكّمي . وهذا الامر الأخير بالضبط هو ما تفعله الامبراطورية الامريكية الحديثة منذ عشرينات القرن العشرين ، حيث أسقطت الكفالة الذهبية والعينية عن عملتها الورقية ، بعد التضخم العسكري والرغبة الاستعمارية الناشئة فيها ، والتي تطورت كثيراً بعد الحرب العالمية الثانية ، وصارت العملة مقوّمة بتوقيع البنك الفدرالي فقط ، وهو بنك مملوك لافراد أرستقراطيين ، وبالتالي فهي عملة ليس لها من قيمة فعلية . ولأنّ العملة الامريكية ( الدولار ) صارت مقوّماً للعملات الاخرى في اغلب الدول فالعالم اصبح في حقيقته خاضعاً لتلك العوائل الأرستقراطية المالكة ، بسياستها ورغباتها ، بل وعقائدها . وهنا تكمن خطورة النظام النقدي وبالتالي المالي العالمي المعاصر ، الذي من الممكن ان ينهار في اي لحظة مجنونة .

امّا الرأسمالية المرابية في الدولتين فكانت هي الميزة الواضحة للمجتمع بكلّ طبقاته واعماله ، ولانّ نظام البنوك المعاصر واضح في قيامه على الربا والإقراض ذي الفوائد المجحفة ، حيث تتم اغلب المعاملات السوقية عبر نظام البطاقة الالكترونية ذات الرصيد المسبق ، بقي ان نشير الى الوضع إبّان الدولة الرومانية ، حيث كانت الطبقة الأرستقراطية تسترقّ الشعب وتستعبد الجماهير عبر الاقراض ذي الفوائد المتزايدة ، مما استدعى قيام الجمهور الروماني بانتفاضة ، كان من شأنها امتناعهم عن الالتحاق بالقوات الخارجة لمواجهة ( تركان الخائن ) ، ما لم يتم إعفائهم من بعض تلك الديون الثقيلة القائمة على الفائدة المتزايدة أساسا ، مما اضطرّ مجلس الشيوخ الى اعلان الحكومة الدكتاتورية لأشهر عديدة ، وفرض التجنيد بالقوة ، وفي عهد القنصل ( كلاوديوس ابيوس ) الثري المرابي زاد الضغط على الجمهور ، الى الحد الذي جعلهم يمتنعون عن مواجهة قوات ( الفولسك ) الغازية . ومن ثمّ قام الأهالي بالثورة عدة مرات ، واعتصموا عند ( الجبل المقدس ) وعند جبل ( افانتان ) ، ودخل معهم مجلس الشيوخ في مماطلة وصراع لأكثر من قرنين ، حتى صار لهم ممثلون في القنصلية . لكن الغريب انّ مجلس الشيوخ وعوائله الأرستقراطية كانت تقوم بضرب سمعة ممثلي الشعب وقادة ثورته اعلاميا ، كما اليوم ! ، وبطريقة تجعل الشعب يتصارع مع قادته الثوريين ، الذين تصوّرهم الماكنة الإعلامية كخونة للبلد ، كما حدث مع ( سبوريوس كاسيوس ) .

وقد كانت الإمبراطوريتان الامريكية والرومانية ناجحتين جداً في استقطاب الشعوب المقاتلة عنهما بالنيابة . فامريكا من خلال حلف الناتو او غيره من الأحلاف ، ومن خلال الجواسيس والحكّام والملوك المتعاملين معها ، تشنّ حروباً كثيرة ، كما هي الحال ايّام الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي ، وكحرب العراق مع ايران ، وحرب القاعدة ضد القوات الروسية في أفغانستان ، وحرب داعش ضد المسلمين المعادين لامريكا . امّا الرومان فقد استقطبوا مئات الآلاف من الشعوب المقاتلة تحت رايتهم ونيابة عن الإمبراطور ، فكان هناك ( الباتانيون ) من جرمان الراين ، الذين خدموا ضمن جيش ( جرمانيكوس ) ، وهناك أيضاً ( الفاندال ) الذين أوكل اليهم الرومان امر استعادة النظام في بريطانيا ، فيما يمكننا ان نقبل انّ الجيش الروماني قد تمت ( جرمنته ) من خلال القبائل والشعوب الجرمانية المستوطنة ، لكن كان هناك أيضاً الآلاف من البربر ، وايضاً ممالك عربية كبيرة وشرسة كالغساسنة ، فيما أيضاً مجموعة كبيرة من الشعوب الأوربية المشاركة .

ليست الدولة الرومانية جامعة لجنس او دين ، لكنها كالولايات المتحدة الامريكية تماما ، دولة هجينة ، شكّلتها أقلية عنيفة ، جعلت من نفسها المحور الوطني ، وانتشرت فيها مجاميع بشرية تختلف من حيث الجنس والدين . نعم كان هناك اليوناني الروماني والإسباني الروماني والغالي الروماني والجرماني الروماني واللاتيني الروماني ، وغيرهم من الأجناس ، فيما كانت الوثنية تستمد جذورها مرة من مصر ، ومرة من اليونان ، واُخرى محلية ، حتى اليهودية كانت موجودة ، وأخيراً ظهرت المسيحية والإسلام .

عقائد الدولة الرومانية الوثنية

من الواضح جداً – كما استعرضنا سابقا – انّ الديانة الرومانية كانت وثنية ، لكنّها لم تكن صنمية ساذجة ، بل كانت نسخة عن الديانة المصرية النجمية الفلكية ، القائمة على أسس هندسية ورياضية ، تتعلق بالأرواح والقوى في العوالم البُعدية الاخرى ، المؤثرة في قوى العالم الطبيعي . وسيأتي لاحقاً كيف انّ الرومان حاولوا استنساخ الديانة المصرية الفرعونية ، مع عصرنتها ، ومع رومنتها ، فابقوا على مضمون الآلهة ، لكن مع تغيير المسميات في الغالب ، لتتناسب والإقليم الأوربي ، او لغرض عولمتها . لذلك تقبّل المصريون – وتواجد كهنتهم – المفاهيم الدينية الرومانية ، كما تقبّلوا من قبل المفاهيم الدينية اليونانية ، وساعدوا كليهما على النهوض والعولمة .

وقد اقتبس الرومان عن اليونانيين عبادة بعض الهتهم ، كالاله الرئيسي ( جوبيتر ) او المشتري ، الذي أقاموا لها معبداً في القدس مكان الهيكل في ١٣٥ م ، بعد القضاء على الثورة اليهودية . وعنونوا لكلّ واحدة من قوى الطبيعة إلهاً ، او باباً بصورة ادقّ ، كما كان يفعل المصريون . وقد قدّسوا أيضاً المريخ والزهرة ، وغيرها من الكواكب والأفلاك ، فيما اعتمدوا على الطوالع الفلكية بصورة تكاد تكون ملازمة . و كانوا يحتقرون الديانات التوحيدية اليهودية والمسيحية ومن ثم الاسلام بصورة كبيرة ، الى الدرجة العنفية الدموية الأقرب الى الإبادة ، كما في حروبهم الكبيرة على اليهودية ٦٦ – ٧٠ م ، حتى انهم نشروا معابد الآلهة في عموم الارض المقدسة ، وفي محاولتهم إبادة المسيحيين في القرن الاول ، بعد ان أرادوا – بالتعاون مع المنحرفين من اليهود – محاكمة المسيح ذاته وصلبه ، وفي حروبهم الكبيرة ضد الدولة الاسلامية الناشئة ، والتي استمرت لعقود طويلة .

فيما كان للعرافة والتنجيم وجودهما المحوري في الحياة السياسية والاجتماعية الرومانية ، فعند فتح اساسات ( الكابيتول ) وحين عثر عمَّال البناء على رأس إنسان رأى المنجّمون انّ هذا يعني بأنّ ( روما ) سيكون لها شأن عظيم وستكون مقرّ السلطان العالمي . ولم يكن من المستغرب أنْ تظهر في عهد ( تركان الثاني ) ذلك الحاكم الظالم امرأة متكهنة ، عرضت عليه تسعة من الكتب التنبئية ، القائمة على العرافة والتنجيم او غيرها من فنون معرفة المستقبل ، بسعر معيّن ، وحين رفض احرقت ثلاثة منها ، وعرضت الستة الباقية مرة اخرى وبسعر التسعة جميعا ، لكنّه حين رفض أيضاً احرقت ثلاثة أخريات ، وابقت على سعر اخر ثلاثة ذاته سعر التسعة ، فاخذهنّ ( تركان الثاني ) ، ووضعهنّ في خزانة خاصة تحت ( الكابيتول ) ، وعيّن لحراستها اثنين من الاشراف . فيما أرسل هذا الملك ولديه الى اليونان ليسألا اكبر متكهناتها عمّن سيخلفه في الحكم ، وكان يرافقهما ( بروتوس ) الذي فهم رسالتها وراح يقبّل الارض الامّ ، ليكون خليفة لتركان الثاني ، وكان ذلك فعلا . ولعلّ ذلك شبيه بما كان يفعله اليونانيون بنحو الاستمرارية والوراثة ، كما في قصة ( كرويسوس ) وكاهنة ( دلفي ) ، قبيل حربه مع ملك الفرس ( قوروش ) الهجين .

وقد كان الرومان يعتقدون انّ الهتهم تشاركهم في معاركهم الكبيرة ، لذلك لم يكن النصر سوى اثر لذلك الوجود الماورائي ، كما في رؤيتهما لحضور الإلهين ( كستور ) و ( بولوكس ) ، الذين أقيم لهما معبد في الفورم .

امّا في زمن الامبراطورية فقد كان الرومان يعتقدون ما اعتقده المصريون في الفرعون ، من حيث ارتباطه بعالم الآلهة ، واعتباره الباب الذي يُفتح الى جهتها ، وهو أيضاً الناطق والحاكم باسمها . وقد كان أيضاً الإمبراطور – او رئيس الدولة – هو الكاهن الأكبر .

وهنا يظهر انّ الرومان ورثوا رسمياً الخط البشري القابيلي ، الذي يؤمن بما وراء الطبيعة ، لكنّه لا يؤمن باسس الديانات التوحيدية ، او لنقل بما يؤمن به الخط الآدمي الشيتي . لذلك اعتمد الرومان ذات الأسس الفرعونية في معرفة مراد الآلهة ، فتورّطوا مع ما سمّته الأديان التوحيدية ( عالم الشياطين ) .

امّا الآلهة المصرية فقد دخلت روما منذ وقت مبكّر ، طريقها المعلوم هو يونانيو جنوب إيطاليا ، الذين تغلغلت اليهم بصورة واضحة حتى صارت معابدها تقام في كلّ مكان ، امّا طريقها الاخر الذي أراه فكان على يد تلك الأسر التي بنت روما ذاتها ، وقد جائت مهاجرة . ولم يكن ذلك التغلغل في العبادة إِلَّا الصورة الظاهرة لعقيدة باطنية تقوم على الأسس المشفّرة ، للتواصل مع العوالم الاخرى . لذلك يمكننا القول انّ الآلهة الفرعونية المصرية – بطقوس التواصل معها – قد أضحت آلهة روما فعليا .

لم يكن الشعب الروماني يلتئم في المجامع الّا في الأيام التي تسمح له الآلهة فيها بذلك . وفي ( روما ) كان لابد قبل دخول جلسة مجلس الشيوخ من تأكيد المستخيرين انّ الآلهة راضية . وكان المجمع يبدأ بصلاة يتلوها المستخير ويكررها القنصل بعده . وكان المكان الذي يجتمع فيه مجلس الشيوخ هو احد المعابد دائما . وإذا عقدت جلسة في مكان اخر غير مقدس فإنّ القرارات المتخذة يلحقها البطلان . حيث لم تكن الآلهة حاضرة . وقبل كل مداولة يقدم الرئيس قرباناً ويتلو دعاءاً . وكان في القاعة مذبح يريق عليه كل شيخ السكائب عند دخوله ويدعو الآلهة . وهذا بالضبط يشبه ما يحدث في اجتماعات ( المحافل الماسونية ) اليوم .

ويوجز المؤرخ ( شاف ) حقيقة العبادة في روما بعبارته ( كانت العبادة الوثنية تتداخل في كل مرافق الدولة الرومانية ، كخيوط النسيج الواحد المغزولة معا . بل لقد جعلت من الدين اداة لسياستها ) .

العلاقة بين مصر وروما

اذا كانت الامبراطورية في روما فلقد كانت الحكومة في مصر ، هكذا باختصار هو حال الأمة الرومانية ، وهكذا كانت العلاقة بين الاقليمين . ولأنْ كانت موارد الامبراطورية الاقتصادية قد اعتمدت على مصر بصورة محورية ، فإنّ موارد الامبراطورية الدينية كذلك اعتمدت على مصر أيضاً – بشقّها اليوناني – .

أخذ الرومان عن الإغريق الكثير حضارياً ودينيا ، كما أخذوا عن المصريين في ازمنة مختلفة . وكانت آلهة الفراعنة مثل ( إيزيس ) و ( آمون ) و ( سرابيس ) قد انتشرت في عموم الاراضي اليونانية ، كما في ( بيريوس ) و ( ديلوس ) و ( ميليتوس ) و ( هاليكارناسوس ) و ( اثينا ) و ( ايوبيا ) ، فيما ظهرت الآلهة ( إيزيس ) على العملة الأثينية عدة مرات ، ورغم فقدان مصر لتأثيرها المباشر في عهد ( بطليموس الثالث ) إِلَّا انّ عقيدة الاله ( سرابيس ) التي ولدت في الاسكندرية لم تتوقف عن الانتشار في حواضر الجزر اليونانية ، ومنها الحاضرة الرومانية الوارثة .

في عهد ( سولا ) كان للاله المصري الكبير ( أوزوريس ) كهنة في قلب روما ، وتواجدت الآلهة المصرية الأشهر ( إيزيس ) في قلب الصراع العقائدي والسياسي الروماني .

لكن من الواضح جداً انّ هناك محاولات عديدة جرت لردع هذا التغلغل الباطني المصري الفرعوني ، كما حدث بين عامي ٥٨ و ٤٨ ق م ، وكما في حملة ( اجريبا ) لتحريم عبادة الآلهة المصرية ضمن الف مرحلة من روما . لكنّ هذا الصراع الحضاري الديني سار باتجاه انتشار اكبر للعقائد الفرعونية المصرية .

في عهد ( كاليجولا ) تمّ بناء معبد لإيزيس قرب روما ، وفي اثناء حكم ( فيسبسيان ) ظهر كل من ( سرابيس ) و ( إيزيس ) على العملة ، فيما وسّع ( دوميتيان ) معبد ( إيزيس ) ، التي بنى لها ( كاراكالا ) معبداً داخل المدينة ، وهي الآلهة التي وصل هيكلها الى قلب ( لندن ) في ذلك العصر ، وصار لها في روما عيد خاص في الخامس من مارس ، حيث يوضع تمثالها في قارب تحمله عربة تسير في شوارع روما ، في نسخة رومانية عن المسيرات الاحتفالية الفرعونية التي تحمل تماثيل الآلهة في الحواضر المصرية سابقا ، حيث كان تمثال الآلهة يُحمل على اكتاف الكهنة المتطهّرين حينها . ويبدو انّ هناك شخصاً يُدعى ( بلوتارخ ) قد ولد في مدينة ( خايرونيا ) اليونانية عام ٤٦ م ، قام بجهود كبيرة لزيادة رقعة الاعتقاد بقصة الآلهة ( أوزوريس ) و ( إيزيس ) في حدود الدولة الرومانية ، حيث أثمرت جهوده تلك بناء عدّة معابد لها ، وهو من التزم ان يكون مصدراً تفصيلياً لهذه العقيدة والقصة عند بداية التاريخ الميلادي ، بنحو يزيد عن السرد المصري القديم .

وفي الوقت الذي يكتب ( مينوكيوس فليكس ) عند القرن الثاني الميلادي ( انّ هذه الآلهة المختلفة – المصرية أصلا – أصبحت الان رومانية ايضا ) ، تشكّل كهنوت الآلهة في الامبراطورية المتأخرة من طبقة خبيرة ، بعض أفرادها كانوا مصريين فعلا ، كالمدعو ( حرنوفيس ) ، الذي عمل مع مركز القيادة الرومانية العامة في ( اكويليا ) ، ايّام الحروب ( الماركومانية ) ، الى جانب كهنة رومانيين . فيما استبدل واحد من أشهر ملوك الرومان ( يوليوس قيصر ) الذي حكم في منتصف الاول قبل الميلاد التقويم القديم بالتقويم المصري .

ورغم انّ معبد الآلهة الفرعونية ( حتحور ) قد بناه ( بطليموس التاسع ) إِلَّا انّ الرومان هم من اتمّوه في عهد تراجان . وتحكي قصة هروب ( بومبي ) عدو ( يوليوس قيصر ) الى مصر تلك الرابطة العضوية بين الحضارتين ، لا سيما عند إتمامها بقصة العلاقة بين ( يوليوس ) والملكة ( كليوباترا ) ، التي كانت تحكم مصر باسم البطالمة اليونان حينها ، حيث ساعدها على هزيمة اعدائها ، وأخذها في زيارة لروما ، مما يوحي بدائرة عضوية بين الأقاليم الثلاث . فيما تشير المكتشفات الاثرية انّ طقوس زيارة تمثال ( ابو الهول ) – التي كان يقوم بها الفراعنة المصريون – قد استمرت حتى نهاية العصر الروماني . وفي نهاية للصراع الذي نشب في عهود الاسرة المتأخرة في مصر – بما فيهم البطالمة – بين الكهّان والسلطة حول سلطان كل منهما قام الرومان بحصر الاشراف على الحياة الدينية عند احتلالهم مصر بيد كبير كهّان الاسكندرية ، والذي كان يشرف على التحركات الكهنوتية والعسكرية .

لقد رأى المعتقدون بالديانة الفرعونية القديمة انّ الفرعون كان جزءاً من حظيرة الآلهة ، وهو ظلّها على الارض ، وهكذا كان يرى المعتقدون بالديانة الرومانية في الإمبراطور . حيث انّ العبادة الامبراطورية التي تقوم على تأليه القيصر كانت سارية في كل ارجاء المملكة . وقد كان ذلك واضحاً في كم التشريفات التي نالها ( أوغسطس ) في حياته وبعد مماته . فيما كان ( دوميتيانوس ) غيوراً جداً على القيم الإلهية التي أضفيت على سلطته . امّا ( ديوكلتيانوس ) فقد طالب باحترامه على نحو العبادة ، باعتباره ( الكاهن الأعظم ) ، وراح يدعو نفسه ( رب = سيّد العالم ) ، وهذا نظير الخطاب الفرعوني [ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [الجزء: ٣٠ | النازعات (٧٩) | الآية: ٢٤] ، وطلب الى زوّاره السجود بين يديه ، ولم يكن يخطو دون اسرار الكهانة والعرافة . وقد يبدو ذلك غريبا ، حيث كان الفراعنة يحكمون بالوراثة ، لكنّ الاباطرة كانوا يصلون الى العرش الإمبراطوري عن طريق المؤامرة ، كما في عمليات الاغتيال والسمّ ، مثل عملية اغتيال ( كاليجولا ) ، او بالقوة ، كما في تنصيب ( ڤاسبيان ) ، فلماذا كانوا يحظون بهذا التقديس ؟! ، يبدو انّ جواب ذلك كان مرتبطاً بحقيقة ما عليه الديانة الرومانية من باطنية ، حيث كان عموم من وصلوا للعرش قد مَرُّوا بمرحلة من الطقوس الباطنية اللازمة ليكونوا متحدثين باسم الآلهة ، وكذلك هم يخضعون لذات الطقوس وأكثر بعد استلام العرش والتاج .

انّ الإمبراطور قد حمل سلطة ما فوق البشرية ، لكنها ليست سلطة الآلهة ، فهو المختار من قبل الآلهة ، الذي باستطاعته توفير السلام الالهي للإمبراطورية ، عن طريق التواصل مع العالم اللامرئي ، الذي يكفل التواصل معه سلام الامبراطورية وراحة الشعب الروماني ، وهذا بالضبط ما كان يعتقده شعب الفراعنة . غير انّ هذه السلطة ما فوق البشرية لم تكن ممكنة الادّعاء والسرقة ، وهي لم تكن لتنتقل عن طريق الدم في الاسرة الواحدة ، بل تخضع لقدرة المرشّح على ممارسة الطقوس المتعلقة بضرورة التواصل مع الآلهة ، او القدرة على الصمود في قدس الأقداس . لذلك بعد وفاة ( ليبيدوس ) في ١٢ ق م لم يكن هناك معترض على حصر الزعامة الدينية الكبرى والتشريع الديني بيد الإمبراطور ، بالاضافة لمهامّه كقائد اعلى للجيوش والسياسة ، لكن ذلك لم يمنع ضرورة ان يكون للإمبراطور الكفاءة اللازمة لإدارة الحكم ، والّا تعرّض للاغتيال او الخيانة .

لقد كانت روما في عهد قيصر ممتلئة بالآلهة المصرية ، وهذا قد يكون وارداً في عالم اقتباس المعبودات ، لكن ان تقام فيها أيضاً مجموعة من ( المسلّات ) المصرية التي ليست تُفهم – وثنياً – إِلَّا وفق معادلة التواصل الماورائي المصري ، القائمة على أساس ميتافيزيائي ، فذلك يثبت انّ الديانة الرومانية أخذت الكثير عن الفرعونية الباطنية .

ورغم تمتع الدولة الرومانية بنسبة استقرار هي الأكبر عالمياً حينذاك ، إِلَّا انّ الغريب فعلاً هو المآل الذي وصل اليه أباطرتها ، فطيباريوس خنقه جنده ، و كاليجولا قتله حرسه ، و كلوديوس مات مسموماً بفعل زوجته ، ونيرون منتحرا ، واخرون قتلهم جندهم ، او ماتوا منتحرين ، او تمّ إعدامهم من قبل الشعب . ومن الغريب حدوث ذلك في دولة أشبه ما تكون بدول حديثة كالولايات المتحدة الامريكية او المملكة المتحدة .

ولعلّ المشترك الأهم بين الديانتين الفرعونية والرومانية كان مبدأ ( العرافة ) ، بمعنى التنبّأ بالمستقبل ، ولم يكن بنحو ساذج كما هو الحال في بعض مدّعي ذلك اليوم ، بل كان قائماً على قياسات فلكية وماورائية ، احتاجت الى انشاء مدارس ، كما خضع أصحابها لمراحل من التعلّم وادراك طرق التواصل مع الآلهة المفترضة .

المشترك الاخر بين الفراعنة والرومان كان ملفتاً للنظر ، فهم رغم انتصاراتهم وقوتهم العسكرية – في أوجها – لم يحاولوا إقامة حاميات عسكرية دائمة في بلاد ما بين النهرين ( العراق ) ، على عكس ما فعله الإسكندر المقدوني ، الذي اختار بابل مركزاً لتحركه في اسيا ، ثمّ اختار ان يموت فيها . والذي أراه انّ هذه العلاقات المختلفة بين الجانبين مع العراق كانت قائمة على أسس عقائدية تاريخية ، تدخّل في إيجادها خضوع الإسكندر لأساتذة ينحدرون عن المدرسة الرافدينية علميا ، مثل ( أرسطو ) ، الذي استدعاه الملك المقدوني ( فيليب الثاني ) لتعليمه ، فيما كان الرومان – تبعاً للفراعنة – يستشعرون العداء العقائدي مع الشعب العراقي ، فضلاً عن العداء السياسي ، الذي كان من الممكن معالجته بنحو ما تمّ في البلدان التي احتلتها هذه الدول لولا الرسوخ التوحيدي للعقيدة العراقية .

وقد وجدت التمائم الفرعونية السحرية مساحة كبيرة للانتشار في العصرين اليوناني والروماني . ومثال ذلك رواج ( لوحات حورس ) ، التي هي لوحات صغيرة الحجم ، زوّدت بحمالة في احد اطرافها ، يتم عليها تصوير الاله الفرعوني ( حورس ) . وهي رغم وجودها منذ عهود قديمة ، لا سيما في عهد الاسرة التاسعة عشر ، إِلَّا انها لاقت رواجاً كبيراً في العهد الروماني ، واستمرت حتى العهد القبطي . وكانت هذه اللوحات تُستخدم للحماية من المخلوقات الضارّة او المفترسة .

انّ الآلهة الفرعونية التي أخذت عند اليونانيين والرومان اسماءً جديدة ، كما هي عادة هذين الشعبين في تغيير المسميات ، ظلّت داخل مصر تحمل أسمائها الأصلية ، مثل ( حورس وابوللونيوس ) و ( باخوم وهيراكس ) ، او اسماءً هجينة للتوفيق بين الجانبين الشعبي والرسمي مثل ( سيرابيس حابي ) .

علاقة الرومان باليهود

في مصر انقسم بنو اسرائيل الى طائفتين ، يتبع كلّ واحدة منهما طائفة اخرى ، الاولى من الباقين على إيمانهم الإبراهيمي ، تتبعها فئة تعتقد بما في الاولى ، لكنّها علمانية دنيوية ، والثانية مفتونة بالسحر والشريعة الفرعونية ، تتبعها فئة صارت تبحث عن الله بآليات فرعون . ورغم احتدام الصراع بين الطائفتين الاولى والثانية ، لكنّه لم ينتهِ بوضوح ، بل استمرّ ، حيث يقود الطائفة الاولى الأنبياء والصالحون ، فيما يقود الطائفة الثانية أيضاً من صوّروا أنفسهم كقادة دينيين ، يعرفون اسرار ما جاء به الأنبياء ، او ما جاء به موسى .

[ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [الجزء: ١٦ | طه (٢٠) | الآية: ٨٥] ، [ فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا ۚ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَٰلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَٰذَا إِلَٰهُكُمْ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ [الجزء: ١٦ | طه (٢٠)] .

فيما كانت النتيجة ان يصل الصراع الى غلبة الطائفة الثانية ، من السحرة ، لكن بعنوان الطائفة الاولى ، بمعنى أوضح تمت ( سرقة ) الديانة التوحيدية من قبل كهنة الإسرائيلية الجديدة .

لذلك لم يكن الشعب اليهودي – حتى اليوم – قادراً على معرفة ما يكون ، او أين يتِّجه ، ولماذا هو معادٍ لهذا ألكم من الامم ، فقط كهنته هم من يدركون ما يجري .

يكتب ( اسرائيل شامير ) في مقدّمته عن ( الكبّالا ) : (( … على نحو مماثل ، نادراً ما يفهم يهودي ما او يفهم ما يريده اليهود من أنفسهم ومن البشرية المحتارة . هذا العجز عن الفهم يؤدي بكثير من الرجال والنساء الطيبين لإعلان دعمهم ( او معارضتهم ) الى الجسم السياسي المدعو ” اليهود ” . ان تولد وتترعرع كيهودي لا يساعدك على الفهم ، تماماً كعدم فهمك لخطط الأركان العامَّة لمجرد كونك احد أفراد القوات الخاصة … )) .

فيما يتحدّث المؤرخ اليهودي ( موريس فيرجون ) ضمن كتابه ( اليهود في مصر ) : (( … وَمِمَّا يفخر به اليهودي انّ له نسباً عريقا ، وسواء أكان يسكن بولندا ام اسبانيا ، في وسعه ان يقول : انّ آبائي سكنوا الصحراوات في مصر وروما وأثينا واسبارطة ، وتلك البلاد التي كانت مواطن المجد العالمي الغابر الزائل )) .

لقد كان للفترة التي اعقبت انكسار الهكسوس في مصر اثرها على المجتمع الاسرائيلي ، الذي فيما يبدو لم يكن قد شارك في مساعدة الهكسوس ، لذلك هو لم يهاجر معهم خارج مصر بعد الانكسار ، لذلك يمكننا القول انّ هذا المجتمع فقد الهوية منذ وقت مبكّر . نعم ، لقد خضع المجتمع الاسرائيلي للاستعباد من قبل الفراعنة ، كضريبة لاشتراكهما في الأصل ( السامي ) والعقائدي التوحيدي . وبالتالي اسهم الاسرائيليون في خدمة المشاريع الفرعونية بصورة كبيرة .

بعد احتلال كورش الاخميني إمبراطور الدولة الفارسية للعراق والشام امر بفتح الطريق امام اليهود للعودة الى القدس ، وسمح لهم ببناء الهيكل . إِلَّا أنّ اليهود لم يعد منهم – كما ينقل البعض – الا المتعصبون . وحين شرع هؤلاء ببناء الهيكل احتجّت الأقوام المجاورة ، من حوريين وحيثيين وعمونيين وادوميين ، وهددت بالعصيان ، مما اضطرّ ( سمرديس ) خليفة ( قمبيز الثاني ) الى إيقاف اعمال البناء .

انّ المثير في هذه الأحداث هي الأوامر الامبراطورية الفارسية ببناء الهيكل على نفقة بيت مال الملك ! ، وكذلك الاحتجاج الكبير للأقوام المجاورة لارض الهيكل ، والذي يكشف عن شعورها بمجموعة اخطار مشتركة ! .

لقد أعاد ( دارا الاول ) ملك الفرس البناء في عهده ، وهو اصرار غريب من قبل هذه الدولة على انشاء الهيكل ، الذي أنهت مظاهر طقوسه الدولة البابلية . وقد نال اليهود العائدون الذين استوطنوا القدس ( أورشليم ) امتيازات خاصة من الدولة الفارسية ، فيما بقي اليهود الذين فضّلوا البقاء في العراق يجدون في أعمالهم التجارية الجديدة حافزاً للمضي في حياتهم الرافدينية .

ثمّ ظلّ اليهود تحت حكم احدى الدولتين اليونانيتين ، السلوقية في الشام ، او البطلمية في مصر . وقد استطاعوا من خلال استغلال الصراع بين الدولتين المختلفتين سياسياً أنْ يقيموا حكماً كهنوتياً ذاتيا ، يبدو انّه استعر في هذه الفترة ، معتمداً على الطقوس الباطنية المستوردة ، ومرتكزاً الى ظلموت الانفس الشيطانية لكهنة بني اسرائيل الجدد . حتى قام الملك السلوقي ( انطيوخس الرابع ) بتدمير الهيكل وإفراغ خزائنه ، مما يكشف عن استفزاز خاص كان يتسبب به هذا الهيكل للجميع ، الى الحد الذي جعل منه مقصداً للأيدي العسكرية الضاربة ، وكذلك الاحتجاجات الشعبية المختلفة .

وبعد فترة المكابيين الثورية سقطت القدس – كما الشام وممتلكات الدولة السلوقية – بيد الرومان ، فخضع اليهود في القدس لفترة اخرى من فترات الالتحام والتعارف . وفي عهد ( يوليوس قيصر ) تمتع اليهود بحكم كهنوتي ذاتي . ومن الغريب أيضاً ان يقوم ( هيرودس الادومي ) الذي عيّنه الرومان ملكاً على يهودا ببناء الهيكل مرّة اخرى ، رغم انّه كان مبغوضاً من قبل اليهود ، لنشره الأصنام والطقوس الوثنية في فلسطين ! ، فكيف يأمر مثله ببناء ( بيت الرَّبّ ) إِلَّا اذا كان بيتاً لأصنام الربّ ! .

وبعد وفاة هيرودس توّلى على يهودا مجموعة من الموظفين الرومان ، وفي عهدهم ولد السيد المسيح ، وفي عهدهم أيضاً تمت محاكمته ، بعد الغلّ الكهنوتي اليهودي ضدّ وجوده .

ومن النافع ان نتناول محاكمة السيد المسيح ذاته لكهنة اليهود الظلموتيين في الهيكل قبل ان تتم محاكمته من قبل الرومان ، ومنها نعرف مدى الخطر الباطني والدنيوي الذي وصله هؤلاء المتحدثون باسم الله ، [ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ . وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ] [ القرآن الكريم : الصف ، 6 – 9 ] .

جاء عيسى عليه السلام وأحوال بني إسرائيل في غاية من الفساد والإفساد. فعقائدهم قد طمست، وأخلاقهم قد رَذُلَتْ، وسيطرت عليهم المادية، حتى إنهم اتخذوا من المعبد سوقاً للصيارفة والمرابين، وملهىً لسباق الحمام.

(21: 12 و دخل يسوع الى هيكل الله و اخرج جميع الذين كانوا يبيعون و يشترون في الهيكل و قلب موائد الصيارفة و كراسي باعة الحمام 21: 13 و قال لهم مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى و انتم جعلتموه مغارة لصوص ) متى .

فأخبرهم بأن العقوبة الثانية قادمة إليهم على إفسادهم الثاني : ( يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوَذاَ بيتكم يترك لكم خراباً ) .

توجه المسيح عيسى عليه السلام الى الهيكل , وهو رمز بني اسرائيل في اورشليم , ليعلن ذلك الاعلان الاخير في بني اسرائيل , لكن يجب اولا ان يحتج على كهنة هذا الميراث من الانحراف , على قتلة الانبياء باسم الدين 🙁 21:23 و لما جاء الى الهيكل تقدم اليه رؤساء الكهنة و شيوخ الشعب و هو يعلم قائلين باي سلطان تفعل هذا و من اعطاك هذا السلطان 21: 24 فاجاب يسوع و قال لهم و انا ايضا اسالكم كلمة واحدة فان قلتم لي عنها اقول لكم انا ايضا باي سلطان افعل هذا 21: 25 معمودية يوحنا من اين كانت من السماء ام من الناس ففكروا في انفسهم قائلين ان قلنا من السماء يقول لنا فلماذا لم تؤمنوا به 21: 26 و ان قلنا من الناس نخاف من الشعب لان يوحنا عند الجميع مثل نبي 21: 27 فاجابوا يسوع و قالوا لا نعلم فقال لهم هو ايضا و لا انا اقول لكم باي سلطان افعل هذا 21: 28 ماذا تظنون كان لانسان ابنان فجاء الى الاول و قال يا ابني اذهب اليوم اعمل في كرمي 21: 29 فاجاب و قال ما اريد و لكنه ندم اخيرا و مضى 21: 30 و جاء الى الثاني و قال كذلك فاجاب و قال ها انا يا سيد و لم يمض 21: 31 فاي الاثنين عمل ارادة الاب قالوا له الاول … )

وهنا اظهر السيد المسيح حقيقة هؤلاء الكهنة : ( … قال لهم يسوع الحق اقول لكم ان العشارين و الزواني يسبقونكم الى ملكوت الله 21: 32 لان يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به و اما العشارون و الزواني فامنوا به و انتم اذ رايتم لم تندموا اخيرا لتؤمنوا به ) .

واردفهم بمثل آخر يحرق اوراقهم : (21: 33 اسمعوا مثلا اخر كان انسان رب بيت غرس كرما و احاطه بسياج و حفر فيه معصرة و بنى برجا و سلمه الى كرامين و سافر 21: 34 و لما قرب وقت الاثمار ارسل عبيده الى الكرامين لياخذ اثماره 21: 35 فاخذ الكرامون عبيده و جلدوا بعضا و قتلوا بعضا و رجموا بعضا 21: 36 ثم ارسل ايضا عبيدا اخرين اكثر من الاولين ففعلوا بهم كذلك 21: 37 فاخيرا ارسل اليهم ابنه قائلا يهابون ابني 21: 38 و اما الكرامون فلما راوا الابن قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلموا نقتله و ناخذ ميراثه 21: 39 فاخذوه و اخرجوه خارج الكرم و قتلوه 21: 40 فمتى جاء صاحب الكرم ماذا يفعل باولئك الكرامين ) ، وحين اجابوه : (21: 41 قالوا له اولئك الاردياء يهلكهم هلاكا رديا و يسلم الكرم الى كرامين اخرين يعطونه الاثمار في اوقاتها ) ، قال لهم : (21: 42 قال لهم يسوع اما قراتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار راس الزاوية من قبل الرب كان هذا و هو عجيب في اعيننا ) ، هنا حانت اللحظة , واعلن المسيح عليه السلام ذلك ( الاعلان العالمي ) :(21: 43 لذلك اقول لكم ان ملكوت الله ينزع منكم و يعطى لامة تعمل اثماره ) متى ، نعم تم نزع ملكوت الله منهم , وتم نقله الى امة تعمل من اجل ثمرة التوحيد النقية الطيبة .

ثمّ تمّ تعيين ( هيرودس اجريبا ) ملكاً على فلسطين ، وهو حفيد ( هيرودس ) ، وذلك في عهد الإمبراطورين ( كاليجولا ) و ( كلاوديوس ) . وكانت هذه الفترة هادئة بصورة غريبة ومريبة هناك ، لاسيما بعد محاكمة السيد المسيح . لكن الفترة المضطربة كانت بعد وفاة اجريبا ، حيث حكم مجموعة من الولاة الرومان ، كانوا جميعاً غير مقنعين للشعوب التي تقطن تلك الارض ، مما ألهب ثورة اخرى ضدّ وجودهم . وقد استمرت تلك المعارك طيلة حكم ( نيرون ) و ( وسپسيان ) ، حتى أودعت الامبراطورية امر اخماد الثورة الى ( تيطوس ) ، ابن الإمبراطور ( وسپسيان ) ، الذي نجح في دخول القدس سنة ٧٠ م ، ودمَّر المدينة ، واحرق الهيكل ، وقتل مقتلة عظيمة ، وأخذ الباقين عبيدا . وبعد نصف قرن قامت ثورة اخرى بقيادة ( باركوخبا ) ، وهو احد زعماء اليهود ، الذي اعتصمت جماعته في المواقع الجبلية ، وراحوا يقاتلون على طريقة حرب العصابات ، وصمدوا لثلاث سنين ، حتى تمّ اجتياحهم واحراق قراهم من قبل الرومان ، ومن ثمّ قام ( هادريان ) بتحويل القدس الى مستعمرة رومانية يونانية ، وفي عودة غريبة للهيكل تمّ انشاء معبد للاله اليوناني الروماني ( جوبيتر ) فوق ارضه . وقد ذهب – حسب بعض المؤرخين – في هذه الحملة نحو ٥٨٠ الف يهودي ، اذا ضُمّت لسابقاتها فسيكون الضحايا من اليهود عدّة ملايين ، مما يكشف عن ضياع الكثير من تاريخ بني اسرائيل الحقيقي معهم .

لكنّ التاريخ الاخر كان واضحاً في الكتل البشرية اليهودية التي تمّ نقلها الى العراق ، من خلال الحملتين الآشورية والمزدوجة البابلية ، حيث صار غالب من وصل من اليهود الى بلاد ما بين النهرين نصارى مسيحيين ، بحدود القرن الأوّل الميلادي .

تتكون ( التوراة ) المعاصرة من ٣٩ سفرا ، خمسة منها فقط هي التي كانت على زمن ( موسى ) النبي . وقد تمّ تقسيم هذه الأسفار الى ثلاثة أقسام ، ( البنتاتيك ) ، او ( أسفار موسى الخمسة ) ، و ( النبيّيم ) ، او ( أسفار الأنبياء ) ، و ( الكتوبيم ) ، او ( الكتابات والأشعار ) . ورغم انّ البنتاتيك هي ما يمكن القول برجوع اصلها الى عصر رسالة موسى ، إِلَّا اننا يمكننا القبول ببعض مضمون ما جاء به أنبياء بني اسرائيل واُضيف كملحق للتوراة الموسوية ، وحتى القبول ببعض روح الأناشيد والمزامير . غير انّ اخطر ما تمّت إضافته للديانة اليهودية – كنصّ مقدّس – كان ( التلمود ) ، الذي هو شرح وتعاليم الكهنة على التوراة . ويبلغ حجم التلمود البابلي – حيث هناك تلمود فلسطيني – نحو ٥٨٩٤ صفحة ، ويتكّون من ( المشناة ) ، وهي المتن ، ومن ( الجمارا ) ، وهي الشرح والمناظرات . وتكمن خطورة التلمود في إدِّعاء الحاخامات بورود تعاليمه شفهياً عن الأنبياء ، رغم ما فيه من شريعة مبتدعة .

ورغم اعتقادنا بوجود نصٍّ توراتي قديم ، للزوم تدوين شرائع الله على يد الأنبياء ، إِلَّا انّ التوراة التي وصلتنا كُتبت في بابل ، على يد الكهنة اليهود ، بعد عصر موسى النبي بنحو ثمانية قرون ، حيث تلوّث المجتمع الاسرائيلي بأنواع البدع والباطنيات السحرية ، وانتشار الماديات والأنا .

وقد احتكر السلطة الدنيوية والدينية بعد السبي البابلي مجلس كهنوتي اعلى يُدعى ( السنهدرين ) ، الذي ظهر في القدس خلال العصر السلوقي – البطلمي . ويكفي في معرفة واقع هذا المجلس الكهنوتي ومدى ظلموته ان نعرف انّه هو من حاكم السيد المسيح بالتعاون مع الرومان الوثنيين ، ومن ثمّ حكم بقتله ، بعد أنْ واجه دعوته الإلهية الإصلاحية . إِلَّا انّ هذا المجلس هو من كتب التوراة ، وهو ذاته من ابدع التلمود ! .

لقد استغلّ الرومان هذا المجلس ( السنهدرين ) كثيرا ، ووسّعوا من صلاحياته حسب الحاجة ، ثمّ منحوه صلاحيات دينية واجتماعية اكبر ، شريطة عدم الأضرار بالمصالح السياسية الرومانية . وفي الفترة التي حاكم فيها السنهدرين السيدَ المسيح – بحدود ٢٩ م – كان في أوج صلاحياته ، متكوناً من ٧١ عضواً من الكهنة والحاخامات الكبار . وعند استلام الوالي الروماني ( غابينوس ) السلطة على فلسطين قسّم المنطقة اليهودية الى خمسة أقسام ، وجعل على كلّ قسم منها سنهدرين محليّ ، مؤلّف من سبعة أعضاء ، تتبع جميعها للسنهدرين الأعلى في القدس .

وكما يبدو واضحاً فإنّ الباطنية الوثنية قد اُشربت في النفوس الكثيرة من بني اسرائيل . لذلك ابتدأ صراع كبير داخل هذا المجتمع ، بين الموحدين و الباطنيين الوثنيين . ومن ذلك ما فعله ( السامريون ) ، الذين رفضوا كلّ الذي جاء به الكهنة السنهدريون ، وقالوا بقدسية أسفار موسى الخمسة فقط من التوراة ، حتى حاول قادة اليهود اخراجهم من اليهودية ، إِلَّا انهم لم يستطيعوا ، فقام السامريون بمساعدة اغلب أعداء يهود السنهدرين ضدّهم ، مما يكشف عن اعتقادهم بالخطورة الكبرى التي يشكّلها هذا المجمع ، الى الدرجة التي حَرَّم فيها السامريون الزواج من يهود السنهدرين . لكن الغريب ان السامريين لم يتعاونوا مع الرومان ، وكانوا في نفس درجة العداء لهم ، كما كانوا في عدائهم ليهود السنهدرين ، في الوقت الذي أعانوا ( نبوخذنصر ) ضد السنهدرينيين . وكانت عقيدة السامريين تقوم على التوحيد وتوراة موسى والبعث والمعاد ، ككل ديانة توحيدية . فيما وافق السامريين في وقوفهم ضد كهنة السنهدرين والتعاليم الشفوية المدّعاة طبقة اخرى ظهرت في عهد السلوقيين تُدعى جماعة ( الصدوقيين ) ، وهم من الكهنة والكتبة ايضا ، الذين اصرّوا على التزام التوراة الموسوية ، ورفض التعاليم الشفوية .

ومن هذه المواجهة – وبإضافة المواقف التي تذكرها التوراة للأنبياء بوجه الكهنة – يمكننا معرفة مدى خطورة هذه التعاليم الشفوية المنقولة ، لمن عرفها ، ولابدّ انّ الكثير منها قد تمّ إخفائه عن العوام ، كما قرّر المجمع المنعقد في بولونيا سنة ١٦٣١ م بالإجماع ( حذف العبارات التي تهين الأغيار ، وانّ التعاليم التي تهين المسيحيين لا يصح نشرها ) . ويبدو اقرب للأذهان من هذه المعطيات انّ تلك التعاليم المتسببة في هذه المواجهة التاريخية الضخمة – الى درجة الانقسام – ليست سوى مجموعة تعاليم ( القبّالاه ) او ( الكبّالاه ) ، السحرية المأخوذة عن طقوس العقيدة الفرعونية السحرية ، بعد الخروج من مصر ، حيث تمّ تدوينها في بابل . لذلك لم يكن غريباً ان تتضمن هذه التوراة السنهدرينية أوامراً لقتل الأطفال والنساء ، وحرق المدن والقرى ، ونسبة كل رذيلة لأنبياء الله وأوليائه ، مما يعني سيطرة كهنة الحضارة القابيلية على المجتمع الاسرائيلي ، الذي كان يحمل رسالة الله التوحيدية ، ولذلك كان الإعلان الأخير للمسيح ببراءة الله من هؤلاء الكهنة – والذي ذكرنا مضمونه أعلاه – ضرورة توحيدية . ومن هذين المقدمتين أيضاً كان من الطبيعي أنْ يدافع شيخ القبّاليين ( موسى بن ميمون ) عن التوراة السنهدرينية ، تفسيراً وفقهاً وفلسفةً ، في كتبه ( السراج ) و ( تثنية التوراة ) و ( دليل الحائرين ) ، وَإِنْ يعتبره القبّاليون بعد ذلك ( شيخ الحكمة ) .

ومن الغريب أيضاً أنّ قائداً وثنياً للبطلميين هو ( بطليموس الثاني ) يستمع لنصيحة ( ديمتروس ) في ضرورة ترجمة التوراة الى اليونانية ، حيث يعني ذلك عولمة التوحيد ! ، إِلَّا اذا كان البطلميون موحدين ، او متيقنين من وثنية التوراة السنهدرينية . لذلك اجتمع في ( فاروس ) اثنان وسبعون حبراً يهودياً ، لترجمة تلك التوراة ، فيما تمّت ترجمة اخر الأسفار في العهد الروماني .

وفي خضّم الثورات الإسرائيلية ضدّ الرومان تمت ترجمة التوراة الى اللاتينية في حدود القرن الاول الميلادي ، وهو القرن الذي شهد الى جانب محاكمة السيد المسيح تدمير القدس ( أورشليم ) . ولا افهم كيف تتم الترجمة لكتابٍ يُقدِّسه المغضوب عليهم من الامبراطورية ! .

ومن قبل أخذت اليهودية السنهدرينية ما وافق العقيدة الآرية الفارسية ، مما سمح لملوك الفرس نفسياً واجتماعياً بالدفاع عن هذه الطائفة سيئة السمعة عالميا .

منذ اللحظات الاولى لخروج قوم موسى من مصر الفرعونية كان يعاني الاضطراب والضبابية ، إِلَّا ثلّة من المؤمنين صالحة ، لكنها كانت تُستضعف في كثير من الأحيان ، [ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٤٨] ، لكنهم بعد ذلك [ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧) | الآية: ١٤٩] .

كما انّ الواسطة الماورائية الفرعونية ألهبت مشاعر الإسرائيليين بماديتها ومباشرتها الطقسية ، لذلك أرادوا جعل الواسطة بين الخالق والمخلوقات – كما المصريين الفراعنة – صنمية متمثلة ، وفي ذات الوقت متفاعلة مع الطقس الديني بصورة حسّية ، لا تخضع للحكمة الغيبية التي اعتادتها الأديان الإبراهيمية ، [ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الجزء: ٩ | الأعراف (٧)| الآية: ١٣٨] .

ولعلّ اهم محرّك للتاريخ اليهودي المعاصر او القديم هو ( الهيكل ) ، حيث السعي المحموم لإعادة بنائه ، ولا يمكن تاريخياً التكهن بالباني الحقيقي للهيكل ، او معرفة أصل القداسة لأرضه ، اذ ورد انّه كان مكاناً مقدساً لدى الوثنيين قبل اليهود ، فيما تذكر المصادر اليهودية انّ من صَلَّى فيه هو دَاوُدَ الملك ، وبناه سليمان الحكيم ، ومن جهة اخرى ساهم الفرس والرومان الوثنيون في اعادة إعماره عدّة مرّات . وقد وصفت المصادر اليهودية كيف استدعى سليمان المهندسين الكبار من صور الفينيقية ، وكيف انه أنفق لبنائه نحو مائة الف وزنة من ألذهب ومليون وزنة من الفضة ، غير وزنات النحاس وباقي المعادن والأحجار الكريمة ، وذلك يعادل ثروات خرافية في عصرنا المعاش . وقد تمّ تشييده بحدود ١٠٠٥ ق م ، ثمّ هدمه ملوك بابل نحو ٤٢٤ ق م . وفي حين تروي بعض المصادر انّ اليهود العائدين من السبي قاموا بتجديده ، إِلَّا انه خرب مرة اخرى ، فأعاد بنائه ( هيرودس الكبير ) ، رغم انه كان ممثلاً للدولة الوثنية الرومانية ، وكان ادوميّاً لا اسرائيليا ! ، ورغم انّ ( طيطوس ) القائد الروماني دمّره سابقا . وعند الغزو الصليبي للقدس جعله ملكهم قصراً لسكناه ، ومحيطه مأوى لحيواناته الداجنة ، حتى استعاده صلاح الدين الأيوبي وأعاد بنائه ، كما امر بفتح القدس امام ثلاثين عائلة يهودية للسكنى . ثمّ عاد اليهود اليوم لجعله رمزاً لحضارة وامة ، لا نعلم مدى ارتباطه بكينونتها .

وكما هو واضح من الطلبات التي ذكرها القران الكريم على لسان اليهود لموسى عند الخروج الكبير من مصر انهم بدأوا عصر الوثنية المركّبة المعقدة ، تلك الممزوجة بعقائد توحيدية ، في اضطراب فكري واضح ، لذلك اتخذوا ( العجل ) – الذي هو أبيس الفرعوني – إلهاً بمجرّد عبورهم من مصر وغياب موسى ليالي معدودة ، رغم رؤيتهم لمعجزة شقّ البحر . والعجل ظلّ على الدوام الرابط بين الديانات الثلاث ( الفرعونية واليهودية والرومانية ) ، حيث في المتحف البريطاني نقش يعود لعام ٢٩٥ م ، في فترة حكم ( ماكسميانوس ) و ( فاليريوس ) ، يمثّل الإمبراطور وهو يقدّم القرابين للعجل ( بوخيس ) . وفي حدود عام ٥١٥ ق م كان لليهود معبد في ( الفنتين ) ، يتم فيه تقديس الآلهة ( عنات ) والآلهة ( اشيما ) ، الى جانب المعبود ( يهوه ) .

والظاهر من هذا التسلسل في اضطراب التاريخ انّ اليهود وصلوا الى مرحلة ضبابية خطيرة ، تغلغل فيه السحر الى ساحة المعتقدات الدينية ، فصار هناك خلط لدى نسبة معتد بها من الناس . [ فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا۟ لَوْلَآ أُوتِىَ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَىٰٓ ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا۟ بِمَآ أُوتِىَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا۟ سِحْرَانِ تَظَٰهَرَا وَقَالُوٓا۟ إِنَّا بِكُلٍّۢ كَٰفِرُونَ [الجزء: ٢٠ | القصص (٢٨)| الآية: ٤٨] ، وراح اليهود لا يميّزون بين ميتافيزيقيا فرعون و بين عالم الجبروت [ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الجزء: ٢٨ | الصف (٦١)| الآية: ٦] ، بل انّ الفكرة انتشرت على انحرافها [ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الجزء: ٢٦ | الأحقاف (٤٦)| الآية: ٧] . لكنّ بني اسرائيل لم يكونوا جميعاً كافرين ، كما عرفنا من السرد التاريخي ، وهذا ما يكشفه الاضطراب في مواقفهم ايضا ، [ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الجزء: ٧ | المائدة (٥)| الآية: ١١٠] .

ومن هنا كان من الطبيعي ان نرى بني اسرائيل وهم يتهمون الأنبياء بأنّهم سحرة ، حيث صار هؤلاء اليهود يفكّرون بالعقل الفرعوني ، الذي يخلط بين التلاعب الفيزيائي الذي تُحدثه الكائنات الغير منظورة ، وبين قدرة الخالق التي تجري على يد أنبيائه ، فرأينا كيف اعتمد فرعون ذات الاليات الباطنية المقترنة بالهندسة للبحث في امر اله موسى ، غافلاً عن المعنى اللاماديّ للخالق ، [ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [الجزء: ٢٤ | غافر (٤٠) ] . وهذه النظرة المادية للماورائيات ، والتي يمكننا ان نسمّيها ( الميتافيزيقيا الجديدة ) ، او ( الميتافيزيقيا الفرعونية ) ، صارت هي خلاصة العقل الكهنوتي للمجتمع اليهودي ، لا سيما بعد سرقة هذا الكهنوت من الباطنيين الفراعنة .

لقد كان من الضروري الإعجاز الالهي في إيجاد المسيح ( عيسى بن مريم ) ، كما هي ضرورة نسبه الشريف في بني اسرائيل ، وكذلك الآيات الكبرى على يديه ، من حيث القدرة على الإحياء والمعرفة باْذن الله ، بعد هذا الاضطراب الذي عاشه المجتمع الاسرائيلي ، [ وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الجزء: ٣ | آل عمران (٣)| الآية: ٤٩] . انّ هذه الآيات الواضحة الإعجاز على يد عيسى المسيح – فضلاً عن ولادته الإعجازية ايضا – تكشف عن العمق الذي تغلغل اليه السحر في مجتمع كهنوت بني اسرائيل ، والمدى الذي اتقن معه اليهود علوم السحر ، وكيف انهم طوَّروا المنظومة الفرعونية ، فقرابينهم كانت كبيرة [ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [الجزء: ٦ | المائدة (٥)| الآية: ٧٠] .

وهذا التخبُّط الفكري هو ما يفسّر عودة بعض بني اسرائيل لعبادة الأصنام عند وفاة ( يوشع بن نُون ) وصيّ موسى النبي ، وكذلك هو ما يشرح إقامة مملكة اسرائيل الأصنام في هياكلها وعبادتها عند وفاة ( سليمان ) النبي ، حيث انقسمت مملكته الى قسمين ، شمالي ( اسرائيل ) ، فيها عشرة أسباط ، بقيادة ( يربعام بن ناباط ) ، وجنوبي ( يهودا ) ، فيها سبطا ( يهوذا ) و ( بنيامين ) ، بقيادة ( رحبعام بن سليمان ) . ومملكة ( اسرائيل ) بقيادة ( يربعام ) هي من أصبحت وثنية ، حتى نشب القتال بين القسمين .

لكن في ظلّ هذه الفرعونية الجديدة ذات الصبغة اليهودية كيف حدثت تلك المواجهات العنيفة بين المجتمع اليهودي بدوله وإماراته وجماعاته وبين الفراعنة وجيوشهم ، او مع الرومان ( الفرعونية العالمية ) ؟! ، يمكن الإجابة على هذا التساؤل بزيادة البحث في عمق الباطنية المشتركة بين هذه الأطراف الثلاث ، وكذلك في عمق تاريخها ، لمعرفة مدى إمكانية تغيير مراكز النفوذ ، او ادراك آلية التحكم والسلطة . لكن فيما يبدو انّ هذه المجتمعات لم تكن واضحة الباطنية ، حيث اختصّ ذلك العالم السحري ب ( الملأ ) ، من سياسيين وماليين وعسكريين كبار ، وفي الكهنوت الديني ، لذلك كان الصراع بينها نتيجة للتيّار الاجتماعي والسياسي العام الغالب . كذلك يمكن ان يكون الصراع ناشئاً بين فئات موحّدة في طرف وبين فئات وثنية في الطرف الاخر ، وذلك لا يمنع انجذاب الشبيه الاخر لشبيهه في المجتمع المضاد رغم الحرب والصراع .

اما في السنين الاولى للخروج من مصر فلم يكن الامر اكثر من اثر للعداء التاريخي بين الفراعنة وبين الهكسوس ، الذين تمّ احتساب بني اسرائيل عليهم ، والاكيد انّ ( مرنپتاح بن رعمسيس الثاني ) في حملته ضد المقاطعات الآسيوية لم يكن يحترم كثيراً الوجود الاسرائيلي .

لكنّ الغرابة تكمن في عودة العلاقات بين مصر الفرعونية وبين مملكتي ( بيت عومري = اسرائيل في التوراة ) و ( يهودا ) . حيث كان من المتوقع ان تكون لمملكة وثنية كإسرائيل خيوط ارتباط بالفرعونية المصرية ، وقد شكّلت خطراً على المملكة الموحدة في أورشليم ( يهودا ) ، لذلك قام الآشوريون – بطلب من ملك يهودا ( آحاز بن يوثام ) – بحملة تأديبية كبرى على بن عومري ( اسرائيل ) ، في عهد ملك أشور ( تجلاث بلاشر الثالث ) ، فاسقط ملكها ( فقح ) ، وترك لخلفه ( هوشع ) مدينة السامرة فقط . ثمّ عادت أشور بحملة اخرى في عهد ( شيلمنصر ) لمحاصرة السامرة ، وأتمت احتلالها في عهد ( سرجون الثاني ) ، لتسقط نهائياً وجود مملكة بيت عومري ( اسرائيل ) . لكنّ مملكة ( يهودا ) هي الاخرى خالفت امر نبيّها ( اشعيا ) ، فارتبط ملكها ( حزقيا ) بمصر الفرعونية ، في عهد الاسرة الخامسة والعشرين النوبية ، وهي الاسرة الاشدّ انتماءاً للديانة الفرعونية القديمة في وثنيّتها ، حيث قامت باحتلال جميع بلاد مصر تحت دعوى اعادة الديانة الفرعونية الأصيلة . لقد خاطب النبي ( اشعيا ) من يطلب مساعدة أولئك الفراعنة قائلاً (( وَيْل للذين ينزلون الى مصر للمعونة ويستندون الى الخيل ويتوكلون على المركبات لانها كثرة ، وعلى الفرسان لأنهم اقوياء جدا ، ولا ينظرون الى قدوس اسرائيل ، ولا يطلبون الربّ )) . لذلك قام ( سنحاريب ) خليفة ( سرجون ) بحملة على هذه المملكة المتمردة ، ورغم إرسال فراعنة مصر جيشاً لنصرة مملكة يهودا إِلَّا انّ سنحاريب انتصر عليهم ، ثمّ قسّم الكثير من أراضي المملكة اليهودية على الممالك الاخرى القريبة الموالية لسلطانه . وقد ترك الآشوريون هذه المملكة منهارة ، تدفع الجزية لهم . لكنّ ( يهودا ) عادت لتتمرد على أوامر الله مرة اخرى ، فخالفت امر نبيّها ( ارميا ) ، فتحالفت مع فراعنة مصر مرّة اخرى ، وحاولت الخروج على سلطان ( الكلدانيين ) ورثة الدولة الآشورية ، فشنّ ( نبوخذنصر الثاني ) حملة لتأديبهم ، وحاصر أورشليم ، حيث توفي ملكها ( يهوياقيم ) اثناء الحصار ، فخلفه ابنه ( يهوياكين ) ، الذي اضطر الى الاستسلام ، فعيّن نبوخذنصر ( صدقيا ) عمّ يهوياكين بدلاً عنه . إِلَّا انّ ( صدقيا ) عاد للدخول في الحلف الذي أنشأه فرعون مصر ( حوفرا ) ، للتمرد على نبوخذنصر ، وتدخّل النبي ( ارميا ) مرة اخرى ، لثني صدقيا عن ارادته هذه ، إِلَّا انّ التمرد النفسي قاد الى التمرد السياسي ، فغضب نبوخذنصر ، وَقاد حملة عسكرية بنفسه ، حاصر بها أورشليم ، إِلَّا انّ فرعون مصر ( حوفرا ) أرسل جيشاً لنصرة مملكة يهودا ، فانسحب البابليون الكلدان عن أورشليم لملاقاة المصريين ، فظنّ اليهود انّ النصر حليفهم ، ولم يأخذوا بنصيحة نبيّهم ( ارميا ) ، الذي اخبرهم بوهم هذا الاعتقاد ، فسجنوه ، في وثنية مبطّنة خطيرة . إِلَّا انّ الفراعنة انهزموا امام البابليين ، فعاد البابليون لمحاصرة أورشليم ، واسقطوا مملكة يهودا .

لقد كان من نتائج كل هذه الحملات الآشورية والبابلية أربعة أمور مهمة :

الأوّل : سبي إعداد غفيرة من اليهود الى شمال العراق وجنوبه ، تهيأت لهم فرصة الانفلات عن غلواء ( الفرعنة ) الباطنية ، التي قادها زعماء الكهنوت السياسي ، مما جعل هؤلاء اليهود المسبيين احدى الطوائف الاول التي آمنت بالسيد المسيح لاحقا .

الثاني : وضوح الاختلاف بين المجتمع النبوي في اسرائيل وبين المجتمع الكهنوتي السياسي .

الثالث : تعرّف الساسة العراقيون على المجتمع النبوي الاسرائيلي والتواصل معه .

الرابع : هجرة جماعات من كهنوت السياسة اليهود المتفرعنيين نحو أوربا وشمال افريقيا ، خلال الفترة التاريخية ٨٠٠ – ٥٨٦ ق م .

ورغم انّ الانحراف والشرخ بدا واضحاً داخل المجتمع اليهودي بقرون قبل ميلاد السيد المسيح ، وكذلك تحكي لنا سيرة المؤرخ المتذبذب ( فلافيوس جوزيفاس ) كيف انّ هناك ناساً من اليهود كانوا يوالون الدولة الرومانية اكثر من ولائهم لليهودية ، حيث عيّنه الرومان حاكماً على الجليل ، بعد زيارته روما عام ٦٣ م ، ثمّ قاتل الى جانب الرومان في زمن ( طيطوس ) ، ومنحه ( ڤاسبيان ) لقب مواطن روماني ، إِلَّا انّ القسم الاخر من اليهود كان لازال يحتفظ بخصائصه الرافدينية ، حيث يروي الواقدي ( انّ اليهود كانوا يوقدون النيران في الليل ليرشدوا السائرين ، وليدعوهم الى الضيافة والاكرام كما كان يفعل العرب اعلاءً لشرفهم وصيانة لمجدهم ) . ومن هذا نعلم مدى عمق الصدع داخل الكيان اليهودي ، بسبب الاختلاف الساري فيهم في فلسفتهم الاعتقادية بعد خروجهم من مصر الفرعونية ، حيث تحوّلت العقيدة الى سلوك ورؤية للحياة .

انّ أشدّ الفترات على الوثنيين من اليهود كانت خلال ٨٠٠ – ٧٠٠ ق م ، وهي ذات الفترة التي خرجت فيها عوائل فرعونية كبيرة من مصر عند سيطرة الأسر الليبية على الحكم ، ومن ثمّ الاسرة الخامسة والعشرين النوبية ، لذلك شهدت أيضاً هجرة إعداد كبيرة من الأسر الباطنية الوثنية التي كانت تدير دفّة السياسة والكهنوت في بيت عومري ( اسرائيل ) ، وهي ذات الفترة التي شهدت انشاء ( روما ) ٧٥٢ ق م ، لذلك لا استبعد أبداً أنْ تكون العلاقة بين هذه الحوادث وثيقة ، خصوصاً مع وجود العلاقة الاعتقادية الباطنية التي اثبتناها ، وفعلاً كان اليهود حاضرين بكثافة في العاصمة روما في ظلّ حكم ( نيرون ) ، مما سمح له باتهامهم بحرق المدينة ، ولا استبعد قيامهم بذلك ، رغم كل الاتهامات بالامراض النفسية الموجهة لنيرون ، والتي تريد تحميله وزر احراق المدينة ، لأَنِّي لا اجد ذلك مبرراً مقنعاً ليقوم الإمبراطور بحرق عاصمته الكبرى .

لقد ظلّ اليهود دائرة من الضباب ، منقسمين فكراً وسلوكاً حتى ظهور المسيحية ، حيث آمن يهود الشتات بها ، في العراق ، وفي شمال افريقيا ، وفي عدّة بلدان اخرى ، فيما ظلّ يهود السنهدرين مصدراً لمعاداتها في اليهودية انطلاقاً من الهيكل . ثمّ تغيّر الموقف ، حين صار يهود الهيكل او السنهدرين هم مَن في الشتات ، وصار يهود الشتات السابقون مستقرين في اوطان تؤمن بالمسيحية .

لقد اغلقت التوراة وتلمودها الأبواب على من أراد الدخول في شعب الله ، في أجلى صورة للعنصرية ، مما يعني إرادة إغلاق ملف التوحيد ، لولا تدخّل العناية الإلهية عن طريق ( سليمان ) النبي .

النبي سليمان ودوره في مواجهة سحرة الفراعنة وعقيدتهم المنتشرة

كان تولي سليمان الحكم في بني اسرائي امرا ضروريا ، لان مجتمعهم لم يعد تنفع فيه روحانية الانبياء كثيرا ، ولكن لما فتح بنو إسرائيل ممرات الارض امام العوالم الماورائية صار على سليمان ان يغلقها جميعا ، وفي نفس الوقت ان يبهر هذه العين المادية لبني اسرائيل .

جاء وصف التابوت في سفر الخروج من الإصحاح ٢٥ الى ٢٨ ، مع طقوس التعامل معه ، وهو صندوق مُحلَّى بالذهب من الداخل والخارج، يقف عليه ملاكان (كروبان) ناشرين أجنحتهما ، ويرمز الى الارتباط بالعرش الالهي ، الذي هو مصدر الفيض لما دونه من عوالم . كان بنو اسرائيل يحملون التابوت معهم في ترحالهم، على أن يقوم أعضاء من سبط اللاويين بحمله ، ثم وُضعت التوراة بجانب اللوحين ، ومن ثم فإنه يُسمَّى أحياناً «تابوت الشهادة» . وصار التابوت رمزاً للعهد مع الإله . لم يكن يُسمَح لأحد بأن يمس التابوت باعتباره محرماً ، وكان التابوت يحتوي على المن، وعصا هارون، ولوحى الشريعة أو العهد، ثم وُضع بجانبه كتاب التوراه، ولكنّ المن وعصا هارون كانتا قد اختفتا مع حكم سليمان .

ان القدرات الفيزيائية التي منحها الله لسليمان جعلته قادرا على معالجة الخلط بين الاكوان المتوازية للمخلوقات , وهو الخلط الذي اوجد الفوضى الوثنية والعملية في العالمين . كان على سليمان ان يتحرك في خطين متوازيين , الاول يقضي باغلاق المنافذ والابواب التي فتحها سحرة بني اسرائيل ومن قبلهم , عبر استخدام وسائل الملك العلمي الذي لسليمان , والثاني يقضي بايجاد مجتمع بديل عن بني اسرائيل لحمل الراية الايمانية , وكان المجتمع الاقوى ترشيحا عند سليمان هو مجتمع ( سبأ ) من العرب القحطانيين .

لقد فجّر سليمان ثورة معرفية , كانت لازمة لفتح اذهان الناس نحو الحقائق العلمية والطبيعة والخلق , تمهيدا لاقناع ذلك المجتمع المادي بان ( السحر ) ما هو الا تصرف بقوانين الكون .

«وتكلم (سليمان) بثلاثة آلاف مثَل، وكانت نشائده ألفاً وخمساً. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط. وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته». الملوك الأول .

ان الطلب الذي اراد سليمان اجابته من ربه في تلك الظروف والعوالم المعقدة كان : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) ، ( ملكا ) و ( لا ينبغي لاحد ) و ( دليل الهبة الالهية ) , لابد انه كان شيئا فريدا وعظيما , ومتناسبا مع طلب سليمان وظروف عالمه . ان الاهم يأتي كأول العطايا بالتأكيد , والاول ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ ) تجري بامر سليمان حيث أصاب , ثم يأتي بعدها في الاهمية ( تسخير الشياطين ) , وهي تلك المخلوقات ذات القدرات الكبيرة . فما هي حقيقة هذه ( الريح ) ؟ وما دورها واهميتها في وظيفة سليمان الكونية ؟ , انها بالتأكيد لم تكن من اجل تحريك ( بساطه السحري ) .

ان سليمان باخفائه لتلك الآلات التي تتفوق على قدرات الجن التقنية ختم مرحلة الفوضى والاختلاط بين العوالم على الارض . لكن ذلك لا يمنع ان تعود تلك الآلات للاستخدام في حالة عادت الفوضى والاختلاط بين العوالم : عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ (( كَانَتْ عَصَا مُوسَى لآِدَمَ ( عليه السلام ) فَصَارَتْ إِلَى شُعَيْبٍ ثُمَّ صَارَتْ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَ إِنَّهَا لَعِنْدَنَا وَ إِنَّ عَهْدِي بِهَا آنِفاً وَ هِيَ خَضْرَاءُ كَهَيْئَتِهَا حِينَ انْتُزِعَتْ مِنْ شَجَرَتِهَا وَ إِنَّهَا لَتَنْطِقُ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ أُعِدَّتْ لِقَائِمِنَا ( عليه السلام ) يَصْنَعُ بِهَا مَا كَانَ يَصْنَعُ مُوسَى وَ إِنَّهَا لَتَرُوعُ وَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ وَ تَصْنَعُ مَا تُؤْمَرُ بِهِ إِنَّهَا حَيْثُ أَقْبَلَتْ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ يُفْتَحُ لَهَا شُعْبَتَانِ إِحْدَاهُمَا فِي الْأَرْضِ وَ الْأُخْرَى فِي السَّقْفِ وَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعاً تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ بِلِسَانِهَا )) . وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ( عليه السلام ) قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ (( أَلْوَاحُ مُوسَى ( عليه السلام ) عِنْدَنَا وَ عَصَا مُوسَى عِنْدَنَا وَ نَحْنُ وَرَثَةُ النَّبِيِّينَ )) . وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ( عليه السلام ) قَالَ (( خَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السلام ) ذَاتَ لَيْلَةٍ بَعْدَ عَتَمَةٍ وَ هُوَ يَقُولُ هَمْهَمَةً هَمْهَمَةً وَ لَيْلَةً مُظْلِمَةً خَرَجَ عَلَيْكُمُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ قَمِيصُ آدَمَ وَ فِي يَدِهِ خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَ عَصَا مُوسَى ( عليه السلام ) ) . وعنه أيضاً عليه السلام: (( إذا قام القائم بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادي مناديه ألا لا يحمل أحد منكم طعاماً ولا شراباً، ويحمل حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير، ولا ينزل منزلاً إلاّ انبعث عين منه فمن كان جائعاً شبع ومن كان ظمآن روي، فهو زادهم حتى نزلوا النجف من ظهر الكوفة )).

الواضح من الروايات ان للعصا و الحجر والتابوت الذي ربما يحويهم اهمية خاصة في الربط بين عوالم الخلق , وكذلك يمكن اعتبارها منظومات للسيطرة على بوابات العوالم , بل هي اعلى واسمى , حيث انها تعتمد في العمل على القوانين الكلية المحيطة بالخلق .

لكن على ما يبدو انّ كتبة التوراة المتأخرين من كهنة السنهدرين أرادوا تضييع جهود سليمان تلك ، وحاولوا أمرين ، الاول هو ربطه بمصر الفرعونية ، من خلال جعله زوجاً لابنة فرعون ، وربما بذلك يثبتون فضل الباطنية الفرعونية علوّ شأنها على ما لدى سليمان ، والثاني هو وصف مملكة سليمان بمبالغة مادية تتجاوز الواقع ، ولا تتناسب مع الحدث والجغرافيا التاريخية ، لطمس معالم الجهود العلمية ربما .

يقول ( ويلز ) في كتابه ( معالم تاريخ الانسانية ) : (( انّ قصة ملك سليمان وحكمته التي اوردها الكتاب المقدَّس تعرّضت لحشو وإضافات على نطاق واسع على يد كاتب متأخر كان مشغوفاً بالمبالغة في وصف رخاء عصر سليمان … )) .

لكن يبدو انّ الثأر المعنوي من سليمان على يد كهنة السنهدرين لم ينتهِ بهذه الصورة ، بل جعلوا منه وثنياً دنيوياً ، كما صوّرته نصوصهم المكتوبة . فيما يمكننا أنْ نرى انّ أعداء سليمان ( هدد ) ملك الادوميين و ( يربعام بن ناباط ) الاسرائيلي جميعهم التجأوا الى فرعون مصر ، وهو احد فراعنة الأسرتين الحادية والعشرين او الثانية والعشرين الليبية ، وبقوا هناك حتى وفاة سليمان النبي ، مما يثبت كذب تلك المصاهرة المدّعاة بينه وبين الفراعنة ، ويؤيد الفكرة التي ترى انّ الكهنة الذين كتبوا التوراة كانوا من الباطنيين الذين أرادوا إيجاد فضل ما للفرعونية . وكل ذلك واضح في سفر الملوك الاول من الكتاب المقدس .

اضطهاد الرومان للمسيحيين

ينقل ( سلامة موسى ) في كتابه ( مصر أصل الحضارة ) عن ( إليوت سميث ) انه كان ذات مرة يفحص عن القحوف البشرية في إنجلترا ، وكان أمامه قحف لرأس مصري من عهد الفراعنة فوضعه مصادفة الى جنب رأس إنجليزي حديث الوفاة ، فما راعه إِلَّا المشابهة بل المطابقة بين الاثنين .

ويذهب سلامة موسى لتفسير ذلك بانتماء الرأسين للشعوب الميديترانية المتوسطية . لكن ما يهمّني انّ أوربا أخذت عن مصر الفرعونية قسوتها على العقائد التوحيدية ، اكثر من اخذها شكلاً خارجياً لكائن ما .

يستدلّ بعض الباحثين بوصف ( تاسيتوس ) للديانة اليهودية بنحو سلبي ، لإثبات عجز الرومان عن فهم جوهر عقيدة التوحيد . فيما كان انتهاك الضبّاط الرومان لمقدسات اليهود أمراً معتاداً ، رغم احترامهم لمعابد الوثنيين ، لكنهم في مرحلة التحالف مع يهود السنهدرين اخذوا يبنون معابد اوثانهم الى جنب المعابد اليهودية .

لقد ذكرت بعض المصادر انّ ( نيرون ) الصق تهمة احراق ( روما ) بالمسيحيين ايضا ، ربما لأنهم كانوا في هذا المرحلة المتقدمة من تاريخهم ( ٦٤ م ) جزءاً من المنظومة التوحيدية اليهودية ، التي كانت متهمة – لما يمتلك بعض كهنتها من تاريخ تآمري – بتدبير الكثير من الحوادث المشابهة ، لا أقلّ من قتلهم الأنبياء . وربما كان كهنة اليهود – ذوو العلاقة المميزة مع الوثنية الرومانية – هم من افتعل هذه الأحداث لإيقاع الضرر على المسيحيين الذين يشكّلون خطراً كبيراً على الوثنية اليهودية الجديدة .

انّ الأحداث التي اعقبت حريق روما شهدت ما يشبه الإبادة للمسيحيين في روما ، حيث حكم بالموت على اعداد ضخمة منهم ، بأبشع الوسائل ، فصُلب بعضهم ، ولُفّ بعض اخر في جلود الحيوانات ، وتمّ القائمه للكلاب المسعورة في المسرح الروماني ، فيما بلغت الوحشية ذروتها عندما تمّ طلي المسيحيين بالقار والزيت وإشعالهم في حدائق روما ليلا .

اما ( دوميتيان ) فقد اعتبر اعتناق المسيحية جرما ، وحكم على المسيحيين بالموت ، ومنهم قريبه القنصل ( فلافيوس كليمنس ) ، وصادر أموال بعضهم ، ووسّع اضطهاد كنائس اسيا الصغرى ، فيما ألقى القديس ( يوحنا الانجيلي ) في زيت مغلي في روما .

واعتبر الإمبراطور ( تراجان ) المسيحية ديانة محرّمة ، واعتبر تجمعاتها من التجمعات السرية الممنوعة قانونا ، وقد استغلّ اليهود هذه التشريعات في عهده ، فاتّهموا ( سمعان ) اسقف أورشليم ، فحُكم عليه بالصلب وهو في سن المائة والعشرين . وكذلك تمّ الفعل بأسقف إنطاكية ( إغناطيوس ) ، فاُرسل الى روما وألقي الى الوحوش الضارية .

ورغم انّ التمييز بين الجماعتين – اليهودية والمسيحية – صار معتاداً بحدود عام ١٥٠ م إِلَّا انّ الاضطهاد الروماني للمسيحيين استمرّ وبقوة ، فرضاً للديانة الرومانية ، التي لم يتم فرضها سابقاً على اليهود بهذه الكيفية ، بل كان الخلاف مع جزء من اليهودية ، في ظاهره سياسي ، فيما كانت روما تتعامل مع يهود السنهدرين بايجابية . وقد كانت أوامر روما تقضي بضرورة احترام المسيحيين للآلهة الحارسة للإمبراطورية ، وتقديم القرابين للأصنام ، كما يجب الاعتقاد بعبادة الإمبراطور ذاته .

وحتى على مستوى إمبراطور فيلسوف ومثقف مثل ( اوريليوس ) لم تكن المواجهة لتخفّ ، بل انتقلت من التجريم القانوني للمسيحية الى تجريم وجودها فلسفيا ، فهدّد من يُخَوِّف النَّاسَ من الله بالنفي . وفي عهده – الذي انتشرت فيه الكوارث الطبيعية ضمن رقعة الامبراطورية – تمّ إرجاع ذلك الى ذنوب المسيحيين واسائتهم للآلهة الرومانية ، لذلك تمّت محاصرتهم اجتماعيا وسياسيا . وكانت هناك عمليات اضطهاد واسعة في ليون ١٧٧ م .

وفي عهد ( سبتميوس ساويرس ) نجد التناقض الذي يكشف عن وجود نوعين من المسيحية ، كالنوعين الذين انقسمت لهما اليهودية من قبل ، حيث رغم وجود بعض المسيحيين في بلاط هذا الإمبراطور كطبيبه ( بروكولس ) ، إِلَّا انه اصدر مرسوماً يمنع المسيحيين من الدعوة الى دينهم والتبشير بما جاء فيه ، فتعرّض المسيحيون في مصر وشمال افريقيا على اثر ذلك الى مذابح عديدة ، لا سيما في قرطاجة ٢٠٣ م .

امّا ( مكسيميانوس ) الذي سمح للشعب في المشاركة باضطهاد المسيحيين ، فقد وجّه غضبه نحو الأساقفة الكبار ، حتى انّ معاملته مع المسيحيين وصفت بالبربرية القاسية .

فيما قرّر ( ديسيوس ) عام ٢٥٠ م انّ من يكتفي باسم المسيحي ولا يقدّم الأضحية للآلهة الصنمية يتعرّض للملاحقة ، وهو القانون الذي أعاد ( فاليريانوس ) تأكيده عام ٢٥٧ م . وقد كانت عمليات إعدام المؤمنين المسيحيين تؤخِّر فرص الوصول الى اتفاق . حيث أراد ( ديسيوس ) اعادة الديانة الامبراطورية القديمة ، فاستغلّ حكّام الأقاليم هذا المرسوم وصاروا يذيقون المسيحيين أشدّ انواع التنكيل والعذاب ، حتى ضعف بعضهم وقدّم القرابين للآلهة الوثنية ، لكنّ الكثيرين فضّلوا السجن او الموت على ذلك ، ومن هؤلاء مرقوريوس و فابيانوس الروماني وبابيلاس الأنطاكي وإسكندر الأورشليمي .

فيما كان عهد ( فاليريانوس ) متناقضاً كعهد ( سبتميوس ساويرس ) ، حيث تضمّن بلاطه مجموعة من المسيحيين إِلَّا انه اصدر قرارات اجرامية ضدّ العموم المسيحي ، وقرّر إعدام كبار رجال الدين المسيحيين ، ومصادرة املاك الأغنياء وألقاب الفرسان والنبلاء منهم ، فيما تسلب أموال النساء المتزوجات ويتم نفسهن ، والصغار يتم أخذهم للعمل في ضياع الإمبراطور سخرة . وممن تمّ قتلهم في عهده ( سكستوس الثاني ) اسقف روما و ( كبريانوس ) اسقف قرطاجة .

وحين جاء ( اوريليان ) اصدر اوامره بقتل المسيحيين من جديد ، رغم فترة الهدوء البسيطة نسبياً قبله . وقد خلفه مجموعة من الاباطرة كانت فترتهم هادئة قياساً الى عهده حتى مجيء ( ديوقليديانوس ) .

لقد دخلت المسيحية في صراع غير متكافئ ماديّاً مع الوثنية العتيقة للرومان ، وقد كانت صور الموت منتشرة ومعتادة بين المسيحيين المؤمنين ، والذين دخلوا في عصر الشهادة ، ليواجهوا هذا الطغيان الكبير .

يقول اسقف الغربية الانبا ( يؤانس ) في بحثه ( الاستشهاد في المسيحية ) : (( كانت الوثنية هي العدو الأكبر الذي تصدى للمسيحية ، وقاومها مقاومة المستميت ، وحاربها حرب الإبادة ، حرب الحياة او الموت . ولا يسجّل التاريخ صداماً أقوى وأطول وأكثر وحشية من ذلك الصراع الذي احتدم بين روما الامبراطورية الوثنية بآلهتها واباطرتها وجحافلها ، وبين المسيحية التي ظهرت على مسرح العالم بلا سند من قوة زمنية ، وبلا سلاح حربي … )) .

ونظر الرومان للمسيحية على انها خرافة ، لا ديانة ، دنيئة لا تستحق ان ينظر اليها – بحسبهم – ، فواجهوا انتشارها باعتبارها محرّمة رسمياً . وحسب رواية ( ترتليانوس ) صار التعبير الموجّه للمسيحي هو (( لا حقّ لك في الوجود )) .

لم يكن المنطلق الديني بالمعنى الفلسفي هو وحده ما يبعث على التحريض وقمع المسيحية ، بل كان هناك الباعث النفعي المستغلّ للدين ، كما هي دوافع ( ديمتريوس ) الصائغ في ( افسس ) ، وايضاً دوافع تلك الساحرة في ( فيلبي ) ، حيث يشرح حاكم بيثينية ( بليني الصغير ) عام ١٠٠م في تقرير للإمبراطور كيف تسبب انتشار المسيحية وزيادة عدد معتنقيها في تقليل عدد التقدمات للآلهة ، وهو ما يعني انحسار سوق الذهب والبخور وغيرها ، كما هو انحسار شديد لعمل العرّافات والكهنة .

كان المسيحي مكشوفاً للسلطة ، حيث يعاني الانفصال عن لغة المجتمع الوثنية ، وسوقه الوثني ، وأعياده الوثنية ، وأسرته الوثنية ، وطقوسه الجماعية الوثنية ، لذلك كان يعاني في كل نَفَس وفي كل خطوة .

ومن القصص التي يوردها ( يوسابيوس ) تلك التي تحكي استشهاد الضابط ( مارينوس ) في قيصرية ، حيث دُعيَ للترقية الى رتبة قائد مائة ، لكنّ زميلاً له طعن فيه ، واتهمه بالمسيحية ، فأعطى القاضي لمارينوس ثلاث ساعات ليختار بين الإنجيل والسيف ، فاختار الإنجيل ، وقضى شهيدا .

وفي مرحلة تاريخية متأخرة بحدود ٣٠٦ م كانت كافية لإدراك المعاني الفلسفية والمعرفية والروحية للمسيحية زار الإمبراطور ( ماكسميانوس ) قيصرية ، في ذكرى ميلاده ، وفي عادة هؤلاء الاباطرة الوحشية والسادية والدينية في نفس الوقت قرّر تقديم اضحيات بشرية تبتلعها الحيوانات المفترسة ، فجاء باثنين ، احدهما مسيحي هو ( اغابيوس ) ، والآخر مجرم وثني قاتل ، لكنّه اطلق سراح القاتل ، وعرّض المسيحي للاستهزاء في العامَّة ، ثمّ القاه الى أنثى دب جائعة ، ولمّا لم يمت القاه في البحر .

وقد وصل الامر في ليون وفيينا الى منع المسيحيين من الدخول الى الاسواق والحمامات العامة ، وذلك في عهد ( اوريليوس ) ، من خلال تحريض العامَّة من الوثنيين وترك الامر اليهم ، حتى انّ الجمهور أخذ يعذّب المسيحيين ويقتلهم ، ومن ثمّ ألقى جثثهم في نهر الرون . فيما كانت بيوت بعض المسيحيين تتعرض للسرقة والحرق .

وفي احدى المحاكمات الغريبة لرجل دين مسيحي في ازمير يُدعى ( بوليكاربوس ) كان القاضي يصادق على رغبات الجمهور الوثني كاحكام قانونية ، وحين دعوا لحرق الرجل اقرّ القاضي ذلك ، فجمعوا الحطب استعداداً لذلك في الحال .

قام الرومان باضطهاد المسيحيين في مصر ، باعتبارهم خطراً يهدد سلامة الدولة ، لعدم مشاركتهم في إقامة الشعائر وتقديس تماثيل الاباطرة . وقد بدأ اضطهادهم في مصر بطريقة منتظمة خلال حكم ( سبتميوس سفروس ) بحدود ١٩٣ – ٢١١ م ، وبلغ اشدّه في أواخر عصر ( دقلديانوس ) في حدود ٢٨٤ – ٣٠٥ م ، وهو ما تسمّيه الكنيسة ( عصر الشهداء ) .

انّ القراءة المسيحية المعاصرة لفترة الاضطهاد الأكبر والأبشع والاقسى في تاريخ المسيحية خلال عهد ( دقلديانوس ) ليست قائمة على منطق عقلي فاحص . انها قراءة ترى فترتين من التسامح والاضطهاد ، من تغيّر المواقف السياسية ، من الاختلاف بين الشرق والغرب صدفوية ، لكنّ الامر ليس كذلك .

انّ ( دقلديانوس ) خرج بأمر إهلاك المسيحية من داخل الغرفة المقدسة في المعبد ، وهو الرجل الذي كان يشغل المسيحيون الكثير من الوظائف داخل قصره ، فيما كان صهره ( جالريوس ) وثنياً متعصباً ، وهو زوج ( فالريا ) ابنة الإمبراطور التي كان البعض يراها مسيحية ، وكذلك أمها ( بريسكا ) ! . انّ هذه الشبكة التي احرقت المسيحيين لاحقاً لم تكن يوماً لتؤمن بالمسيحية أبدا ، لكنها بدأت مشروعاً جديدا ، حين وصلت بالمسيحيين الى ما وصلت اليه الفرعونية باليهود ، حينما جعلت منهم قسماً يهوداً وثنيين ، يقودهم كهنوت الظلام في السنهدرين ، كذلك أصبحت المسيحية على قسمين ، نتج احدهما عن كهنوت الظلام الجديد الذي اخلفه ( بولص ) .

انّ هذا المشروع يقتضي إبادة كل الجماعات المسيحية التي لا تزال توّحد الله ، والإبقاء على الجماعات البولصية ، التي ستتعبّد بالديانة الرومانية الجديدة ، وهي القائمة على الوثنية البولصية ، التي يمكن ان نسمّيها النسخة المحدِّثة عن الديانة الرومانية القديمة ، والتي هي أيضاً كانت نسخة محدثة عن الديانة الفرعونية القديمة .

لذلك كانت قسوة المشروع الخبيث هذا تصب جام غضبها على المسيحيين الشرقيين الموحدين ، وتلك الشعوب التي ترتكز الى فلسفة التوحيد الإبراهيمية ، فيما الجماعات المسيحية في الغرب التي ترتكز الى أصل وثني تمّ تلويثه بالبولصية الوثنية فتمّ الإبقاء عليها ، لتكون الارضيّة المستقبلية لانطلاق المسيحية الرومانية .

وسواءً كان ما نقله ( شاف ) عن لسان الكاهن وهو حرم الآلهة مخاطباً الإمبراطور – الذي يرافقه خدمته من المسيحيين – (( انّ الآلهة لا تتكلم في حضرة اعدائها )) ، قاصداً أولاء المسيحيين ، او ما نقله ( لكتانتيويس ) من تأثير صهر الإمبراطور ( جالريوس ) الوثني المتعصب المتعطش للدماء ، من أسباب لثورة ( دقلديانوس ) الأعنف ضد المسيحيين ، فذلك لا يبرِّر قسوتها ومنهجيتها وتخطيطها العالي . انّ السببين الذين تمّ ذكرهما آنفاً كانا عاملين ساعدا في تحقيق الرغبة الوثنية الوحشية للإمبراطورية ، والمنسقة بإتقان ، لابادة مسيحيي الشرق ، والإبقاء على المسيحية البولصية ( الكاثوليكية ) في الغرب . اذ لا يستطيع كاهن ما التحدث باسم الآلهة بحضور الإمبراطور ، والذي هو الكاهن الأعظم وابن الآلهة ، فضلاً عن اخباره بامتناعها عن الكلام ، وليس الإمبراطور ساذجاً وهو يرث هذا العرش الضخم ليكون تحت تأثير ( جالريوس ) زوجة ابنته ، التي يُفترض انها مسيحية ! . انّ هذه العمليات كانت مخاضاً اوليّاً لولادة ديانة جديدة ، سرقوا لها عنوانا ، وتبع ذلك مجموعة مخاضات لاحقاً في عموم أوربا ، لتبدأ سلسلة من الأفكار والجماعات والهوس ، حتى الوصول للقرن الأخير المعاصر ، كل ذلك بخدعة قديمة ، تمّ تطبيقها لأوّل مرة من قبل الحضارة القابيلية الاولى .

اصدر ( دقلديانوس ) مرسوماً عام ٣٠٣ م يقضي بهدم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وطرد ذوي المناصب الرفيعة وحرمانهم من الحقوق المدنية وحرمان العبيد من الحرية إِنْ اصرّوا على المسيحية . فيما نصّ المرسوم على عقوبة لم يحدد ماهيتها .

لقد بدأ تنفيذ المرسوم مباشرة في عيد ( الانتهاء ) ، بعد ان تمّ تعليق منشور المرسوم على جدران القصر الإمبراطوري ذاته ، لذلك كانت كنيسة ( نيقوميدية ) القريبة منه اوّل ضحايا قرار الهدم هذا ، لتسري هستيريا القتل والهدم في جميع الأقاليم .

وفي خطة جديدة قديمة أيضاً قام شخص ما بإحراق اجزاء من قصر الإمبراطور ، وبالتالي اتهام المسيحيين بتهمة محاولة حرق الإمبراطور وصهره احياء ، فانفجر العنف والقتل والحرق ضد المسيحيين كبركان . وهو الحريق الذي نسبه ( قنسطنطين ) للإضاءة لاحقا ، بعد استتباب الأمور للمسيحية البولصية ، لتبرير إعلانها ديناً إمبراطوريا ، رغم اتهامها بالإجرام سابقا .

وأصدر ( دقلديانوس ) مرسومين اخرين ، يقضيان بسجن جميع شيوخ الكنائس ، وتعريضهم للتعذيب ، بقصد إجبارهم على ترك الإيمان بالمسيحية .

اما الخطة التي انتهجها ( دقلديانوس ) لاصدار أوامر امبراطورية يتم تطبيقها في اقليم دون اقليم اخر ، وكذلك تمكّن الامبراطورية من الاشراف المباشر والسريع على إبادة المسيحيين ، فكانت بتقسيم الامبراطورية الى أربعة أقاليم ، تخضع لروما مركزيا ، لكنها تحت حكم حاكم برتبة ( إمبراطور ) . فكان ( دقلديانوس ) حاكماً على الشرق في اسيا ومصر وتراقيا ، وجعل مقرّه في ( نيقوميدية ) ، وكما هو واضح فالشرق مهد المسيحية ومصدر قوتها الفكرية والبشرية ، ومن ثمّ ( جالريوس ) الذي حكم الدانوب لبعض الوقت ، لكنّ الحاجة لسرعة الإبادة جعلت ( دقلديانوس ) يستدعيه الى الشرق ، و ( مكسميانوس هركوليوس ) على إيطاليا وإفريقيا ، و ( قنسطنطينوس كلوروس ) على ( غاليا ) التي هي فرنسا حالياً بما يتبعها من أقاليم ، وهو والد ( قنسطنطين الكبير ) الذي اقرّ المسيحية كدين رسمي لاحقا .

وقد اصدر ( مكسميانوس هركوليوس ) قراراً امبراطورياً أيضاً يقضي بإرغام جميع المسيحيين في المدن والقرى على التضحية للآلهة .

لكنّ ملامح تلك المؤامرة الكبرى ضد الشرق المسيحي الموحد والفيلسوف تكشّفت عندما اختار ( دقلديانوس ) قبيل استقالته عام ٣٠٥ م ( مكسميانوس دازا ) قيصراً ، وأطلق يده في سوريا ومصر ، وهو ابن اخي المتشدد الوثني ( جالريوس ) . ولمعرفة شخصية ( دازا ) هذه يكفي ان نعرف انه اصدر مرسوماً يقضي بإعادة بناء مذابح الأوثان ، وان يقدم الرجال والنساء والأولاد وحتى الرضّع الذبائح والتقدمات للآلهة ، وتذوّق تلك التقدمات بالاكراه ، وتدنيس الأطعمة التي تباع في الاسواق بسكائب الذبائح تلك ، ووقوف الحرّاس امام الحمامات العامة لتدنيس من يدخل اليها للاغتسال . وفي عام ٣١١ م امر ( دازا ) ببناء الهياكل في كل مدينة وإعادة الأحراش الوثنية المقدسة التي ازيلت سابقا ، وعيّن كهنة الأصنام ، وجعل عليهم في كل مقاطعة رئيساً ، ومنح جميع السحرة وظائف ادارية ، وأمر لهم بامتيازات خاصة .

وكما هو مكشوف فقد اقتصر الاضطهاد العام تحت قيادة ( دقلديانوس ) على الفترة ( ٣٠٣ – ٣٠٥ ) ، لكنّه في الشرق الذي يديره ( جالريوس ) و ( دازا ) استمر لفترة طويلة ( ٣٠٣ – ٣١١ ) ، فيما كانت اقسى فتراته التي اقتصرت على الشرق خلال ( ٣٠٨ – ٣١١ ) م .

وفيما تصف الكنيسة المعاصرة – بسذاجة – القيصر ( قنسطنطين كلوروس ) بالعطوف على المسيحيين في الغرب ، وتُرجِع لابنه ( قنسطنطين ) الفضل في الاعتراف بالمسيحية والتسامح الديني ، تفوتها تلك المؤامرة على مسيحية الشرق الموحدة ، ضمن لعبة لانعاش القابيلية الفرعونية الرومانية ، تحت راية المسيحية ، بعد ادراك الرومان قوّة هذه الديانة ، وشريانها في المجتمع العالمي رغماً عنهم .

عقائد روما المسيحية التثليثية

اصدر الإمبراطوران المشتركان ( قنسطنطين ) و ( ليكينيوس ) بعد التقائهما عقب الانتصار في معركة ( قنطرة ملفيا ) قرب روما بياناً مشتركاً ، أعلنا فيه التسامح الديني ، واجازا المسيحية كدين يمكن للعامّة الاعتقاد به . وكان ذلك بعد هزيمة ( مكسنتيوس بن مكسيميانوس ) في المعركة السابقة . وكان ذلك اللقاء في ( ميلان ) ، فعُرف المرسوم باسم ( مرسوم ميلان ) ، الذي صدر عام ٣١٣ م . ومن الغريب ان يتبعهما الإمبراطور ( دازا ) المجرم بمرسوم مشابه ، أعلن فيه التسامح الديني ، وسمح للمسيحية الجديدة بالظهور .

لكنّ إمبراطور الشرق ( ليكينيوس ) عاد لاضطهاد المسيحيين الشرقيين مرةً اخرى ، فواجهه ( قنسطنطين ) ، وانتصر عليه في عام ٣٢٣ م ، ليصبح ( قنسطنطين ) إمبراطوراً وحيداً للشرق والغرب الروماني . كما صار ( قنسطنطين ) – كنسياً – اوّل الاباطرة المسيحيين .

انّ هذا التلاعب بعقائد الناس وحياتهم وأرزاقهم لا يمكن ان تكون نهايته الإيمان الحقيقي من قبل كهنة الامبراطورية ، فضلاً عن معبودها ( الإمبراطور ) ، الذي يُفترض به ان يكون حلقة الوصل مع الآلهة ، ولا يمكن كذلك الاقتناع بإيمان وتسامح مجاميع من الأسر والقبائل الوثنية فجأة ، وبقرار إمبراطوري ، فضلاً عن آلاف السحرة ، والعشرات من المؤسسات التي تتفرع عن الوثنية الرومانية .

انّ القراءة العقلانية للمسيحية البولصية الرومانية يمكنها ان تكشف اسرار هذا الإيمان الطارئ على المسيحية ، وكذلك يمكنها تفسير هذا الحلف الدموي بين الاباطرة والباباوات الكنسيين ، الذي يمكن مقارنته بالحلف الذي تمّ عقده في ( نجد ) بين ( ال سعود ) وبين ( محمد بن عبد الوهاب ) ومن ثمّ ذريته ، لإنشاء الديانة الوهابية الدموية .

ولعلّ المفتاح الاول لمعرفة عقائد المسيحية الرومانية الجديدة يكمن في معرفة ( بولص ) ، الذي تلقّبه الكاثوليكية بالرسول ، لما له من دور تأسيسي للمرحلة البابوية الرومانية . وعلى ما يبدو فقد كان بولص يدخل في حوارات الفرق اليهودية ، مما يثير بينهم الفرقة والصراع كثيرا ، (( ولمّا علم بولص انّ قسماً منهم صدوقيون والقسم الاخر فريسيون صاح في الرجال الإخوة … فَلَمَّا قال ذلك وقع اختلاف بين الفريسيين والصدوقيين وانشقّت الجماعة … )) كما جاء في اعمال الرسل من الكتاب المقدس .

يقول مؤرخ اللاهوت الديني ( هايم ماكبي ) : (( وعلى الرغم من انّ بولص أعطى عيسى دوراً اوليّاً فأنّ هذا لا يعني انّه مؤسس هذا الدين مثلما انّ هاملت لم يكتب مسرح شكسبير )) .

( بولص الطرسوسي ) المغامر المجهول الأصل والديانة ، ولد في ( طرسوس ) من ( كيليكا ) في اسيا ، بعيداً عن القدس ، ولم يَرَى المسيحَ في حياته . هاجر الى القدس ، لغاية ما ، لكنّه عمل شرطياً ومخبراً للكاهن الأكبر اليهودي ، الذي تعيّنه الدولة الرومانية ، وبالتالي فكلاهما موظّفان رومانيان . يذكر الكتاب المقدس انّ اسمه قبل المسيحية كان ( شاؤول ) . عمل لصالح الكاهن الأعظم في مطاردة المؤمنين المسيحيين وسجنهم وتعذيبهم . ثمّ أعلن انه في طريقه الى دمشق – ضمن مهمة خطف ضد المسيحيين الهاربين الى دولة الانباط – ظهر له ( يسوع المسيح ) ، وقد جعله رسولا . ويبدو انه استثمر رغبة جهتين في التهام الدين المسيحي ، هما الرومانية واليهودية الكهنوتية ، فحظي بمساعدتهما ، وحظيا بمساعدته . لذلك دخل في مواجهة حادّة مع تلامذة عيسى المسيح من الحواريين ، مثل ( يعقوب العادل ) القائم بأعمال عيسى الإدارية ، و ( سمعان بطرس ) القائم على تعاليم عيسى الدينية ، واللذان يشرفان على جماعة القدس التي تتلمذت على يد النبي . حيث ادّعى انّ احلامه ورؤاه الخيالية لعيسى اهم من الارث الذي تركه لمدرسة القدس ، التي يشرف عليها اخو المسيح ( يعقوب ) ، لذلك عمل جاهداً – ونجح كثيراً – في طمس تاريخ مدرسة القدس المسيحية للحواريين وانصار المسيح الأوائل . وقد اكمل ( لوقا ) تلميذ بولص تلك المهمة في تزوير التاريخ ، فترك لنا انجيلاً مليئاً بالتناقضات التاريخية والفكرية ، كلّ هدفه طمس معالم المسيحية الاولى للحواريين ، الذين صوّرهم في إنجيله بنحو يظهرهم لا يفهمون تعاليم المسيح ، كما فهمها الغريب بولص ! . وقد كانت اهم نصوص بولص المتوارثة هي رسائله ، التي كتبها في حدود ( ٥٠ – ٦٠ ) م ، وبالتالي فهي اسبق من تاريخ الاناجيل التي وصلتنا ، والتي كُتبت كما يبدو بحدود ( ٧٠ – ١١٠ ) م ، ومن ثمّ فهي متأثرة بما اوجده بولص من تفسيرات وتأويلات وكهنوت ، وما أضفاه من رؤى على تعاليم عيسى . وفي الوقت الذي حاولت فيه أناجيل الكنسية الباطنية التماشي مع مفاهيم بولص ، من خلال موائمة الأحداث التي سبقت ظهوره مع فلسفته ، فقد تمّ اخفاء كل الموروث الانجيلي لتلامذة عيسى الذين خالفوا بولص في اعتقاداته . وكذلك تمّ تصوير تلامذة عيسى المباشرين على انهم مجموعة من محدودي الذكاء الذين لم يستطيعوا مواجهة العقل الذي تمتع به هذا الحربائي بولص . واتهمت الكنيسة الرسمية لاحقاً كل تعاليم وموروث حواريي عيسى الرسول بالكفر والهرطقة ، وأمرت بإزالته ، في إبادة لتاريخ وامة ، وسرقة مشابهة لما قام به كهنة الفراعنة عندما سرقوا اليهودية ، مع الفارق انّ السرقة للمسيحية كانت أشدّ قسوة وابلغ اثرا . ومن هنا سنجد تلك الشخصيات المختارة والنخبة الإيمانية من الحواريين قد عُتِّم عليهم في الكتاب المقدس ، وتمّ تحويلهم الى شخصيات باهتة ، فيما يُفترض انّ التاريخ المكتوب عنهم يكون بحجم ما ورثوه وما عانوه وما أفاضوه ، لكنّ الكتاب المقدس اكتفى ببعض معجزات لهم ، وبعض ما ادَّعاه من حضور بولص بينهم .

والغريب في التاريخ الرسمي لهذه الديانة أنْ ينقل إرث رجل لم يلتقِ النبيَّ صاحبَ الرسالة كبولص ، ويترك جملةً وتفصيلاً ما افاضه القائم بشؤون المسيحية بعد عيسى مباشرة ، وهو ( يعقوب ) المدعو اخا المسيح ! . لقد تزعّم يعقوب المسيحيين منذ رحل عيسى ، وكان رائدهم عند غيابه ، وعلى جماعته أطلقت الكنيسة الرسمية ( كنيسة القدس ) .

لقد هاجم ( الابيونيون ) – وهم الفقراء من اتباع عيسى – بولص وعقائده ، واعتبرها محرّفة ووثنية ، فيما يقول ( ماكبي ) انّ هناك نصّاً عربيًّا لأحد اتباع المسيح الأوائل يهاجم فيه بولص .

وفيما ينقل ( لوقا ) تلميذ بولص انّه من مواليد ( طرسوس ) في اسيا ، نرى بولص يكذب على أهل رومية فيقول انّه إسرائيلي من سِبْط بنيامين . وهو ما تتجاوزه الكنيسة الرسمية ولا تحاول الخوض فيه ، لأنّ ذلك سيكشف كيف انّ بولص كان يحاول خداع الامم بدعوى قربه من مصدر الرسالة ، وهذا ما عبّر عنه أستاذ تاريخ اللاهوت ( ماكبي ) ايضا . واستمراراً في التزوير والخداع كان بولص يدّعي انه ( فريسي ) ، لما كان من سمعة جيدة نسبياً لطائفة الفريسيين اليهود ، حيث هي اقرب للناس من طائفة الصدوقيين التي كان كاهنها يمثّل السلطة الرومانية ، كما كان تعبير الفريسيين اقرب لتمثيل اليهودية شعبياً ، مما يسمح ليوصل ان يدّعي انّ معارفه تستمد جذورها من اليهودية ، لكن المفاجأة انّ بولص كان شرطياً عند كاهن الصدوقيين كما عبّر هو ! .

يقول لوقا في اعمال الرسل (( وَأَمَّا شاؤول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجرّ رجالاً ونساءً ويسلمّهم الى السجن )) . وقد كان الكاهن الأكبر المشرف على السجن صدوقيّاً كما ينقل المتخصصون .

لقد كانت تعاليم بولص وثنية فقط ، ترجع اصولها – كما ستبين لاحقاً – الى معتقدات الأقوام غير الموحدة ، مما يعني انها لا ترتبط بالتوحيدية اليهودية ، لا سيما في عقيدة الفداء والتضحية البشرية للمسيح وألوهيته .

فيما كان ( مرسيون ) – الذي عاش في روما بعد زمن بولص – يبشّر بعقائد بولص الجديدة ، لكنّه كان يراها ديناً جديداً ، كما هي فعلاً ، ولا يرى انها ترتبط باليهودية . والطريف انّ فلاسفة المسيحية في القرون التالية حاولوا موائمة معتقدات بولص مع الجذور اليهودية رغم معرفتهم بالمواجهات الحادة بينه وبين رجال الدين اليهود والمسيحيين الأوائل ، الى الدرجة التي ادّعى فيها انه يهتمّ للأمم غير اليهودية ويذر اليهود لما اختاروا بينهم .

لقد كانت الفترة الدموية الإرهابية ( ٣٠٣ – ٣١١ ) كافية لابادة ما كتبه فقراء وعامّة المسيحيين ( الابيونيون ) ، حول عيسى او بولص ، ويبدو انّ غاية هذه الحملة لم تتعدَ هذا الهدف ، لكنّ ارائهم المنقولة في كتب من ردّ عليهم تكشف انهم لم يروا في عيسى سوى انه بشر رسول ، وانّ بولصاً كان منحرفاً عن جادة التوحيد . ورغم انّ الابيونيين كانوا اتباع عيسى وشهدوا رسالته وانتشارها ، كما انهم عرفوا بولص عن قرب إِلَّا انّ الكنيسة الرسمية رفضت شهادتهم بالأصل الوثني لبولص وانه لم يكن يهودياً حتى خروجه من طرسوس .

وفيما انقسم اليهود حول نبوة عيسى ، كان جمع غفير منهم – لا سيما شعبيا – يصدّق برسالته ، سوى الكهنوت الذي عمل لديه بولص . وفي الوقت الذي كان غالب اليهود ومعهم المسيح وحواريوه يعادون السلطة الوثنية الرومانية كان بولص يتعاون معها قبل وبعد دعواه الباطلة ، وقد عرفنا كيف كان ذلك قبل كذبته الكبرى ، وبقي ان نعرف كيف كان تعاونه ما بعدها لاحقا ، حيث انّ كذبته وسرقته للمسيحية لم تكن سوى اتماماً لمهمة أمنية رومانية .

ونظرية الكائن الالهي ( الرَّبّ ) الذي يفدي البشرية لم تكن سوى أسطورة وثنية مصرية قديمة . وهذه النظرية وفَّرت لاتباع بولص فرص الذنوب الكبرى والمجازر والاساءة وكلّ اثم ، بدعوى التكفير عن الخطايا من خلال الإيمان بالمسيح ، وكانت أصل ( صكوك الغفران ) سيئة الصيت .

لا يمكننا كباحثين الاستساغة المنطقية لتحوّل اكثر رجال السلطان الوثني اجراماً مثل ( بولص = شاؤول ) الى متحدّث باسم الله ورسوله ، وقيّماً على معتقدات وسلوك تلاميذ المسيح الأوائل من الحواريين . لقد جاء في اعمال الرسل الإصحاح التاسع (( 1 أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّدًا وَقَتْلاً عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ، فَتَقَدَّمَ إِلَى رَئِيسِ الْكَهَنَةِ 2 وَطَلَبَ مِنْهُ رَسَائِلَ إِلَى دِمَشْقَ، إِلَى الْجَمَاعَاتِ، حَتَّى إِذَا وَجَدَ أُنَاسًا مِنَ الطَّرِيقِ، رِجَالاً أَوْ نِسَاءً، يَسُوقُهُمْ مُوثَقِينَ إِلَى أُورُشَلِيمَ. )) . وهنا يمكننا الاستعانة بالمفهوم الرسالي القراني الذي يخبرنا انّ ( عهد الله ) لن يكون من نصيب الظالمين ، فهو ( جعل ) الهي ، لا يكون بالمزاج البشري ، لا سيما لظالم مثل ( بولص ) ، [ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [الجزء: ١ | البقرة (٢)| الآية: ١٢٤] .

ويبدو – كما انتبه اليه المختصون – انّ ذهاب بولص الى دمشق لم يكن من اجل الرسائل ، فهي كانت تقع تحت الحكم العربي للملك الانباطي ( الحارث ) ، الذي لم يكن يوالي الرومان ، وكان يدخل في خصومة معهم ، لذلك لجأت اليه جماعات من المسيحيين ، هرباً من اجرام الرومان والكاهن الأكبر ، وبالتالي لن يسمح لبولص ان ( يسوقهم موثقين الى أورشليم ) ، لكنّ الامر – كما يُقرأ عسكرياً – لم يكن سوى عملية من عمليات الخطف التي كان يديرها بولص ضد قيادات الجماعة المسيحية المؤمنة .

وفعلاً يرى كاتب مسيحي في العصور المتأخرة يُدعى ( كليمنت ) في كتاب له بعنوان ( استكشافات ) انّ بولص توجّه الى دمشق لاختطاف ( بطرس ) ، احد قطبي المسيحية الناصرية ، الذي لجأ الى دمشق ، بعد محاولة اغتيال ( يعقوب ) القطب الاخر في المسيحية الاولى . وهذا ما أيَّده اعتراف بولص في رسالته الى أهل كورنثوس الإصحاح الحادي عشر (( 32 فِي دِمَشْقَ، وَالِي الْحَارِثِ الْمَلِكِ كَانَ يَحْرُسُ مدِينَةَ الدِّمَشْقِيِّينَ، يُرِيدُ أَنْ يُمْسِكَنِي، 33 فَتَدَلَّيْتُ مِنْ طَاقَةٍ فِي زَنْبِيل مِنَ السُّورِ، وَنَجَوْتُ مِنْ يَدَيْهِ. )) .

وهذه الرحلة الاجرامية الى دمشق هي التي ادّعى بولص انّ وحي المسيح نزل عليه في طريقها ، فأخبره انه رسوله الى الامم ، والتي يتناقض في نقلها الكتاب المقدس ، ليقول مرة انّ مرافقي بولص رأوْا الشخص ولم يسمعوا الصوت ، ومرة انهم سمعوا الصوت ولم يروا الشخص ! . ومن هذا الطريق الاجرامي ابتدأت قصة المسيحية الرسمية الكاثوليكية البابوية .

ومن اهم مغالطات وبدع بولص التي جاء بها من الطقوس الفرعونية – المرتبطة باوزوريس – هي فكرة ( القربان المقدس ) ، حين يشترك المؤمن في شرب دم المسيح الذي افتداه ، والتي كان اليهود والمسيحيون الأوائل يرونها من عادات الوثنيين ، كما في يوحنا الإصحاح السادس (( 53 فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. 54 مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ، 55 لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَق وَدَمِي مَشْرَبٌ حَق. 56 مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ. 57 كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي. 58 هذَا هُوَ الْخُبْزُ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. لَيْسَ كَمَا أَكَلَ آبَاؤُكُمُ الْمَنَّ وَمَاتُوا. مَنْ يَأْكُلْ هذَا الْخُبْزَ فَإِنَّهُ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ». )) ، وهي المقاطع التي تتوافق مع معتقد بولص في رسالته الثانية لأهل كورنثوس الإصحاح الخامس (( 21 لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ. )) ، ورسالته الاولى لهم الإصحاح الخامس ايضا (( 7 إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا. )) ، والغريب انّ بولص يدّعي تسلّمه ذلك الطقس بالوحي عن طريق ( الرَّبّ ) ، كما في رسالته لأهل كورنثوس الإصحاح ١١ (( 23 لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا )) .

ومن الاعمال التي ابتكرها بولص كان إنشائه للكنيسة ، حيث لم يكن المسيحيون – وعيسى كذلك – قد اسسوا مراكزاً دينية خاصة بهم ، وهذا ما يكشفه الكتاب المقدس في اعمال الرسل الإصحاح الثاني (( 46 وَكَانُوا كُلَّ يَوْمٍ يُواظِبُونَ فِي الْهَيْكَلِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذْ هُمْ يَكْسِرُونَ الْخُبْزَ فِي الْبُيُوتِ، كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ الطَّعَامَ بِابْتِهَاجٍ وَبَسَاطَةِ قَلْبٍ، 47 مُسَبِّحِينَ اللهَ، وَلَهُمْ نِعْمَةٌ لَدَى جَمِيعِ الشَّعْبِ. وَكَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ )) . لكنّ بولص أراد ان تكون لسلطته تراتبية ادارية ، مشابهة لما كانت عليه الوثنية الفرعونية ، والرومانية ، وكذلك ما يمكّنه من منافسة الكهنوت اليهودي القائم على مركزية الهيكل . وهو الامر الذي أعطى للرومان لاحقاً القدرة على إدارة دفّة الامم المسيحية .

ورغم التناقض الذي نجده في نصّين للكتاب المقدس في الإصحاح السادس عشر من متّى ، إِلَّا اننا نستشفّ منه انّ عيسى جعل ( بطرس ) الزعيم الروحي للأمة المسيحية ، ولا نعرف كيف تسنّى لبولص ان يعارضه ويناقشه ويدخل معه ومع الجماعة التي يشرف عليها في القدس في خلاف ! . لكنّ من كتبوا الإنجيل بعد بولص عالجوا هذا الإشكال بالطعن في ( بطرس ) في النصّ الذي يليه ! . امّا مفردة ( كنيستي ) التي جائت ضمن المقطع فهي ربما من وضع هؤلاء الكتبة ، وربما هي ترجمة منهم لمعنى روحي قصده المسيح ، وهذه الترجمات المحرفة ترد كثيرا في الإنجيل او في غيره ، كما ترجم الاثاريون مفردة ( دنجير ) السومرية بمعنى ( اله ) ولم تكن سوى بمعنى ( ولي او نبي ) . (( 13 وَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى نَوَاحِي قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ سَأَلَ تَلاَمِيذَهُ قِائِلاً:«مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» 14 فَقَالُوا:«قَوْمٌ: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ: إِرْمِيَا أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». 15 قَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟» 16 فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ:«أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!». 17 فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 18 وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا. 19 وَأُعْطِيكَ مَفَاتِيحَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ، فَكُلُّ مَا تَرْبِطُهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاوَاتِ. وَكُلُّ مَا تَحُلُّهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولاً فِي السَّمَاوَاتِ». 20 حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلاَمِيذَهُ أَنْ لاَ يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ.

21 مِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيرًا مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. 22 فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً:«حَاشَاكَ يَارَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!» 23 فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ:«اذْهَبْ عَنِّي يَاشَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ». )) . وربما كان من أهداف هذه النصوص اثارة ما ذهبنا اليه من تصوير الاناجيل البولصية للحواريين بنحو يظهرهم بمستوى أقلّ من بولص ذاته ، لمنحه فرصة البروز والقفز على التاريخ .

وفي الوقت الذي كان فيه بولص يتمتع بعلاقات مميزة مع الكاهن الصدوقي الأكبر ، وكذلك بالمواطنة الرومانية التي وفَّرت له الحماية العسكرية ، كان اتباع عيسى وعائلته يعانون ضريبة إيمانهم ، كسائر اتباع الرسل ، بخلاف بولص . لقد أخذ الكاهن الأكبر المشرف على المسيحيين بعد عيسى ( يعقوب ) وقام بإعدامه ، ومن بعده اصدر الرومان أمراً باعتقال ذرية ( داوود ) ، وعلى اثره ألقوا القبض على خليفة يعقوب ( شمعون ) وأعدموه . وهذا ما يفسّر هروب ( بطرس ) وجماعته الى دمشق الانباط ، رغم انه لم يكن من ذرية داوود .

وقد كان الخلاف بين الحواريين وبين بولص واضحا ، يثبت أنّهم كانوا يحاربون أفكاره بشدّة . انّ اخطر دعاوى بولص كانت في رفضه للناموس ( شريعة موسى ) ، ومنها ( الختان ) ، مما اثار ضجة كبيرة ، من داخل اليهود الذين كانوا يعرفون انّ عيسى جعل الشريعة الموسوية جزءاً عملياً من رسالته ، ومن داخل المسيحيين الذين أستهجنوا هذه البدعة البولصية ، ومن داخل الامم التي اضطربت نتيجة لما يأتيها من رؤى مختلفة حول تعاليم المسيحية . لذلك كانت ( المحاكم المسيحية ) تُعقد لمسائلة بولص ، وأحياناً كان جمهور القدس المسيحي يريد تأديبه ، إِلَّا انه كان ينجو بفعل الحماية الرومانية ، وعلى يد الضبّاط والجنود الرومان . وقد أشار لذلك الكتاب المقدس في اعمال الرسل الإصحاح الخامس عشر (( 1 وَانْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ «إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى، لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا». 2 فَلَمَّا حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ وَمُبَاحَثَةٌ لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ مَعَهُمْ، رَتَّبُوا أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى الرُّسُلِ وَالْمَشَايخِ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ أَجْلِ هذِهِ الْمَسْأَلَةِ. 3 فَهؤُلاَءِ بَعْدَ مَا شَيَّعَتْهُمُ الْكَنِيسَةُ اجْتَازُوا فِي فِينِيقِيَةَ وَالسَّامِرَةِ يُخْبِرُونَهُمْ بِرُجُوعِ الأُمَمِ، وَكَانُوا يُسَبِّبُونَ سُرُورًا عَظِيمًا لِجَمِيعِ الإِخْوَةِ. 4 وَلَمَّا حَضَرُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَتْهُمُ الْكَنِيسَةُ وَالرُّسُلُ وَالْمَشَايخُ، فَأَخْبَرُوهُمْ بِكُلِّ مَا صَنَعَ اللهُ مَعَهُمْ. 5 وَلكِنْ قَامَ أُنَاسٌ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا مِنْ مَذْهَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا:«إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَنُوا، وَيُوصَوْا بِأَنْ يَحْفَظُوا نَامُوسَ مُوسَى». )) . ورغم انّ هذه النصوص وما بعدها تمت صياغتها لصالح آراء بولص ، إِلَّا انها تكشف مدى الخلاف بين الحواريين وبينه .

وفي رسالته لأهل غلاطية يكشف بولص لنا عدّة حقائق ، فهو قد تمّ استدعائه للمحاكمة من قبل زعماء الحواريين في القدس ، وقد كان يرافقه ( تيطس ) اليوناني الذي لا يلتزم الشريعة الموسوية ، ويظهر واضحاً انه كان متهماً باستخدامه لإنجيل مبتدع لدعوته بين الامم ، يخالف ما عليه الْحَوَارِيُّونَ ، لذلك كان مضطراً لعرضه على هؤلاء الزعماء ، وفيه أيضاً نرى انّ المسيحيين كانوا يرصدون له من يراقبه ويتجسس على تحركاته ، مما يكشف عن ريبة كبيرة تجاهه ، ومن خلاله ندرك انّ بولص لم يكن يقيم لهؤلاء الزعماء وعلمهم وزناً ، وافترض انه يعادلهم جميعاً في القيمة الروحية والدينية ، ويظهر في كلامه انه غير مقتنع بأنهم كانوا أعمدة القوم والديانة ، رغم انه كذبَ في ادّعائه منحهم له سلطة دينية تساوي ما لهم ، في تناقض بين القيمة المتدنية التي اعطاهم وبين حاجته الى إجازتهم المكذوبة . ولعلّ اهم ما عرضه في هذه الرسالة كان بدعته الكبرى بانتفاء الشريعة العملية بمجرد الإيمان بيسوع المسيح ، كما هي مفاهيم ( صكّ الغفران ) .

ومفاد هذه الرسالة كالآتي الإصحاح الثاني (( 1 ثُمَّ بَعْدَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدْتُ أَيْضًا إِلَى أُورُشَلِيمَ مَعَ بَرْنَابَا، آخِذًا مَعِي تِيطُسَ أَيْضًا. 2 وَإِنَّمَا صَعِدْتُ بِمُوجَبِ إِعْلاَنٍ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الإِنْجِيلَ الَّذِي أَكْرِزُ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، وَلكِنْ بِالانْفِرَادِ عَلَى الْمُعْتَبَرِينَ، لِئَلاَّ أَكُونَ أَسْعَى أَوْ قَدْ سَعَيْتُ بَاطِلاً. 3 لكِنْ لَمْ يَضْطَرَّ وَلاَ تِيطُسُ الَّذِي كَانَ مَعِي، وَهُوَ يُونَانِيٌّ، أَنْ يَخْتَتِنَ. 4 وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الْكَذَبَةِ الْمُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي الْمَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا، 5 اَلَّذِينَ لَمْ نُذْعِنْ لَهُمْ بِالْخُضُوعِ وَلاَ سَاعَةً، لِيَبْقَى عِنْدَكُمْ حَقُّ الإِنْجِيلِ. 6 وَأَمَّا الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ شَيْءٌ ¬ مَهْمَا كَانُوا، لاَ فَرْقَ عِنْدِي، اَللهُ لاَ يَأْخُذُ بِوَجْهِ إِنْسَانٍ ¬ فَإِنَّ هؤُلاَءِ الْمُعْتَبَرِينَ لَمْ يُشِيرُوا عَلَيَّ بِشَيْءٍ. 7 بَلْ بِالْعَكْسِ، إِذْ رَأَوْا أَنِّي اؤْتُمِنْتُ عَلَى إِنْجِيلِ الْغُرْلَةِ كَمَا بُطْرُسُ عَلَى إِنْجِيلِ الْخِتَانِ. 8 فَإِنَّ الَّذِي عَمِلَ فِي بُطْرُسَ لِرِسَالَةِ الْخِتَانِ عَمِلَ فِيَّ أَيْضًا لِلأُمَمِ. 9 فَإِذْ عَلِمَ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي يَعْقُوبُ وَصَفَا وَيُوحَنَّا، الْمُعْتَبَرُونَ أَنَّهُمْ أَعْمِدَةٌ، أَعْطَوْنِي وَبَرْنَابَا يَمِينَ الشَّرِكَةِ لِنَكُونَ نَحْنُ لِلأُمَمِ، وَأَمَّا هُمْ فَلِلْخِتَانِ. 10 غَيْرَ أَنْ نَذْكُرَ الْفُقَرَاءَ. وَهذَا عَيْنُهُ كُنْتُ اعْتَنَيْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ.

11 وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا. 12 لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. 13 وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ! 14 لكِنْ لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ، قُلْتُ لِبُطْرُسَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ:«إِنْ كُنْتَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ تَعِيشُ أُمَمِيًّا لاَ يَهُودِيًّا، فَلِمَاذَا تُلْزِمُ الأُمَمَ أَنْ يَتَهَوَّدُوا؟» 15 نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُودٌ وَلَسْنَا مِنَ الأُمَمِ خُطَاةً، 16 إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا. 17 فَإِنْ كُنَّا وَنَحْنُ طَالِبُونَ أَنْ نَتَبَرَّرَ فِي الْمَسِيحِ، نُوجَدُ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا خُطَاةً، أَفَالْمَسِيحُ خَادِمٌ لِلْخَطِيَّةِ؟ حَاشَا! 18 فَإِنِّي إِنْ كُنْتُ أَبْنِي أَيْضًا هذَا الَّذِي قَدْ هَدَمْتُهُ، فَإِنِّي أُظْهِرُ نَفْسِي مُتَعَدِّيًا. 19 لأَنِّي مُتُّ بِالنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا للهِ. 20 مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. 21 لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ! )) .

ومن الإصحاح الحادي والعشرين من اعمال الرسل نعرف حقائقاً اخرى ، حيث انّ بولص كان كالحرباء ، يتلوّن اعتماداً على مستوى الخطر والتهديد ، كما نرى كيف انّه كان متهماً من قبل اليهود والمسيحيين على حدٍ سواء بأنّه يدعو الناس للارتداد عن شريعة موسى ، وهي الجانب العملي من رسالة عيسى . وفيما يدعو هو لذلك فعلاً – وهذا ما يؤيده الإنجيل – استنكر عليه الْحَوَارِيُّونَ واتباع المسيح الأوائل ذلك ، فَلَو كان هذا الارتداد والهجران الموسوية من تعاليم عيسى كيف جاز لهؤلاء الاتباع المقربين الغفلة عنه واستنكاره ! . لكن يبدو انّ المسيحيين المعاصرين يغفلون عن ذلك بتأثير التعاليم البولصية ذاتها ، تحت رعاية الكنيسة الرومانية البابوية الحالية .

جاء في اعمال الرسل الإصحاح الحادي والعشرين (( وَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَنَا الإِخْوَةُ بِفَرَحٍ. 18 وَفِي الْغَدِ دَخَلَ بُولُسُ مَعَنَا إِلَى يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ جَمِيعُ الْمَشَايخِ. 19 فَبَعْدَ مَا سَلَّمَ عَلَيْهِمْ طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ شَيْئًا فَشَيْئًا بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ اللهُ بَيْنَ الأُمَمِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ. 20 فَلَمَّا سَمِعُوا كَانُوا يُمَجِّدُونَ الرَّبَّ. وَقَالُوا لَهُ:«أَنْتَ تَرَى أَيُّهَا الأَخُ كَمْ يُوجَدُ رَبْوَةً مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ جَمِيعًا غَيُورُونَ لِلنَّامُوسِ. 21 وَقَدْ أُخْبِرُوا عَنْكَ أَنَّكَ تُعَلِّمُ جَمِيعَ الْيَهُودِ الَّذِينَ بَيْنَ الأُمَمِ الارْتِدَادَ عَنْ مُوسَى، قَائِلاً أَنْ لاَ يَخْتِنُوا أَوْلاَدَهُمْ وَلاَ يَسْلُكُوا حَسَبَ الْعَوَائِدِ. 22 فَإِذًا مَاذَا يَكُونُ؟ لاَ بُدَّ عَلَى كُلِّ حَال أَنْ يَجْتَمِعَ الْجُمْهُورُ، لأَنَّهُمْ سَيَسْمَعُونَ أَنَّكَ قَدْ جِئْتَ. 23 فَافْعَلْ هذَا الَّذِي نَقُولُ لَكَ: عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ رِجَال عَلَيْهِمْ نَذْرٌ. 24 خُذْ هؤُلاَءِ وَتَطهَّرْ مَعَهُمْ وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمْ لِيَحْلِقُوا رُؤُوسَهُمْ، فَيَعْلَمَ الْجَمِيعُ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا أُخْبِرُوا عَنْكَ، بَلْ تَسْلُكُ أَنْتَ أَيْضًا حَافِظًا لِلنَّامُوسِ. 25 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الأُمَمِ، فَأَرْسَلْنَا نَحْنُ إِلَيْهِمْ وَحَكَمْنَا أَنْ لاَ يَحْفَظُوا شَيْئًا مِثْلَ ذلِكَ، سِوَى أَنْ يُحَافِظُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِمَّا ذُبحَ لِلأَصْنَامِ، وَمِنَ الدَّمِ، وَالْمَخْنُوقِ، وَالزِّنَا». 26 حِينَئِذٍ أَخَذَ بُولُسُ الرِّجَالَ فِي الْغَدِ، وَتَطَهَّرَ مَعَهُمْ وَدَخَلَ الْهَيْكَلَ، مُخْبِرًا بِكَمَالِ أَيَّامِ التَّطْهِيرِ، إِلَى أَنْ يُقَرَّبَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقُرْبَانُ. )) .

وما يؤيد هذه الحربائية لدى بولص رسالته لأهل كورنثوس الاولى الإصحاح التاسع (( 20 فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. 21 وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ ¬ مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ ِللهِ، بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ ¬ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. )) .

لكنّه كان ممقوتاً من سكّان القدس ، فهاج الشعب ضدّه واراد تأديبه ، لا سيما وقد رافقه احد الوثنيين غير المتطهرين المدعو ( تروفيمس ) ، وقد ادخله بولص لحرم الهيكل ، لكنّ الرومان انقذوه ، كما انهم أشاروا الى كونه مصرياً اثار الفتنة قبل ايام في المدينة ، ورغم ذلك سمحوا له بالصعود ومخاطبة الشعب !! . وهذا ما يبيّنه النص في اعمال الرسل (( 27 وَلَمَّا قَارَبَتِ الأَيَّامُ السَّبْعَةُ أَنْ تَتِمَّ، رَآهُ الْيَهُودُ الَّذِينَ مِنْ أَسِيَّا فِي الْهَيْكَلِ، فَأَهَاجُوا كُلَّ الْجَمْعِ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الأَيَادِيَ 28 صَارِخِينَ:«يَا أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ، أَعِينُوا! هذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي يُعَلِّمُ الْجَمِيعَ فِي كُلِّ مَكَانٍ ضِدًّا لِلشَّعْبِ وَالنَّامُوسِ وَهذَا الْمَوْضِعِ، حَتَّى أَدْخَلَ يُونَانِيِّينَ أَيْضًا إِلَى الْهَيْكَلِ وَدَنَّسَ هذَا الْمَوْضِعَ الْمُقَدَّسَ». 29 لأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ رَأَوْا مَعَهُ فِي الْمَدِينَةِ تُرُوفِيمُسَ الأَفَسُسِيَّ، فَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ بُولُسَ أَدْخَلَهُ إِلَى الْهَيْكَلِ. 30 فَهَاجَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا، وَتَرَاكَضَ الشَّعْبُ وَأَمْسَكُوا بُولُسَ وَجَرُّوهُ خَارِجَ الْهَيْكَلِ. وَلِلْوَقْتِ أُغْلِقَتِ الأَبْوَابُ. 31 وَبَيْنَمَا هُمْ يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، نَمَا خَبَرٌ إِلَى أَمِيرِ الْكَتِيبَةِ أَنَّ أُورُشَلِيمَ كُلَّهَا قَدِ اضْطَرَبَتْ. 32 فَلِلْوَقْتِ أَخَذَ عَسْكَرًا وَقُوَّادَ مِئَاتٍ وَرَكَضَ إِلَيْهِمْ. فَلَمَّا رأَوْا الأَمِيرَ وَالْعَسْكَرَ كَفُّوا عَنْ ضَرْبِ بُولُسَ.

33 حِينَئِذٍ اقْتَرَبَ الأَمِيرُ وَأَمْسَكَهُ، وَأَمَرَ أَنْ يُقَيَّدَ بِسِلْسِلَتَيْنِ، وَطَفِقَ يَسْتَخْبِرُ: تُرَى مَنْ يَكُونُ؟ وَمَاذَا فَعَلَ؟ 34 وَكَانَ الْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَالْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ فِي الْجَمْعِ. وَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَعْلَمَ الْيَقِينَ لِسَبَبِ الشَّغَبِ، أَمَرَ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْمُعَسْكَرِ. 35 وَلَمَّا صَارَ عَلَى الدَّرَجِ اتَّفَقَ أَنَّ الْعَسْكَرَ حَمَلَهُ بِسَبَبِ عُنْفِ الْجَمْعِ، 36 لأَنَّ جُمْهُورَ الشَّعْبِ كَانُوا يَتْبَعُونَهُ صَارِخِينَ: «خُذْهُ!». 37 وَإِذْ قَارَبَ بُولُسُ أَنْ يَدْخُلَ الْمُعَسْكَرَ قَالَ لِلأَمِيرِ:«أَيَجُوزُ لِي أَنْ أَقُولَ لَكَ شَيْئًا؟» فَقَالَ:«أَتَعْرِفُ الْيُونَانِيَّةَ؟ 38 أَفَلَسْتَ أَنْتَ الْمِصْرِيَّ الَّذِي صَنَعَ قَبْلَ هذِهِ الأَيَّامِ فِتْنَةً، وَأَخْرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعَةَ الآلاَفِ الرَّجُلِ مِنَ الْقَتَلَةِ؟». 39 فَقَالَ بُولُسُ:«أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ طَرْسُوسِيٌّ، مِنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ غَيْرِ دَنِيَّةٍ مِنْ كِيلِيكِيَّةَ. وَأَلْتَمِسُ مِنْكَ أَنْ تَأْذَنَ لِي أَنْ أُكَلِّمَ الشَّعْبَ». 40 فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ، وَقَفَ بُولُسُ عَلَى الدَّرَجِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الشَّعْبِ، فَصَارَ سُكُوتٌ عَظِيمٌ. فَنَادَى بِاللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ … )) .

وفي اعمال الرسل الإصحاح الثالث والعشرين يبدو واضحاً انّ هناك من كان يعاون بولص ويعمل على إيصال اخباره للرومان من اجل حمايته (( 22 فَأَطْلَقَ الأَمِيرُ الشَّابَّ مُوصِيًا إِيَّاهُ أَنْ:«لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ إِنَّكَ أَعْلَمْتَنِي بِهذَا». 23 ثُمَّ دَعَا اثْنَيْنِ مِنْ قُوَّادِ الْمِئَاتِ وَقَالَ:«أَعِدَّا مِئَتَيْ عَسْكَرِيٍّ لِيَذْهَبُوا إِلَى قَيْصَرِيَّةَ، وَسَبْعِينَ فَارِسًا وَمِئَتَيْ رَامِحٍ، مِنَ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ اللَّيْلِ. 24 وَأَنْ يُقَدِّمَا دَوَابَّ لِيُرْكِبَا بُولُسَ وَيُوصِلاَهُ سَالِمًا إِلَى فِيلِكْسَ الْوَالِي». 25 وَكَتَبَ رِسَالَةً حَاوِيَةً هذِهِ الصُّورَةَ:

26 «كُلُودِيُوسُ لِيسِيَاسُ، يُهْدِي سَلاَمًا إِلَى الْعَزِيزِ فِيلِكْسَ الْوَالِي: 27 هذَا الرَّجُلُ لَمَّا أَمْسَكَهُ الْيَهُودُ وَكَانُوا مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، أَقْبَلْتُ مَعَ الْعَسْكَرِ وَأَنْقَذْتُهُ، إِذْ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ رُومَانِيٌّ. 28 وَكُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَعْلَمَ الْعِلَّةَ الَّتِي لأَجْلِهَا كَانُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلْتُهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ، 29 فَوَجَدْتُهُ مَشْكُوًّا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَسَائِلِ نَامُوسِهِمْ. وَلكِنَّ شَكْوَى تَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ أَوِ الْقُيُودَ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ. 30 ثُمَّ لَمَّا أُعْلِمْتُ بِمَكِيدَةٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَصِيرَ عَلَى الرَّجُلِ مِنَ الْيَهُودِ، أَرْسَلْتُهُ لِلْوَقْتِ إِلَيْكَ، آمِرًا الْمُشْتَكِينَ أَيْضًا أَنْ يَقُولُوا لَدَيْكَ مَا عَلَيْهِ. كُنْ مُعَافىً». )) .

انّ التعاليم السياسية التي نشرها بولص كانت بالضبط ما يحتاج اليه الرومان ، من جهة التهام الديانة المسيحية ، ومن جهة نشر فكرة الخنوع والخضوع للسلطان . وهذا واضح من رسالته لأهل افسس الإصحاح السادس (( 5 أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ 6 لاَ بِخِدْمَةِ الْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ، بَلْ كَعَبِيدِ الْمَسِيحِ، عَامِلِينَ مَشِيئَةَ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ، 7 خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ. 8 عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَيْرِ فَذلِكَ يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ، عَبْدًا كَانَ أَمْ حُرًّا. 9 وَأَنْتُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ، افْعَلُوا لَهُمْ هذِهِ الأُمُورَ، تَارِكِينَ التَّهْدِيدَ، عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا فِي السَّمَاوَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ. )) .

امّا النهاية التي وصل اليها ( بولص ) فكانت درامية متوقعة ، حيث اشتكاه الكاهن الأكبر – صاحبه القديم – للحاكم الروماني الجديد ( فستوس ) ، الذي سلَّمه للملك اليهودي ( هيرودس اغريباس الثاني ) ، الذي كان يكره المسيحيين ، والذي اعدم والده بعض زعمائهم ، وفي حين كان متوقعاً من ملك كهذا يجمع بين سببين لكره المسيحيين كيهودي وكممثل عن السلطة السياسية الرومانية أنْ يفعل الأعاجيب بداعية مسيحي مفترض كبولص ، إِلَّا انه ارسله الى القيصر في روما ، باعتباره مواطناً رومانيا ، ليعيش هناك ويشيد كنيسته ، التي فتح باب الشيطان لاحقاً على العالم .

وهناك بدأ بولص الخطوات العملية لما حكاه نظرياً في رسالته لأهل رومية من وجوب الخضوع للسلطان في الإصحاح الثالث عشر (( 1 لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِينِ الْفَائِقَةِ، لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ، وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ، 2 حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ، وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. 3 فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ، 4 لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ، لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا، إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ، مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. 5 لِذلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ، لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ. 6 فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هذَا تُوفُونَ الْجِزْيَةَ أَيْضًا، إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذلِكَ بِعَيْنِهِ. 7 فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِزْيَةُ. الْجِبَايَةَ لِمَنْ لَهُ الْجِبَايَةُ. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ. )) .

يقول ( هايم ماكبي ) : (( لقد انطلق بولص من زوبعة التأثيرات الدينية التي كانت تتزاحم في رأسه فخلق مزيجاً مشحوناً بالخيال ، مزيجاً معدّاً لانْ يكون بعد ذلك – شئنا ام لم نشأ – أساس الثقافة الغربية وجوهرها )) .

ليس من الصعب على الباحث معرفة انّ بولص لم يأتِ بعقيدة ( ابن الرَّبّ ) ، وأسطورة ( الأب – الابن – الروح القدس = إلهاً واحدا ) ، من خيالات نفسه ، بل هي عقيدة قديمة ، تواجدت في بلاد الفراعنة ، ومنها انطلقت ( الأقانيم ) المصرية الشهيرة . فبعد انتصار فراعنة الاسرة الثامنة عشرة الطيبيين على الهكسوس ، وانتشارهم في اسيا ، تمّ توحيد الإلهين الكبيرين ( رع ) و ( آمون ) في أقنوم واحد ، هو الاله ( آمون – رع ) ، الذي اصبح كبير الآلهة ، وتمّ تكريس معبدين في الكرنك والأقصر لأداء الطقوس لهذا الأقنوم الجديد . وهذه الثلاثية نجدها في أقنوم ( آتوم – شو – تفنوت ) ، الذي خرج من الاوقيانوس الأزلي ( نُون ) ، لكنّه كان ثلاثة في واحد ، اذا قبلنا بالرؤية الشائعة حول هذه الثلاثي بعيداً عن تفسيرنا لها في محلّها السابق من الكتاب .

امّا أشهر الأقانيم التي عنها أخذت المسيحية البولصية اقنومها فكان الناتج من عقيدة ( أوزوريس – إيزيس – حورس ) ، ( الأب – الام – الابن ) ، تلك الآلهة المصرية الكبرى ، والتي تحكمت في مجمل حركة العقيدة الفرعونية .

امّا قيام ( يسوع ) من بين الأموات فقد جاء به بولص من العقيدة الفرعونية التي تؤمن بقيام ( أوزوريس ) من بين الأموات . حيث ترى تلك العقيدة انّ ( أوزوريس ) قد قُتِل ، ومن ثمّ قام من بين الأموات ، وجعلت عيده السنوي يرتبط بهذه الحادثة . وقد جرت العادة في بعض الحضارات المتفرعة عن الفرعونية على قتل ملوكهم ، افتداءً للشعب والنعمة ، كما هو الحال في افتداء المسيح لشعبه في العقيدة البولصية . وفي بعض الحضارات السودانية – القريبة الى الفرعونية – كان الملك في حالة اعتلاله يرضى بالقتل فداءً لصحة شعبه . فيما ذكر ( مانيتون ) المؤرخ المصري انّ المصريين كانوا يضحّون برجل اصهب على قبر أوزوريس ، ثمّ يذرون رماده .

امّا الاحتفال الغريب بمولد المسيح – الذي يُفترض انه ولد في ١ فبراير – في يوم ٢٥ ديسمبر فليس سوى اعادة للاحتفال بالعيد الشمسي لمولد ( رع ) اله الفراعنة المصريين ، والذي كان يطلق عليه المصريون ( مسو – رع ) . لذلك ليس غريباً بعد ذلك أنْ نجد صور العذراء مريم مع طفلها يسوع نسخة عن صور ( إيزيس ) مع طفلها ( حورس ) .

من هنا كان التعبير القراني في وصف تلك العقائد المبتدعة بما عليه حال الامم الوثنية السابقة عليها دقيقاً وصائباً ، [ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ [الجزء: ١٠ | التوبة (٩) | الآية: ٣٠] . فيما يتسائل عن منطقية التوحيد الذي عليه مثل هؤلاء المبتدعين واتباعهم ، [ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الجزء: ١٠ | التوبة (٩) | الآية: ٣١] .

ولعلّ أشهر المشتركات الرمزية بين الديانتين الفرعونية والمسيحية البولصية هو ( الصليب ) ، او ( عنخ ) بالفرعونية . وهذا الرمز لم يكن مسموحاً الا للملوك او الملكات بحمله ، لانه يرمز الى الحياة ، ومن يحمله فقط له سلطة منح او سلب الحياة من البشر ذوي المراتب الدنيا ، لذلك كان حمله من قبل البابوات البولصيين دليل سلطنة . وكان الفراعنة يصنعونه من خزف القيشاني ، ومزيّن بصولجان له رأس كلب ، ليرمز للقوة ، تمّ تعديله ليلائم العقائد الإبراهيمية .

واستمراراً للسلوك الفرعوني في الزواج من المحارم قام ( هيراكليوس ) بالزواج من ابنة شقيقته ( مارتينا ) بعد وفاة زوجته الاولى ( اودوكيا ) عام ٦١٢ م ، امام نظر الكنيسة الرومانية .

الصراع بين الكنيستين التوحيدية والتثليثية

لقد انقسام الامبراطورية الرومانية الى دولتين ، روما وبيزنطة ( اسطنبول الحالية ) ، إعلاناً للانفصال الحضاري بين شعوب شرق أوربا ذات الامتداد التاريخي المدني ، وبين شعوب غرب أوربا ذات الامتداد القبلي البسيط . وبالتالي انقسمت كذلك الكنيسة المسيحية الرومانية الى شرقية وغربية ، مثلّت الشرقية الصبغة الفلسفية للحضارة المسيحية الجديدة ، وأخذت تقرأ عقائدها بروح الشرق المفعم بالمعطيات العقلية ، رغم ارتكاز العقائد البولصية فيها أيضاً بفعل السياسة الامبراطورية الرومانية السابقة ، فيما استطاعت الكنيسة الغربية التفاعل مع العقل الوثني لشعوب غرب أوربا ، التي لا تملك العمق اللازم لفلسفة لاهوتية .

ومن ذلك أنْ استطاعت الكنيسة الغربية ( روما ) نشر ثلاثية بولص الوثنية ( الأب – الابن – الروح القدس ) ، في نطاق فاعليتها المناطقية بسهولة ، فيما كانت الكنيسة الشرقية في مواجهة العقل الرافديني التوحيدي .

لقد اضطرت الكنيسة الشرقية ( بيزنطية ) الى الإقرار بناسوت المسيح ، واعتبرت انّ أمه لم تلد ( إلهاً ) ، بل ( إنساناً ) ، وبالتالي هي ليست ( أمّ الرَّبّ ) . هذا هو ملخص ما أنتجه زعيم الكنيسة الشرقية ( نسطور ) ، والذي كان له صدى مقبول في الأقاليم الشرقية التوحيدية الفلسفة .

لقد جاء نسطور من الحاضنة الفلسفية الرافدينية ، فقد كان راهب ( إنطاكية ) ، ومن ثمّ اصبح بطريرك ( القسطنطينية ) . لكنّ تعاليمه التي راقت للكنائس الشرقية لم تكن لتتماشى مع الوثنية البولصية الغربية .

امّا الكنيسة المصرية في الاسكندرية التي كانت تعاني فعلياً معضلة إرثها الوثني الفرعوني ، الذي يتماشى مع ما جاء به ( بولص ) من تأليه لعيسى ، حيث كان امتداداً للطبيعة المتناقضة التي تمتعت بها الآلهة ( أوزوريس – إيزيس – حورس ) ، وجوارها للمدرسة التوحيدية الشرقية في بلاد الرافدين – بما فيها سوريا – ، فقد حاولت الإبقاء على الوضع الوثني للمسيحية البولصية ، من خلال وقوف زعيمها ( كيرلس ) بوجه المدرسة النسطورية ، في ذات الوقت الذي حاولت الاعتراف بطبيعة ناسوتية للمسيح ، لتوائم بين الجهتين ، فقالت انّ للمسيح لاهوتاً وناسوتاً ، لكنّهما امتزجا كامتزاج النار والحديد ، مستغلّة الجهل العلمي في تلك الفترة ، لأنّ النار والحديد لا يمتزجان حسب قوانين العلم المعاصر .

وفقاً لتأثير ( كيرلس ) تمت ادانة ( نسطور ) في مجمع ( افسس ) في عام ٤٣١ م وتحريم تعاليمه . لكنّ ذلك لم يكن كافياً لاقناع العقل الشرقي الفلسفي التوّاق للتوحيد بالعدول عن معتقداته ، التي كانت اقرب للعقلانية الرافدينية ، التي ترى في عيسى نبيًّا من الأنبياء ، لا إلهاً متجسّدا .

وهذه الرؤية النسطورية لم تكن بدعة ، كما صوّرتها الكنيسة الرسمية ، بل هي صدى لما عليه تلامذة المسيح الأوائل ، الذين تكشف مواجهتهم المتكررة لبولص اختلافهم عن جلّ ما جاء به ، كما هو المذهب الذي عليه ( الابيونيون ) ، وهم عامة المسيحيين الأوائل . كذلك كان ذلك ما يراه ( آريوس ) المولود عام ٢٥٦ م ، حيث قال ( انّ الله واحد غير مولود ولا احد يشاركه في ذاته ) ، وانّ المسيح ليس إِلَّا مخلوقا ، ليس له مرتبة الآلهة ، وقد انتشرت تلك التعاليم الأريوسية في مختلف اصقاع الأمة المسيحية ، مما اضطر الكنيسة الرسمية ( الوثنية ) لعقد مجمع ( نيقية ) وادانة ( آريوس ) عام ٣٢٥ م .

لقد خلقت فلسفة نسطور موجة من المواجهات الفكرية مع ( الوثنية البولصية ) في روما والإسكندرية ، وقام ( اوطاخي ) بإنتاج فلسفة مضادة تماماً لما قاله نسطور ، حيث اعتبر انّ الطبيعة الحقيقية للمسيح هي ( اللاهوت ) ، وانّ ( الناسوت ) ليس إِلَّا خيالات سريعة في مرور المسيح نحو التجسد . لكنّ مدرسة ( اوطاخي ) تمت ادانتها في مجمع ( خلقدونية ) الذي عقدته الامبراطورية الرومانية الغربية عام ٤٥١ م .

رغم أني افهم الاشتراك بين الكنيسة الرومانية ( الكاثوليكية ) والكنيسة المصرية ( القبطية ) والمتجسد في اعتقادهما معاً انّ للمسيح ناسوتاً ولاهوتاً في ذات الوقت ، إِلَّا أني لست افهم بالدقة سبب افتراقهما منذ مجمع ( خلقدونية ) . لكن ما أراه انّ اختلافهما في صورة ( الأقنوم المسيحي ) ، هل هو منفصل في ناسوته عن لاهوته ؟ ، فكلاهما يراه – كما أوزوريس وإيزيس وحورس – إلهاً متجسدا . لكنّ الغموض الشكلي والفلسفي لهذا الأقنوم الوثني الموروث عن الديانة الفرعونية الرومانية المشتركة لازال غامضاً غير مفهوم ، ولم يستطع الإجابة عن اشكالية الولادة البشرية وتناول الطعام المادي وغيرها من المظاهر لهذا الأقنوم الاله المفترض .

وفيما كانت القبائل والممالك العربية والنبطية في العراق نسطورية المذهب ، لم يكن الاعتقاد الذي عليه عرب الغساسنة في الشام واضحاً . حيث تنقل بعض المصادر انّ ملكهم ( الحارث ) كان من أنصار الطبيعة الواحدة ، وكذللك ابنه ( المنذر ) وحفيده ( النعمان ) ، إِلَّا انّ علاقتهم بالرومان البيزنطيين لم تكن واضحة المعالم ، من اكرام ( ثيودورا ) لهم ، ومقاطعة ( يوستينوس ) ، وتذبذب ( تيباريوس ) ، وصلافة ( موريسيوس ) ، حيث اختلف كلّ هؤلاء الاباطرة في مستوى علاقتهم بالشرق المسيحي الموالي لروما ، الذي يبدو انّ قادته كانوا من اليعاقبة ( كنيسة الاسكندرية ) . وفي الوقت الذي أعاد فيه ( موريسيوس ) العلاقة مع ( النعمان ) لأسباب عسكرية واستراتيجية ، دعاه لاعتناق العقيدة الرومانية ، التي ترى انّ للمسيح طبيعتين ، إِلَّا انّ ( النعمان ) اخبره برفض قبائل ( طَي ) لهذه العقيدة ، الى الدرجة التي سيذبحونه لو حاول ثنيهم عنها . ولعلّ هذا الاختلاف المذهبي – حول عقيدة التوحيد والنظرة المختلفة لتأليه عيسى – هما ما يفسران الموقفين المتناقضين لمملكتي أبناء العمّ المسيحيتين ( المناذرة ) و ( الغساسنة ) تجاه الانتشار الاسلامي . حيث قام المسيحيون الذين كانوا يتبعون مملكة المناذرة – ومركزها الحيرة في العراق – بمقاتلة الفرس المحتلين ، قبل دخول الجيش الاسلامي حدود العراق ، فانتصروا عليهم في المعركة الشهيرة ( ذي قار ) ، وكذلك دخل ابرز قادتهم في الاسلام قبل وصول الحشود الحجازية ، حيث رفعوا اسم النبي ( محمد ) شعاراً لهم في تلك المعركة . بينما كان موقف الغساسنة مضاداً للتقدم الاسلامي ، وشارك الكثير منهم ضمن جيوش الروم لصدّ ذلك التقدم . وهذا الاختلاف في طبيعة التدين الفلسفي الفطري الذي تمتعت به مملكة الحيرة عن التدين السياسي الذي تمتعت به مملكة الشام هو ما يكشف أيضاً سرّ انفراد العراقيين في نشر المسيحية النصرانية شرقاً وجنوبا . من هنا كان ( ثيوفيلاكت سموكاتا ) يرى عدم إمكانية الاعتماد على العرب ، لأنهم برأيه ( متقلّبون وعقولهم غير ثابتة وأحكامهم لا تقوم على أساس صحيح من التعقّل ) ، فهو ربما كان يعكس خيبة أمل روما وبيزنطية في جذبهم الى حظيرة الوثنية المعقدة .

لكنّ هذه النزاعات المذهبية – الناتجة عن الوثنية البولصية – جعلت أبناء الحضارة الهيلينية الواحدة من رومان ومصريين في صراع ، أدّى في النهاية الى فرض ( المقوقس ) حاكماً باسم الإمبراطور ( الخلقيدوني ) على مصر ، وفي ذات الوقت مرجعاً للمسيحية دينياً ، مما جعل كبير رجال الدين الأقباط في مصر ( بنيامين ) يهرب ويختفي ، بانتظار أنْ يُهْلِك الرَّبّ جماعة الخلقدونيين في بلاده ، بعدما سيطروا على الكنائس ، واستخدموا العنف والاكراه في فرض الدين الإمبراطوري على الأقباط ، رغم اشتراكهم في تأليه المسيح .

لقد كانت ( النصرانية ) هي الدين الذي عُرف به المسيحيون الأوائل الموحدون ، اما ( المسيحية ) فهو الاصطلاح الذي غلب بعد الحركة البولصية ، حتى صار عامًّا للجميع منهم . لكنّ العرب ظلّوا يفصلون بين الدينين ، فاختصّت النصرانية على الكنائس الشرقية . وقد كانت النصرانية انتشرت فعلياً – كدين وفكر وفلسفة – على يد الكلدان والاشوريين ، ومنهم اسرى بني اسرائيل ، الذين كانوا جميعا شعلة نورانية اوصلت النور الى حدود الصين بالكلمة ، لا السيف كما في أوربا والمسيحية الغربية . وقد كان للنسطوريين الكلدان الدور الأكبر في الحركة الفكرية للنصرانية . فقد قام النساطرة بنشر هذا الدين في الجزيرة العربية وفارس وآسيا الوسطى والأناضول والهند . وعند سقوط المدائن والحيرة بيد الجيش الاسلامي هرب بعض النساطرة ، ووصلوا الى الصين ، وهناك رحّب بهم الإمبراطور ، فأقاموا مراكزهم العلمية ، وساهموا في نشر النصرانية في الكثير من أقاليم الصين . ورغم الاضطهاد الذي تعرّضوا له من قبل ( تيمورلينك ) فقد استمرّ النساطرة في مهمتهم الدعوية للتوحيد في جنوب الهند . ورغم ذلك كله كان هؤلاء النسطوريون عرضة لقمع الكنيسة الرسمية الرومانية بفرعيها .

كانت النصرانية في البلاد الرافدينية ، والتي تعتنقها شعوبها العربية والنبطية والآشورية والفينيقية ، ملزمة بالاستعداد لحماية دينها التوحيدي امام المدّ المسيحي البولصي التأليهي ، ليس بالفكر هذه المرّة ، بل بقوة السلاح ايضا ، لذلك بدأت في التقوقع لحماية عقيدتها ، من المطرقة الزرادشتية في الشرق ، والسندان البولصي في الغرب .

وربما تكون كلمة ( الحارث بن كعب ) احد رجال الدين في قبيلة ( بلحارث ) النجرانية التي يوصي بها ابنائه ، شاهداً على مدى خطورة ما تعرّضت له النصرانية التوحيدية حينئذ ، حيث قال فيها (( يا بني قد أتت عليّ مائة وستون سنة ، ولا بقى على دين عيسى بن مريم من العرب غيري ، وغير تميم بن مرّ بن أسد ، فموتوا على شريعتي ، واحفظوا عليّ وصاتي ، وإلهكم فاتقوا ، يكفكم ما اهمكم ويصلح لكم حالكم واياكم ومعصيته )) . ورغم انّ هذه الكلمة قد اصطبغت بالمبالغة في تقدير انحسار النصرانية بين شخصين ، وذلك ما يخالف الحقيقة التاريخية ، إِلَّا انها توحي بخطورة ما تعرّضت له من طوق سياسي وغزو ثقافي .

وَمِمَّا يُنسب لكعب هذا الأبيات :

وصرتُ الى عيسى بن مريم هاديا رشيداً فسمّاني المسيح حواريا

بني اتقوا الله الذي هو رَبُّكُم براكم له فيما برى وبرانيا

لنعبده سبحانه دون غيره ونستدفع البلوى به والدواهيا

ونؤمن بالإنجيل والصحف بها نهتدي من كان للوحي تاليا

وفي الحيرة برزت جماعة ( العبّاد ) ، الذين كانوا يأتلفون عقائدياً وسلوكياً من مختلف القبائل العربية وباقي التجمعات الديمغرافية العراقية ، في مؤازرة للحنيفية الموحدة في الجزيرة العربية . وفي كثير من البلدان داخل بلاد ما بين النهرين كان بإمكان الناس عرض عقائدها المسيحية الموحدة ، إِلَّا انّ ذلك كان ممتنعاً في الأقاليم الخاضعة للسلطة او النفوذ الروماني ، الذين يجوب قساوستهم مختلف الاصقاع مبشرين باسم ( الرَّبّ يسوع ) ، تحت ارهاب السيف الإمبراطوري ، وترغيب المال التجاري ، لذلك انزوى معظم الموحدين النصارى كعبّاد زاهدين متكتمين ، يعرضون دينهم لمن يستحق وحسب .

انّ الفكرة التي استند اليها النساطرة – حسب فهمي – في تناولهم لطبيعة السيد المسيح هي ذات الفكرة التي يعتمدها ( الشيعة الإمامية ) حول طبيعة الأئمة من أهل البيت ، حيث يَرَوْن انهم في تجسّدهم كانوا بشراً كما كان غيرهم ، لكنّهم خارج الجسد مصدراً للفيض الالهي ، بنحو الواسطة . وبذلك فعيسى والأئمة مخلوقون لله ، لكنّهم في منزلة اعلى وأعظم من أنْ تكون لبشر غيرهم ، وذلك ما يشبه قولنا بنحو ما عن وظيفة الملائكة .

وهذا هو ما جعل ( بابل ) ومحيطها حاضنة مستقبلية للعقيدة الاسلامية الشيعية الإمامية ، حيث دخلت قبائل ( شيبان ) و ( عجل ) و ( الازد ) ومجمل مملكة المناذرة في الاسلام قبل وصول الجيش العربي الى العراق . كما صار الكثير من مسيحيي الامس دعاة العلوية الاسلامية ، كعائلة ( ال اعين ) .

انّ بابل والمنطقة العربية لم تكن في عقائدها تخضع للأثر السياسي الراهن ، بل كانت تستند الى ارتكاز فلسفي عميق ، ناشئ عن الفيض المعرفي الإبراهيمي ، وهذا ما ميّزها عن الشعوب الوثنية في أوربا ، التي استقبلت البدعة البولصية ، لذلك لم تعتنق الشعوب الشرقية هذه الديانة الفارسية ، رغم عمق التأثير السياسي للفرس في المنطقة .

يكتب ( يوحنا ) عن الخلقيدونيين في مصر إبّان الفتوحات العربية ما نصّه ( أعداءُ المسيح برَجَس بدعِهم ، وقد فتنوا الناس عن إيمانهم فتنة شديدة ، لم يأتِ بمثلها عبدة الأوثان ولا الهمج ، وعصوا المسيح واذلّوا اتباعه . فلم يكن من الناس من أتى بمثل سيئاتهم ولو كانوا من عبدة الأوثان ) . فيما يروي المؤرخون الخلقيدونيون الرومان كيف انّ ( اليعاقبة ) الأقباط كانوا سبباً في انكسار جيش الامبراطورية الرومانية ! .

امّا الابيونيون الذين تصفهم بعض المؤلفات باليهود الجدد فقد كانوا خلاصة الاعتقاد المسيحي التوحيدي ، حيث رفضوا بدعة بولص الوثنية ، فالتزموا النهج الذي كان عليه ( يعقوب ) و ( بطرس ) وتلامذة المسيح الأوائل . وقد أخفت الكنيسة الرسمية كتاباتهم باعتبارها ( إساءة ) لمقام ( بولص الرسول ) ! .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here