التعليم العالي ونعمة النسيان

من الشعارات ( الجميلة ) التي تبنتها وزارة التعليم العالي خلال السنوات الأخيرة هي الحفاظ هي تحقيق الرصانة العلمية بتطبيق معايير الجودة المعتمدة عالميا وتحسين مدخلات وعمليات ومخرجات التعليم العالي ومنافسة الجامعات الرصينة من خلال الدخول في التصنيفات الدولية للجامعات ، كما تعهدت الوزارة بتوفير فرص الدراسة الجامعية لخريجي الدراسة الإعدادية والثانوية بتوسعة القبول في الدراسات الأولية من خلال الاستحداث وفتح الدراسات المسائية في الجامعات الحكومية وترك هامشا كبيرا للكليات والجامعات الأهلية لاستيعاب نسب محددة لخريجي الإعدادية سنويا ، كما تشددت الوزارة في موضوع إعطاء الفرص للمرقنة قيودهم وإلغاء نظام التحميل والقيام بالامتحانات الوزارية لطلبة الصفوف المنتهية وفصل الطلبة بمجرد تجاوز غياب الطلبة للنسب المقررة ، والإيعاز للجامعات بالتشدد العلمي والاسترشاد بتعليمات الوزارة حصرا للنظر بحالات الطلبة الحرجة ، ورغم إن البعض اعتبر ذلك إخلالا بمبدأ استقلالية الجامعات الذي دعت لتطبيقه الوزارة باعتبار إن الجامعات كيانات مستقلة تتطلب طبيعة عملها التمتع بالقدر الكافي من الصلاحيات العلمية والتربوية والإدارية والمالية ، إلا إن بعض دوائر الوزارة اعتبرت الالتزام بتعليمات الوزارة بهذا الخصوص هو صمام الأمان لضمان عدم حصول مزيدا من التدهور في الجامعات ولإعادة الهيبة للتعليم العالي العراقي الذي حقق طفرات نوعية في المستويات العربية والإقليمية والدولية وقد وقف الكثير مع هذا التوجه لأهدافه الايجابية الوطنية التي تتناسب مع ارث وحضارة العراق .
وإذا استطاعت الوزارة إحداث بعض التطور الذي يشل جزءا بسيطا من الطموح ، نظرا للظروف المالية والأمنية التي مر بها بلدنا العزيز فإنها لم تحقق أهدافا مهمة بسبب ضعف الإمكانيات وتغير تسلسل الاهميات لدى القيادة السياسية التي وضعت تحرير المدن في أول الاهتمامات ، دون آن ننسى أن هناك جامعات وكليات ومعاهد أصبحت تدار من قبل داعش وعلى طريقته الإرهابية بعد سقوط المناطق الجغرافية (التي تتواجد فيها ) تحت سيطرته شبه الكاملة ، وقدت تركت سنوات الاحتلال العديد من الآثار المادية وغير المادية التي تحتاج إلى إرادة وعمل وزمن لإعادتها إلى وضعها السابق آخذين في الحسبان إن نسبة التخصيصات المالية لمجموع الاتفاقين التشغيلي والاستثماري إلى مجموع تخصيصات الموازنة الاتحادية هي منخفضة منذ سنين وعقود عند مقارنتها بأي دولة مجاورة أو غير مجاورة ، وينطبق الحال نفسه على ما يخصص للبحث العلمي ودمج وزارة العلوم والتكنولوجيا بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي في التوقيت غير المناسب ، ولعل من اكبر حالات الخلل التي عانت منها وزارة التعلم العالي هو ضعف العلاقة بين خطط القبول والأهداف التنموية ، فالأهداف التنموية غير واضحة المعالم إلا في الوثائق الورقية والشكلية ولهذا أصبح الطالب يتخرج من قنوات التعليم العالي ولا يجد فرصة العمل لا في القطاع الحكومي ولا القطاعات الأخرى كالخاص في وقت غابت أو هربت فيه الاستثمارات الأجنبية والوطنية عن العراق ، وبسبب الفارق الكبير بين عدد الخريجين وعدد فرص العمل المتاحة بدا بعض الشباب يبحثون عن الهجرة لخارج العراق أو ولوج مهن وأعمال خارج تخصصاتهم والعيش في حالة من الإحباط وبشكل أدى لزيادة الإمراض والظواهر الاجتماعية التي لا تناسب تاريخ وعادات مجتمعنا .
وبسبب حاجة الدولة لسد النقص ببعض الوظائف والمهن ، فقد أبقتها على حالة التعيين المركزي ومنها المهن الطبية والصحية وهندسة النفط مما جعل إقبال الشباب عليها ( من المحتاجين للتعيين ) إقبالا شديدا ، ووفقا لنظريات العرض والطلب فان طلبة المجموعات الطبية باتوا بحاجة إلى معدل 97% لضمان القبول فيها حتى وان كان ذلك خارج محافظاتهم ، كما ارتفعت معدلات القبول في هندسة النفط إلى 96% ومعدلات القبول في المعاهد والكليات الصحية إلى 95% والأخيرة كانت تقبل معدلات الستينات قبل شحة التعيينات الحكومية ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد أصبحت العوائل ترسل أبنائهم إلى الخارج ( أوكرانيا ، ماليزيا ، الهند ، تركيا ) وهم اقل من بلدنا علميا للدراسة في تخصصات تحظى بالتعيين المركزي في الداخل حتى وان كانت لا تمتلك الإمكانيات المادية ، فهناك من اقترض أو من باع بيته أو مقتنياته للدراسة في فروع فيها تعيينات واعتبروا القضية مثل الاستثمار فهم ينفقون اليوم ليجنون بعد سنوات وبغض النظر عن الرغبة والطموح فالهدف هو الحصول على فرصة عمل ، وقد أسهمت الجامعات الحكومية لوزارة التعليم في تشجيع هذا التوجه بدلا من الحد منه لوقف إخطاره وتداعياته المستقبلية عندما يكون هناك من يعمل خارج رغبته للحصول على الرواتب والمردودات وقد يحول عمله إلى مشروع ربحي ونقصد هنا :
. استحداث بما يسمى التعليم الموازي والذي في حقيقته عبارة عن التعليم على النفقة الخاصة للطالب داخل الجامعات الحكومية ، حيث سمح للطلبة الذين لهم معدلات تقل بدرجتين أو اقل ( وربما أجزاء الدرجة ) بالقبول في التعليم ( الموازي ) لقاء دفع أجور الدراسة التي تصل لأكثر من 10 ملايين دينار سنويا وحسب التخصصات ، والوزارة تعلل ذلك بأنها توفر الفرصة للطالب في الدراسة بالداخل بدلا من سفره للخارج وتغربه وانفاقه العملات الصعبة .
. قيام بعض المعاهد والكليات بفتح فروع لدراسة الدبلوم التقني ( سنتين ) بعد الإعدادية في الدراسات المسائية وبأجور تصل إلى 3 ملايين دينار سنويا وهي فروع قد تخضع للتعيين المركزي حسب حاجة المؤسسات الصحية ووجود الاعتماد والدرجات الوظيفية ، والمشكلة في التقديم والقبول لهذا النوع من الدراسة بان المعهد أو الكلية تطالب بشهادة التخرج من الدراسة الإعدادية والتنافس بالمعدل أي إنها لا تسأل الطالب عن سنة التخرج (لأنها الدراسة مسائية ) كما إنها لا تسأله عن الشهادات الأخرى التي حصل عليها بعد إكمال الإعدادية ، لذا لا تستغربون إن عرفتم إن من بين الدارسين الذين تم قبولهم وتخرجوا هم من حملة الدكتوراه والماجستير ومن بين العشرة الأوائل من حملة البكالوريوس أو من غيرهم من التسلسلات ، فقد طووا الدراسة والشهادات التي حصلوا عليها وما أنفقته عليهم الدولة من مبالغ طائلة لكي يعودوا من جديد للمعاهد للحصول على شهادات أدنى تؤهلهم للتعيين ، ولا تستغربوا إذا عرفتم إن هناك عدد معين من الدارسين في الخارج بشهادات عليا أصبحوا ضمن المعاهد بنوايا التعيين ، ورغم إن ما تم عرضه لا يشكل جريمة أو مخالفة بموجب القوانين والتعليمات الصادرة من التعليم العالي أو غيرها ، ورغم إن مساعي الطلبة ايجابية لأنهم يتنازلون عن شهاداتهم ويدفعون نفقات الدراسة لكي يعملون بشرف وبالحلال ، إلا انه يشكل خللا في أنظمة عديدة لا بد من دراستها وتحليلها لإيجاد معالجات لها ، فهو إن التعليم العالي مسؤولة عن تعليم الطالب حتى التعيين كونه تكرار للفرص وإضاعة الأموال وهدر بالإمكانيات المتاحة وتصدع في جدران الرصانة العلمية التي تسعى لبلوغها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي ربما غضت النظر عن هذا الموضوع أو دخل في طي النسيان من باب التفاعل الإنساني .
باسل عباس خضير

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here