أيها الدعاة..اخسروا السلطة واربحوا “الدعوة”

د. علي المؤمن

أنطلق في رؤيتي هذه من فهمي العلمي العميق لحزب الدعوة الإسلامية و موقعه المفصلي في الإجتماع الديني والسياسي الشيعي من جهة، والاجتماع السياسي العراقي من جهة أخرى، والعملية السياسية في العراق الجديد من جهة ثالثة. وينطوي هذا الفهم المنهجي على ثلاثة مخرجات رئيسة:
إن حزب الدعوة الإسلامية هو الحزب الإسلامي الشيعي المنظم الوحيد الذي يمكنه أن يكون عماد الواقع السياسي الشيعي، و بالتالي ركيزة العملية السياسية العراقية التي تستند الى حقائق الاجتماع الديني والسياسي.
إن حزب الدعوة الإسلامية حزب حقيقي بكل ما تعنيه كلمة الحزب من أنساق حزبية عصرية. و هو ما تتطلبه سياقات النظام السياسي الديمقراطي حصراً؛ أي أنه ليس جماعة عائلية أو فصيلاً مسلحاً أو حركة رموز تتعارض مع أساس النظام الديمقراطي.
إن “الدعاة” هم الأكثر خبرة و وسطية، والأعمق وعياً، والأبعد عن السذاجة والمكر والرعونة.
ولذلك؛ فإن التأثيرات السلبية لمظاهر التراجع الإيماني و الإنكماش الفكري و الضعف التنظيمي و التقهقر السياسي و الإنحسار الشعبي و الفراغ الإعلامي في حزب الدعوة الإسلامية لن تقتصر عليه وحسب؛ بل ستعم العملية السياسية برمتها، وتنعكس على الفرقاء السياسيين الآخرين أيضاً. و يتحمل “الدعاة” أنفسهم مسؤولية بروز جزء من هذه المظاهر في حزبهم، وتحديداً من فشل منهم في اختبار السلطة، أو أخفق في أدائه، أو تورط في ارتكاب ما يتعارض مع مبادئ الدعوة وقيمها، و مع الشريعة الإسلامية و منهج أل البيت؛ دون أن نبخس “الدعاة” الناجحين أشياءهم. بينما يتحمل الجزء الآخر من المسؤولية الظرف السياسي العراقي الصعب. أما الجزء الثالث فيتحمله الفرقاء السياسيون المنافسون، ولا سيما الأضداد النوعيين من الجماعات الإسلامية الشيعية.
صحيح أن هذه المظاهر موجودة أيضاً، و بقوة أكبر، في الجماعات السياسية الأخرى؛ الشيعية منها والكردية والسنية؛ إلّا أن ما يميز حزب الدعوة ـ كما ذكرنا ـ هو أنه حزبٌ ديني دعوي؛ ما يجعل ابتلاءه بهذه المظاهر السليية كارثياً على المذهب والوطن.
وصحيح كذلك أن كثيراً من أعضاء الأحزاب والجماعات والتيارات السياسية تفوّق في التورط بمختلف ألوان الفساد المالي والإداري والإجتماعي، ولكن عنوان “الداعية” ومسؤوليته الدعوية تجعل فساده أكثر بشاعة و أقوى وقعاً؛ لأنه داعيةٌ إسلامياً قبل أن يكون رجل سياسةٍ أو مسؤولاُ في السلطة؛ إذ أن هدف “الداعية” الأول والأخير من العمل السياسي ليس الوصول الى المناصب الحكومية؛ بل كسب المجتمع والدولة والنظام السياسي طوعاً الى تطبيق الشريعة ونظمها وأخلاقها و سلوكياتها؛ عبر الكتلة المؤمنة المنظمة التي تتشكل بمجموع “الدعاة”.
و لو كان “الدعاة” يعون حقاً موقع “دعوتهم” المفصلي في المسار الشيعي والوطني؛ بوصفه أحد أهم أربعة مفاصل تأسيسية في التاريخ السياسي الشيعي؛ بعد دولة المختار الثقفي العراقية والدولة الصفوية والجمهورية الاسلامية الإيرانية؛ لما سمح بعضهم بالتفريط في تجربة المشاركة الشيعية الوطنية القائمة، ولا في حزبه الذي يمثل ركيزتها.
كما أن الفرقاء السياسيين الشيعة لو كانوا يدركون أهمية حزب الدعوة الإسلامية المتفردة في بناء الواقع الشيعي خصوصاً والوطني عموماً، و بوصفه التيار الإسلامي الشيعي الأم؛ لما كرسوا جهودهم لإضعافه، و لحرصوا على دعمه وتقويته.
ولعل من أهم مؤشرات الإخفاق في واقع حزب الدعوة الحالي؛ طبيعة مشاركته في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (٢٠١٨)؛ فقد دخل “الدعاة” المعركة الانتخابية في إطار قائمتين متنافستين؛ دون أن يشارك الحزب فيها بعنوانه الرسمي. ثم اصطفّا بعد ظهور نتائجهم المتواضعة في محورين متصارعين. واللافت هنا أن قياديين وكوادر بارزين من “الدعاة” لم يفوزوا في الانتخابات، ولم يحصل “الدعاة” بمجموعهم على أكثر من (15) مقعداً؛ برغم أنهم وحلفاءهم في ثلاث قوائم (القانون والنصر والفتح) حصلوا على (115) مقعداً. والأهم من كل ذلك تشتت “الدعاة” وانقسامهم داخل الحزب على أنفسهم، و إمساك جزء منهم برأس السلطة خلال السنوات الأربع الماضية، واصطفاف الجزء الآخر مع المعارضة. و يراد لهذا الوضع المدمر الاستمرار لأربع سنوات قادمة؛ ما يؤدي الى خسارة ما تبقى من الحزب تدريجياً. وهي ليست خسارة للحزب؛ بل لعموم مدرسة “الدعوة”، وللواقع الشيعي والوطني برمته.
وربما لو طبّق الحزب خلال السنوات الأربع الماضية قواعد التنافس الداخلي الإيجابي في إطار جناحين أو اكثر داخل الحزب؛ كما هو المعمول في كثير من الأحزاب العالمية، وعدم تحويل الواقع التنافسي الى صراع مكشوف وتبادل اتهامات؛ لما وصل حال “الدعوة” الى ماوصلت اليه اليوم.
و يدرك كثير من الواعين السنة والكرد أن خسارة “الدعوة” هي خسارة للمكونين السني والكردي أيضاً؛ بالرغم من خصومة بعض كتلهما السياسية مع “الدعوة”. وسأنشر قريباً رسالة بعثها لي أحد أهم القيادات السنية المنافسة، وهي تحمل هذا المعنى؛ إذ يؤكد صاحبها بأن تآمر حزب الدعوة على نفسه، وتآمر الآخرين عليه هو ـ قبل كل شيء ـ تآمر على العملية السياسية و النظام الديمقراطي الجديد.
و لا شك ان وعي “الدعاة” المخلصين؛ منتظمين و منقطعين، وكذا باقي الفرقاء السياسيين العراقيين؛ بالخلل الكبير الذي ستتعرض له العملية السياسية والواقع الشيعي والوطني في حال استمرت حالة التراجع في مسارات حزب الدعوة الإسلامية؛ سيساعد على إيقاف هذا التراجع، ويساهم في إنقاذ العملية السياسية. وهو أمر لا نشك أن مرجعيتي النجف وطهران تتحسسانه بعمق.
وفي حال لم تتم معالجة الخلل، وإعادة تقويم واقع حزب الدعوة عبر مسارين؛ تكتيكي وستراتيجي؛ يتمثل الأول باندماج كتلتي دولة القانون والنصر؛ ليكون الحاصل نواة تشكيل الكتلة الأكبر والحكومة الجديدة الخدمية القوية، والثاني بإعادة بناء شاملة للدعوة؛ فإن خروج جميع “الدعاة” من السلطة هو الحل الأمثل؛ لكي يربح “الدعاة” دعوتهم؛ على حساب السلطة، وعلى حساب المصلحة الآنية للحزب وأعضائه.
ولتكن استراحة محارب؛ يستجمع فيها حزب الدعوة قواه، و ينطلق من جديد؛ بعد لهاث خمسة عشر عاماً في معارك السلطة، ويتخلص من ضغوطات الإعلام و إتهامات الشارع وتداعيات إخفاق بعض أعضائه، وإخفاق شركائه أيضاً. وهذا ما تحتاجه “الدعوة” خلال السنوات الثماني القادمة؛ ليتفرغ “الدعاة” الى التفكير بهدوء وعمق وتركيز، ويتجهوا نحو عملية إعادة بناء حزبهم ودعوتهم على كل الصعد؛ بعد دراسة تفاصيل كل خطوة يقدمون عليها؛ بعيداً عن الارتجال والانفعال اللذين رافقا مسيرتهم خلال خمسة عشر عاماً. وليأخذ “الدعاة” خلال السنوات الثمانية القادمة موقعهم الريادي في صفوف المعارضة البرلمانية الإيجابية، ويشكلوا حكومة ظل لدعم الحكومة القائمة، وتقويمها وترشيد خطواتها.
و بعد أن يتخلى “الدعاة” عن أي منصبٍ وزاري وتنفيذي رفيع؛ أرى أن يتحول حزب الدعوة الإسلامية ـ من الآن وحتى ما قبل انتخابات العام 2026 ـ الى حَكم حكيم و وسيط متوازن بين الكتل الشيعية خصوصاً، والعراقية عموماً، وليس طرفا منافساً، ويساعد الشركاء في تشكيل الحكومة المقبلة و حكومة العام 2022؛ من خلال تقريب وجهات النظر بينهم، و إلزامهم ببرنامج كمي ونوعي لخدمة العراق وشعبه، ولاسيما في المجال الخدمي،
و من الضروري أن يدرس “الدعاة” تجارب الأحزاب الإقليمية والعالمية التي نجحت في حصد ثمار تخطيطها وصبرها خلال مرحلة إعادة البناء وهي بعيدة عن السلطة. ولعل أهم تجربتين إقليميتين مارستا طقس إعادة البناء بكل حِرَفية بعد سنوات من الغربة عن السلطة؛ هما تجربة تيار اليسار الديني في إيران، وتجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا. فتيار اليسار الديني (الإصلاحي فيما بعد) في إيران ابتعد عن السلطة ثماني سنوات؛ هي عمر حكومة رفسنجاني (1989 ـ 1996)؛ بعد أن كان التيار الأكثر نفوذاً في عهد حكومة مير حسين موسوي، ولمدة ثمان سنوات أيضاً (1982- 1989). وخلال فترة الابتعاد عن السلطة أعاد تيار اليسار الديني بناء صفوفه وكوادره، وأنشأ بنى تنظيمية جديدة، واتجه كثير من قيادييه وكوادره الى إكمال دراساتهم العليا؛ حتى قيل أن حوالي (300) منهم حصلوا على شهادات الدكتوراه في العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصاد والقانون في فترة اعتزال السلطة، كما عاد كثيرٌ من علماء الدين منهم للتفرغ للدراسة والتدريس في الحوزة العلمية، وباشر بعضهم بتدريس ما يُعرف بالبحث الخارج، وأعلن أخرون عن مرجعيتهم الدينية، وأسسوا جماعتين علمائيتين كبيرتين في قم وطهران ( مجمع علماء الدين ومجمع المحققين)، وأنشاوا عدداً كبيراً من الصحف والدوريات، وأصدروا مئات الكتب التي تروج للفكر الإصلاحي الديني، وعقدوا عشرات المؤتمرات، وأسسوا الجمعيات البحثية الثقافية، وكان بينها “جميعة الباحثين الدينيين” التي بلغ عدد أعضائها في مدينة قم وحدها أكثر من (500) باحث مدني لايرتدي زي رجال الدين، كما أعادوا تنظيم علاقاتهم بالشارع وفئاته المختلفة، وأعادوا الإمساك بالاتحادات النسائية والشبابية والطلابية، و أهمها “مكتب تحكيم الوحدة الطلابي” الذي يضم حوالي (600) ألف طالب جامعي. وكانت نتيجة كل هذا الإصرار على التحدي والبناء، والنفس الطويل العميق في النضال السياسي؛ أن اكتسحوا الانتخابات الرئاسية في العام 1996، والتي جاءت بالسيد محمد خاتمي رئيساً للجمهورية لثمان سنوات، كما اكتسحوا الانتخابات البرلمانية، وكانوا يشكلون حينها أغلبية سياسية مطلقة في الحكومة والبرلمان. ولايزال هذا التيار الرقم السياسي الأقوى في البلد.
و باختصار؛ فإن نجاح تيار اليسار الديني (الإصلاحي) في ايران في إعادة بناء نفسه خلال مرحلة اعتزاله السلطة؛ كان نتيجة طبيعية لتمازج عدة عناصر وتظافرها:
الإنتاج الفكري؛ المهم كماً ونوعاً؛ في مجالات السياسة والإجتماع والدين.
عودة علماء الدين بفاعلية وبرنامج دقيق الى صفوف الحوزة العلمية.
بناء الكوادر الأكاديمية والقيادات التنكوقراط.
الإمساك بمنظمات المجتمع المدني؛ لاسيما الطلابية والشبابية والنسائية.
إمتلاك وسائل صحافة وإعلام فاعلة.
النزول الى الشارع والالتحام بالجمهور.
بناء التنظيمات السياسية الرصينة.
بناء المؤسسات البحثية والعلمية والدينية.
و شبيه منها تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، والذي بدأ تياراً شبابياً في حزب الفضيلة، وبقي يعمل بدأب خلال فترة ابتعاده عن السلطة، والتي تبدأ من إسقاط نجم الدين أربكان من رئاسة الحكومة في العام 1997 وحتى انتخاب عبد الله غول رئيساً للوزراء في العام 2002؛ وصولاً الى انتخاب اردوغان رئيساً للوزراء في العام 2003. وقد بادر حزب العدالة خلال السنوات الأربع التي كان فيها قادته خارج السلطة؛ الى بلورة فكر سياسي إسلامي وطني رصين، وخطاب داخلي متصالح مع الجميع، والعمل الجاد عبر المجالس البلدية، ولا سيما بلدية اسطنبول، وإتحادات الطلبة والشباب والمرأة، ومنظمات المجتمع المدني، والصحافة والإعلام، والتنظيم السياسي، وشركات المال والإقتصاد. وكانت النتيجة اكتساحاً سياسياً وشعبياً عارماً بقيادة أردوغان لايزال مستمراً؛ بعد سنوات من الصبر والتخطيط والعمل الدؤوب والإصلاح المتوازن خارج الحكومة. وليس من مؤشر أدل على نجاح حزب العدالة والتنمية من هيمنته المطلقة على الحكومة والبرلمان، والتي سمحت له حتى بتغيير النظام السياسي في تركيا من برلماني الى رئاسي.
ولا يمكن أيضاً تجاوز تجربة محاضير محمد في ماليزيا؛ الذي عاد الى السلطة أقوى من السابق؛ بعد عزلة استمرت (15) عاماً؛ أي من العام 2003 حين أعلن تقاعده واعتزاله السلطة تحت الضغط، وحتى العام 2018 حين عاد الى رئاسة الوزراء وهو بعمر (93) عاماً، بعد أن توج صبره وحراكه الجديد بفوزه الكاسح في الانتخابات البرلمانية على رأس الحزب الماليزي الموحد الذي أسسه قبل بضع سنوات. وكان محاضير قد بدأ بإعادة بناء صفوف أنصاره وجماعته؛ استعداداً لانتخابات العام 2018؛ منذ العام 2009. و هناك أيضاً تجارب سياسية حزبية ناجحة كثيرة أخرى يمكن دراستها.
و لا يفهم بعض المراقبين من كلامي حول اعتزال “الدعاة” السلطة مؤقتاً؛ أن حظوظ حزب الدعوة في الإستمرار برئاسة الحكومة العراقية قد ضعفت في الحال الحاضر؛ بل كنت ولا أزال أتوقع أن رئاسة الوزراء ستبقى في حوزة “الدعاة” حتى العام ٢٠٢٦. ولكن عندما كان بعض المتابعين يسألونني: (( وماذا بعد العام 2026 ؟))؛ أجيبهم: ((الطاعون)). أي أن مصير حزب الدعوة ـ فيما لو بقي على تشبّثه بوضعه الحالي وتآمره على نفسه ـ مصير المجلس الأعلى الإسلامي حالياً نفسه. فقد كنت أدوّن توقعاتي بشأن مستقبل المجلس بعد إصابة السيد عبد العزيز الحكيم بمرضه الذي أدى به الى الوفاة، وكنت أتشوّف بوضوح انتخاب السيد عمار الحكيم لرئاسة المجلس، و انفصال منظمة بدر، و استقلال الحرس القديم بالمجلس بعيداً عن سيد عمار الذي سيؤسس حزبه الخاص به؛ وصولاً الى انهيار المجلس الأعلى. و برغم نظرتي التاريخية غير الإيجابية للمجلس الأعلى؛ إلّا أنني كنت ـ حقيقةً ـ أخشى عليه من الإنهيار؛ لأنه يمثل مصدر قوةٍ أساسية و مهمة للواقع الشيعي والوطني. وكثيراً ما كنت أتحدث عن هواجسي هذه للصديق السيد عادل عبد المهدي.
وعليه؛ أعتقد أن “الدعاة” سيجدون أنفسهم دون حزب حقيقي، و دون غطاء سياسي قوي بحلول انتخابات العام ٢٠٢٦؛ فيما لو أصروا على الإستمرار في السلطة، وهم منقسمون متراجعون، ويفتقدون الى مشروع إعادة بناء حزبهم، ويقودون حكومة محاصصة ضعيفة لا تستطيع أداء مسؤولياتها، و في ظل وجود شركاء سياسيين أقوى من الحكومة. ولذلك فإن الهدف من مطالبة “الدعاة” بالابتعاد عن السلطة والتفرغ للحزب لمدة ثماني سنوات؛ هو الحيلولة دون مزيدٍ من التآكل في كيانه، والإخفاق المستمر في سياساته، و في أداء أعضائه؛ وصولاً الى انهياره مضموناً؛ وإن استمر شكلاً. كما هو الحال الذي وصل اليه المجلس الأعلى الإسلامي.
و ربما من الطبيعي أن تكون نتائج “الدعاة” في انتخابات العام ٢٠٢٢ غير مشجعة؛ فيما لو تركوا السلطة الآن؛ لأن فترة الأربع سنوات القادمة ستكون مجرد مرحلة انتقالية، ولن يستطيع فيها الحزب ممارسة عمليات الهدم وإعادة البناء بهذه السرعة. ولكنهم سيكتسحون انتخابات العام ٢٠٢٦، وسيشكلون حكومة أغلبية سياسية؛ لأنهم خلال ثماني سنوات من الابتعاد عن السلطة (2018 ـ 2026) سيربحوا “الدعوة”؛ فيما لو جدّوا في تطبيق ستراتيجية إعادة بناء الحزب، بمنهجية وحرفية. وهناك الآلاف من “الدعاة” المنقطعين مستعدون لأن يكونوا جزءاً فاعلاً في المشروع، وكثيرٌ منهم مفكرون وعلماء دين وأكاديميون ومثقفون و خبراء، وهم ممن يُطلق عليهم جنرالات الحزب المتقاعدون. كما أن كثيراً من الجماعات الإسلامية الشيعية في لبنان وإيران والخليج؛ ستضع إمكاناتها تحت تصرف مشروع إعادة بناء “الدعوة”، وإعادة تمكينها. ولا أقول هذا تحليلاً؛ بل عن دراية.
و لطالما كنت أرى أن خروج رئاسة الحكومة من حزب الدعوة سيضر به وبالواقع الشيعي وبالعملية السياسية وبالوطن كله؛ أكثر مما هو متضرر الآن. ولم تكن رؤيتي تجاه “الدعوة” يوماً عاطفية أو حماسية؛ بل منطلقها إدراك حاجة الوطن والعراق الجديد للدعوة؛ للحيلولة دون تهالكه في حضن المشاريع الاجنبية، ولاسيما المدمرة منها، وفي مقدمها الأمريكي والسعودي. فضلاً عن حماية المكسب السياسي الشيعي والوطني في ما بعد ٢٠٠٣. ولكن تداعيات الأشهر الستة الماضية؛ جعلتني أرى أن حماية حزب الدعوة من السلطة وإلزاماتها وتداعياتها عليه؛ هي واجب شرعي و وطني؛ حتى ترتفع الأسباب المؤدية لذلك، ولو جدّ “الدعاة” لما طال أمد ارتفاعها أكثر من ثماني سنوات.
وسيرى “الدعاة” كيف أن السنوات الثمان القادمة ستمر مسرعة جداً، وسيرون في العام 2026 ثمرة صبرهم ودأبهم على التخطيط والعمل الصعب، وسيتلمسون مايعنيه إعادة كتابة مشروع الدولة في فقههم و فكرهم السياسي، ونظريتهم الحزبية، وإعادة بناء تنظيماتهم المحلية والعالمية كماً ونوعاً، وتقوية رموزهم شعبياً، وممارسة وظيفتهم الدينية والدعوية والتبليغية والخدمية داخل صفوف الشعب، والنزول الى الشارع والاندماج بمكوناته وفئاته الاجتماعية والمهنية والدينية والمذهبية والقومية. والأهم من كل ذلك أن ثماني سنوات بدون سلطة ومناصب؛ ستميز “الداعية” الصابر والمرابط، عن “الحزبي” الباحث عن المنصب. وسيكون الصابرون هم ما ينفع “الدعوة” والناس و يمكث في الأرض، وسيوفّون أجرهم دون أدنى شك.
و مع كثرة ايجابيات المشروع وبنيته الستراتيجية؛ إلّا أنه لا يخلو من سلبيات على حزب الدعوة وعلى الواقع السياسي الشيعي العراقي. وهو ما يثيره كثير من أعضاء حزب الدعوة؛ فهم يرون أن ابتعاد “الدعاة” عن رئاسة الحكومة والمسؤوليات التنفيذية ومفاصل الدولة؛ سيعرّضهم لسلوكيات عدائية وانتقامية على الصعد السياسية والإعلامية من الخصوم السياسيين؛ بل ربما تبلغ هذه السلوكيات مستويات من العدائية تطال الجوانب الوظيفية والمعاشية للدعاة. أي أنهم باختصار يخشون اجتثاثاً جديداً لهم؛ كما حصل في عهد البعث، ولكنه سيحصل هذه المرة على يد شركائهم في العملية السياسية.
وليس مستبعداً أن تحدث كثير من هذه السلبيات، ولكنها ستكون سلبيات وقتية ومرحلية، وستتلاشى بعد ثماني سنوات. فضلاً عن أن وجود كوابح مهمة سيحول دون تحول سلوكيات الخصوم تلك الى ستراتيجية ثابتة وأساسية؛ أهمها وجود “الدعاة” في البرلمان ومجالس المحافظات ومنظمات المجتمع المدني، والتحامهم بالشعب، وحماية المرجعيتين الدينيتين النجفية والطهرانية لهم، ووجود حلفائهم في مفاصل الحكومة والدولة؛ فضلاً عن الخبرة والتدبير اللذين يتميز بهما “الدعاة”؛ الأمر الذي يجعلهم ـ في النتيجة ـ في موقع الأبوة السياسية والتحكيم والمقبولية عند جميع الفرقاء السياسيين، وعند المرجعيات الدينية.

كتب بتاريخ 28/ 8 / 2018
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here