الهوية الفئوية والثوابت والتطور

صالح الطائي

مع الإيمان المطلق انه لا يوجد مطلق في علم من العلوم، إلا أن العلوم النفسية والسلوكية والاجتماعية والفلسفية تجمع كلها وبإطلاق لا محدود انه لا يمكن إنكار الآثار المباشرة والجانبية للتطور الحضاري على السلوك العام للأفراد والجماعات، وانه يستحيل التغاضي عن اثر التيار الثقافي السائد في السلوك الجمعي للشعوب. وان انجح المجتمعات وأكثرها عقلانية وإنسانية هي التي تأخذ بمعطيات التطور الحضاري، ولكنها تحافظ في ذات الوقت على ثوابتها السامية من أن تتضرر جراء التطور.
إن نجاح الموائمة بين الثوابت والتطور ـ بحد ذاته ـ يدل على حتمية ترك التطور لآثاره التي قد تكون في بعض جوانبها مدمرة للسلوك العام ولمواريث المجتمع كلها. لكنه يدل بذات الوقت على صحة وأصالة الثوابت التي تنجح في الصمود أمام التغيير، وتنجح في ذات الوقت بمسايرة التطور والتواؤم مع جميل ما فيه، والإفادة من جوانبه الخيرة.
أما من يرفض الاحتكاك بالتطور خوفا على ثوابته من التضرر، فهو بذلك يدلل واقعا على عدم أصالتها، وعليه إعادة النظر فيها كلها أو في جزئها الذي يرفض الإفادة من منظومة التطور الحضاري الإنساني لأن عجلة التطور ستستمر في الدوران، وقوتها ستستمر في النمو بإفراط، وهذا يمنحها قدرة التأثير على الكثير من المفاهيم، وتغيير الكثير من القناعات، وتبديل الكثير من الثوابت، وجعلها متحركات، وربما بلا أهمية تذكر.
وتحضرني هنا واقعة من تاريخنا الحديث، هي قيام الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن في أواسط القرن العشرين، بما عرف في حينه بمحاولة حماية البلاد من شرور الحضارة الحديثة. حيث اصدر أوامره بمنع دخول الاختراعات الجديدة باعتبارها ضارة وغير نافعة، وتسبب مفسدة للأخلاق(1)، ولكنه مع كل الجهود التي بذلها لم ينجح إلا بتحقيق نسب أخرى من التخلف والتأخر لبلاده. أما واقعا فقد لوت نواميس التطور ذراع بلاده وأجبرتها على فتح أبوابها، ولم تصمد ثوابته التي اعتمدها في نزاله مع التجديد مع أنها عرقلت مسيرته، وكانت المفاجأة في أن إرث اليمنيين وعاداتهم وسلوكياتهم واغلب مواريثهم الفكرية والعقائدية نجحت نسبيا في الثبات أمام هذه التغيرات ولم يلحقها الضرر الذي كان إمامهم يتخوف منه، في الأقل أنهم لا زالوا لحد الآن وبالرغم من الحرب الغادرة ضدهم، يخّزنون القات، ويعتمرون الخنجر المعقوف، ويلبس أغلبهم الزي القديم نفسه، ويؤمنون بالعشائرية لدرجة أن ولاءهم للعشيرة أكبر منه للبلاد نفسها أو للحكومة ذاتها .
هذا وقد تعلمنا من سلسلة التجريب التاريخي التي عاشتها الأمم أن الثوابت كلما كانت قابلة للإشهار والإعلان بلا عائق من خوف أو خجل، كلما دل ذلك على صحتها وإنسانيتها ومواءمتها لسنن التطور. أما تلك الثوابت المغلفة بالطلاسم السحرية والأسرار الخفية المبالغ فيها إلى الحد الأقصى، فهي تملك حتما قدرا كبيرا من الوجوه القبيحة التي تمنع حامليها من إظهارها، وهي بهذا تعلن عن عجزها عن التوافق مع الثقافة الكونية السائدة، بما يؤشر عظيم حاجتها إلى الامتحان والجرح والتعديل، ولآليات فهم ثقافي جديد لمجموعة نظمها المتوارثة، ومن ثم المجاهدة لتصحيح ما يحتاج إلى التصحيح منها، لا بالاجتهاد الكيفي العبثي أمام النص المقدس، إذ لا اجتهاد أمام النصوص، ولكن عن طريق رفع القدسية والحصانة عن الكثير من النصوص الموروثة التي يشك في أصالتها وصحتها ولكنها تحتل مكانا في منظومة المقدس!.
مع إيماننا المطلق أن هذا النهج الانتقائي التفاضلي غير المألوف لن يكون بالسهولة التي يتصورها البعض، لأن من طبيعة الإنسان انه عندما ينشأ منذ طفولته على معتقدات وقيم معينه في بيئته المحلية، يتصور أنها أفضل المعتقدات والقيم في العالم، وهو لذلك يسخط على أية دعوة جديدة تدعو إلى مخالفتها، أو إصلاحها(2)، بل هو بسبب علمه بهشاشتها وعدم قدرتها على الصمود في المواجهة، يرفض التجديد والتغيير والتطوير بصرامة شديدة. وهو السلوك الذي أطلق عليه عالم الاجتماع “روكيش” مفهوم (الصرامة العقلية)، وقال في تعريفه: “إنه عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك ،وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة، وذلك بهدف حل هذه المشكلة بفاعلية اكبر(3).
وربما لهذا السبب أعتقد “ديكونشي” أن هشاشة العقائد الدينية تعوض عن ضعفها بالصرامة والضبط النفسي، أو كما قال: “إنه بسبب أن العقائد الدينية تنحرف عن معايير العقل القائمة على الفرضية والاستنباط والتجريب، فإنها تعوض عن هشاشتها العقلانية هذه عن طريق صرامة الضبط النفسي والاجتماعي الذي يتحكم بهذه العقائد(4)
وعلل الفيلسوف محمد أركون اتخاذ المريدين لمفهوم الصرامة العقلية سلاحا يشهرونه بوجه من يدعو إلى تصفح الثوابت والبحث في خصوصياتها بانكفاء فكري فرضته الظروف الإكراهية القسرية على المجتمع المتحجر على الإيمان بصحة الجمود، والتحجر على مواريث الثوابت، ولذلك قال: “إن المنظومة الفكرية الإسلامية (الابستمي) كانت في المرحلة الأولى حرة قريبة من منابتها، وكانت تسمح بحرية في التفكير والممارسة والخلق والإبداع. ثم أصبحت في المرحلة اللاحقة متخشية إكراهية وقسرية، وتوصلت في بعض الأحيان إلى شل حركة الفكر العربي والفكر الإسلامي بشكل تام، وهذا ما يزال سائدا حتى اليوم في بيئات كثيرة(5).

إن الذين يرفضون مبدأ الانتقاء بالرغم من قسوتهم مع المجتمع ومع من يخالفهم عقديا، هم واقعا مجموعة مضللة، تحتاج إلى عطف المجتمع وتسامحه لكي تنجح في الاندماج مع الأغلبية، على أن لا تعني المسامحة التنازل عن الحقوق العامة ولاسيما موضوع الدماء وتدمير البنى التحتية.
إن جمود بعض الفرق الدينية ولاسيما ذات النهج الطائفي المتشدد منها على عقائد تعتقد أنها الأصح من بين جميع العقائد الأخرى، جعلها متخوفة قاسية متخشية عنيفة. كما أن انعزالها عن المجتمع، وتحديد اختلاطها به إلى أدنى المستويات، وضع حواجز سميكة بينها وبين المجتمع، ولذا بدت وكأنها مجاميع جاءت من عالم مجهول، ولذا يتطلب مشروع دمجها بالمجتمع جهدا مضاعفا، قد تكون أحد اهم ركائزه إقناعهم أن نظريتهم الدينية تحتاج إلى المراجعة لأنه من الطبيعي أن أعظم النظريات العلمية لابد أن تحتاج إلى المراجعة والتنقيح المستمرين على الرغم من أنها قد تبدو متكاملة، فلماذا لا تحتاج معتقداتهم الموروثة إلى المراجعة والتنقيح وما هي سوى مجموعة قواعد استنبطها المؤسسون الأوائل للمذاهب من النصوص الأصلية قبل أكثر من اثنتي عشر قرنا، وتداولها الناس إلى يومنا الحاضر، في وقت لا يُؤمَنْ تعرضها إلى التحريف والتشويه والبتر والإضافة عبر التاريخ التداولي الطويل، سواء عن قصد أو بدونه. ثم جاءوا من بعدهم واخذوا بها على علاتها، فصارت قيمتها من قيمة (المقدس) الذي أضفوا عليه قدسية لا يجوز العبث بها أو التحقق من صحتها، حتى ولو كان ما فيها مخالفا لسنن الطبيعة ونهج التطور، والأصل الأول، وروح الدين! بل حتى لو كانوا على يقين من ذلك، مما قد يترتب عليه من استنتاجات غير محسوبة العواقب. وعليه تراهم يرفضون الاعتراف بيقين ما يعرفونه بسبب كبرياء فارغة قد تقودهم مستقبلا إلى الإفلاس الفكري في قرننا الحالي القائم على الثراء الفكري بحجة الحفاظ على هويتهم الفئوية.

الهوامش
(1) الوردي، الدكتور علي ؛ حوارات في الطبيعة البشرية، مؤسسة المحبين، قم، ط2، 2005 ، ص73
(2) ينظر: المصدر نفسه، الوردي، ص74
(3) ينظر: مقدمة هاشم صالح لكتاب الفكر الإسلامي قراءة علمية، محمد اركون، ص5
(4) ينظر: المصدر نفسه، ص7
(5) ينظر: المصدر نفسه

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here