انبثاق الحكومة العراقية الجديدة

بين صراع المناهج وصراع المصالح وصراع الأيديولوجيات

محمد أبو النواعير*

يمر العراق في هذه المرحلة بفترة حرجة جدا, تحيط بمنظومة عمله
السياسي (شخوصا وأحزابا ومناهجا وأيديولوجيات)؛ حيث فرضت سنن التطور
السياسي والاجتماعي نفسها على حراكه التاريخي والسياسي والمجتمعي.

لم تعد الأيديولوجية المسيطرة على الوعي السياسي العراقي اليوم, سهلة
من حيث القدرة على التحكم بأدواتها أو مسك خيوطها, فبعد أكثر من 15 عاما
جاءت مثقلة بالكثير من الأحداث, منفتحة على الكثير من الأفكار والثقافات
والسياسات, محاطة بالكثير من الأحداث والمصائب والإرهاصات, ساعدت على
تشكيل نمط جديد من التعاطي السياسي بين أطراف العملية السياسية في هذا
البلد, وهنا أقصد بالأطراف هي : الشعب, الأحزاب, الأطراف الإقليمية
والدولية, التي تحاول جاهدة أن تتدخل, من أجل تغيير أو حرف مسارات معينة
في العملية السياسية لهذا البلد, مرة لتثبيت وضع, ومرة لتغييره.

بعد الانتخابات الأخيرة, والتي جرت وسط جو معقد من التشابك الفكري
والقيمي والسياسي, بين مجموعات رافضة لها (ممارسة ونتاجا), وأخرى مؤيدة
لها (مشاركة ونتائجا), ظهرت معادلة جديدة تحمل في طياتها تشابك عقدي غريب
من نوعه هذه المرة, فغالبا ما كنا نرى أن الأحزاب التي تشترك في العملية
السياسية تقوم سياستها على مبادئ معينة تنطلق منها :

الشيعية تنطلق من مبدأ تأييد ومناصرة المشروع الشيعي, وهو مشروع كان
عادة مدعوم من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران, ومرفوضا من قبل دول
الإقليم العربي السني, ويملك موقفا محايدا صادر من الولايات المتحدة في
تلك الفترة؛ وفي هذا النمط, كانت النداءات التي تدعو إلى تغليب الروح
الوطنية قليلة, أو ذات صوت ضعيف (بسبب استعار نار الفتنة الطائفية),
تجسدت في دعوات المرجعية الكريمة مرة, وأصوات بعض السياسيين ممن تميزوا
بالاعتدال والوسطية والابتعاد عن لغة التأجيج الطائفي.

الجانب السني كان يتميز مشروعه بأهمية إزاحة الشيعة من الحكم, ومحاولة
إعادة العملية السياسية إلى جادتها والتي لها من العمر 1400 عاما ! فكانت
مواقفهم أغلبها تأتي في نسق هذا التوجه, مدعومة بقوة من قبل دول الجوار
السني, وبعض المحاور الدولية التي كانت مؤيدة لها, مع عدم وجود ملامح لأي
خطاب أو دعوة لتأسيس بناء وطني.

الجانب الكردي, بنيت منظومته الأيديولوجية السياسية على مبدأ فرض
الاغتراب عن الحالة العراقية, بكل تفاصيلها ومشاكلها وإرهاصاتها, مع
ثباتهم على أي مبدأ يحاول أن يفصلهم عن الحالة الوطنية لهذا البلد, ويحقق
لهم انفصال يُمَكّن الأحزاب المتنفذة لديهم من الاستحواذ على كل مقدرات
شمال العراق وأكراده .

الانتخابات الأخيرة, أنتجت تغير مفصلي, حيث حدثت شروخ قوية وعميقة في
مفاصل أيديولوجيا كل طرف وتوجهاته, فلم يعد السنة هم الجانب الذي يخيف
بعض أطراف الشيعة, بل بات التحالف مع قياداتهم (والتي منها من كان يظهر
مساندة علنية لعصابات داعش الإرهابية), ولم يعد الشيعة أولئك الغزاة
الذين سلبوا السنة حكمهم, بل بات التحالف مع قيادات شيعية راديكالية في
طائفيتها (كالمالكي), أمرا سهلا ومقبولا لدى الكثير من الأطراف والقيادات
السنية, بل بات نفس الملف السني في العراق, يعاني تشققات بينية واضحة بين
مدرسة الوهابية (السعودية الإماراتية ), وامتداداتها السياسية في العراق,
ومدرسة الأخوان المسلمين (تركيا وقطر) وامتداداتها السياسية في العراق.

نمط الصراع تغيرت أدواته, مع بقاء نفس أطرافه, الحراك الصراعي الآن
انتقل من جبهة فرض الواقع السياسي بأدوات عسكرية, إلى جبهة فرض الواقع
السياسي بأدواته الاقتصادية, وهي لها من الخطورة بمقدار مشابه لخطورة
جبهة الحراك العسكري والقتل والسلاح والدمار والتفجيرات والحروب, لأن هذا
النمط يضرب البنية المجتمعية من أساسها لأي بلد محاصر, لأنه يؤثر على
الحياة المعيشية للأفراد, ويتسبب بتجويعهم وعوزهم وفقرهم, وقد كانت لنا
نحن العراقيين تجربة مريرة أيام حكم الطاغية, مع هذا النوع من الصراع,
عانينا فيه الأمرّين .

الجانب الأمريكي, وهو الأقوى (بحسب المنظور أعلاه), وقف ملوحا بورقة
المقاطعة الاقتصادية المالية للعملة الصعبة في العراق, في حال تشكلت
حكومة يكون امتدادها (التحالفي : شيعي سني كردي) مقاربا للمحور الإيراني؛
البعض يعتقد واهما (متعمدا) بأن الحراك التفاوضي هو بين طرفين : إيراني
وأمريكي, لا يمكن إنكار وجود ضغوط أمريكية على كل الأطراف, لأن التهديد
يطال الكل, فهو ليس تهديد موجه للأطراف الموالية للخط الإيراني, ومع ذلك
فالمعادلة هي ليست بين طرفين, بل هي بين طرف يريد أن يبقى العراق سائرا
في فلك التبعية (ومعاداة أمريكا كمشروع لدولة إقليمية), وبين طرف آخر
يحاول جاهدا بشتى الوسائل, أن يتحدث بلهجة اللغة الوطنية التي تحاول أن
تجعل للعراق اعتبارا في هذه المعادلة.

الضخ الإعلامي التضليلي في هذه المرحلة, عمل على تسويق الصراع بلغة
الثنائية المسيطرة على كل الأطراف ! ليغيّب الأصوات التي تدعو لتكوين
حكومية عراقية (لا إيرانية ولا أمريكية) من جانب, ولكي يخفي انتمائ
وتبعية أحد طرفي النزاع, وأقصد بهم ذوو المشروع الإقليمي الخارجي, لذا
انطبعت المخيلة الجماهيرية في تحليلها لهذا الموضوع, على فكرة الثنائية
المقيتة, وتحطمت آمالها (كالمعتاد) في تشكيل حكومة تنظر وتهتم للعراقيين
بالدرجة الأولى, وتتفاعل (كطرف مستقل غير تابع) مع الأحداث الإقليمية من
جانب آخر.

العراق الآن في مفترق طرق جديد لم يألفه سابقا, فلم تعد المعركة
مذهبية طائفية بين سنة وشيعة, بل على العكس إننا نشهد اليوم تفتتا
وتشظيّا للتحالف الشيعي لم يسبق له مثيل, كما هو الحال في الجانب السني
الذي يشهد كذلك تشظيا انقسم بين مواقف تبعية, ومواقف برغماتية نفعية
مناطقية, مع موقف كردي متذبذب في صراعه الداخلي بين أطرافه الذين اختلفت
توجهاتهم, والتي كانوا يعتبرونها في فترة سابقة توجهات مصيرية!

النتيجة : نحن اليوم أحوج ما نكون للصوت الذي يدعو لتوطين السياسة
العراقية, وعدم تغريبها وأقلمتها, ودعوات مرجعيتنا الشريفة, والأصوات
السياسية المعتدلة والحكيمة, التي تدعوا لإقامة مشروع سياسي وطني, وتشكيل
حكومة تهتم أولا بمعاناة ابن البصرة, وبتعمير بيوت أبناء الموصل, وتشغيل
شبابنا العاطلين عن العمل, وتطوير صناعتنا التي اختطفتها أيدي ملائكة
الموت النفعية, الإقليمية والدولية, هي الفرصة الأفضل التي أتيحت لنا,
لنسلم أرواحنا وأنفسنا لمصالح بلدنا, ومساندة رجاله من ذوي الحكمة
والبصيرة .

*دكتوراه في النظرية السياسية/ المدرسة السلوكية الأمريكية المعاصرة في السياسية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here