هكذا عالج طلعت حرب الاقتصاد المصري وألهب الروح الوطنية

تحقيق: محمد جبريل


منذ أوائل القرن التاسع عشر سيطر على وجدان المصريين وعقلهم هاجس تمصير الدولة والاقتصاد والثقافة؛ فمحمد عَلي همّش الأتراك والشراكسة وصعّد المصريين في دولاب الدولة واعتمد عليهم كعمود فقري لجيشه الحديث، وسعد زغلول مَصّر التعليم، وعزيز غالي مَصّر الشرطة التي كانت أجنبية بالكامل، فيما اضطلع طلعت حرب بتمصير الاقتصاد الذي كانت تسيطر عليه نخب ورؤوس الأموال الأجانب والمتمصرين اليهود والشوام.

مُلهِم دائماً

كان عبد الناصر أول رئيس مصري بعد أكثر من ألفي عام كانت مصر خلالها محكومة من قبل هيئة تمثيلية لقوة أجنبية غازية؛ كالفرس واليونان والرومان وحتى المماليك ومن بعدهم ومعهم العثمانيون، فكان مشروعه الأكبر هو تمصير الثقافة والمشروعات الأجنبية، حتى وصل هذا المشروع إلى قرارات التأميم الشهيرة.

مع ضعف الوضع الاقتصادي لشركات بنك مصر وتقدم طلعت حرب في السن أصبح البنك في مرمى العديد من المؤامرات

واعترافاً بفضل طلعت حرب على مشروع مصر الأكبر “التمصير” ومكانته في وجدان المصريين وتقديمه المثل والنموذج في التمصير، أمر عبد الناصر في بداية عهده بخلع تمثال الضابط الفرنسي الشهير سليمان باشا (الكولونيل سيف) مؤسس جيش محمد علي لينصب مكانه تمثال طلعت حرب، مؤسس الاقتصاد المصري، وتغيير اسم الميدان والشارع المتفرع منه أيضاً من سليمان باشا إلى شارع طلعت حرب، أشهر شوارع وسط القاهرة حالياً.

طلعت حرب في المخيال الشعبي أسطورة وموضع افتخار واعتزاز وعبقرية فذة جاد بها الزمان على وادي النيل، وتجربته في الاستقلال الاقتصادي لا زالت معيناً لا ينضب للاستلهام والتأسي، حتى إن بنك مصر قبل عامين حين أراد أن يدشن أكبر حملة تمويلية في تاريخ مصر المعاصر عنونها بـ “طلعت حرب راجع” في حملة إعلامية ملأت شوارع مصر وشاشاتها، وهو ما يتطلب رصد معالم وأسباب صعود وازدهار ثم انهيار تجربة حرب في الاستقلال الاقتصادي، وتقصي الظروف السياسية والاجتماعية التي شكلتها وأحاطت بها، ثم دمرتها أخيراً.

اقرأ أيضاً: اقتصاديات الدين..حالة الحقل المعرفي

ولد محمد طلعت حرب في ناحية “قصر الشوق” التي خلدها الروائي المصري نجيب محفوظ في رواية تحمل الاسم نفسه، وكان والده قد ولد في قرية ميت أبو علي، وهي قرية صغيرة تابعة لمركز الزقازيق بمحافظة الشرقية ونزح إلى القاهرة ليعمل موظفاً صغيراً بمصلحة السكك الحديدية، وتنحدر أصوله البعيدة من قبيلة حرب التي كانت تعيش في منطقة بين مكة والمدينة المنورة، وعاش جزءاً منها في منطقة البصرة، وقد اعتمد طلعت حرب على أصوله البدوية تلك، فيما بعد، في الترويج لبنك مصر في الحجاز وتعميق اتصالاته مع العراقيين لإقامة مشروعات اقتصادية كبرى في ثلاثينيات القرن العشرين.

"طلعت حرب راجع" حملة إعلامية ملأت شوارع مصر

“طلعت حرب راجع” حملة إعلامية ملأت شوارع مصر

اسم مصر كشعار ضد الأتراك

حياة والده في قرية ميت أبو علي التي كانت محكومة بنظام الالتزام، سيء السمعة، يديره شركسي يدعي رفعت بهجت، واضطراه للنزوح إلى القاهرة مع أسرته بسبب المصاعب المالية التي واجهها، انعكست، كما يشير إريك دافيز في دراسته “مأزق البورجوازية الوطنية الصناعية في العالم الثالث: تجربة بنك مصر 1920- 1941” على آراء طلعت حرب السياسية والاقتصادية وأورثته عداءً شخصيّاً للهيمنة الاقتصادية على مصر وكراهية عميقة تجاه العائلة المالكة والعناصر التركية الشركسية الحاكمة التي كانت تضمر احتقاراً شاملاً للفلاحين المصرين.

يتطلب فهم تجربة بنك مصر كقوة محورية في التطور الصناعي لمصر نظرة أكثر تعقيداً من نسبته إلى المؤسس

ودفعه تناقضه مع الصفوة الحاكمة للاهتمام بالثقافة العربية والاعتزاز بها وتبني الرأي القائل بأنّ سبب تدهور الشرق الإسلامي هو الخلافة العثمانية وحكمها الذي فرض على بلدان الشرق نظام الجباية الجائر الذي جعل أهلها يعانون الأمرين، وضعفها المُهين الذي أدى إلى تسليم البلدان للإمبريالية الأجنبية.

كما احتوى كتابه قناة السويس (1910) نقداً ضمنياً للصفوة التركية – الشركسية الحاكمة، ونقداً صريحاً للخديوي عباس حلمي وثيق الصلة بتركيا لتفكيره في تجديد إيجار قناة السويس 40 عاماً لينتهي في 2008 بدلاً من 1968، فيما حملت مناقشته لقضية الربا في كتابه “علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين” (1911) هجوماً حاداً على المرابين الذين يستنزفون الفلاحين المصريين ويغرقونهم في مستنقع الديون والعوز، وهجوماً ضمنياً على الصفوة التركية التي لم تحمِ الأهالي من الضرائب الفادحة وفظائع المرابين.

اقرأ أيضاً: كيف يسهم الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي في مواجهة التطرف والكراهية؟

وكانت نزعة الكراهية المزدوجة التي يكنها طلعت حرب للأتراك الذين لم يروا مصرَ كياناً وطنياً أبداً، واعتبروها مجرد مُلحق جغرافي لتركيا من جهة، وللاحتلال الذي استباح الوطن من جهة أخرى، سبباً في إطلاقه اسم مصر على البنك الذي أسسه وعلى كل شركاته بلا استثناء، ما أسفر عن نفور الصفوة التركية من الإسهام في كل مشروعاته، وفقاً لتحليلات إريك دافيز.

تبنى الرأي القائل بأنّ سبب تدهور الشرق الإسلامي هو الخلافة العثمانية

تبنى الرأي القائل بأنّ سبب تدهور الشرق الإسلامي هو الخلافة العثمانية

مَرْجَل التحريض السياسي

عقب إتمامه تعليمه الثانوي بالمدرسة التوفيقية بالقاهرة، التحق طلعت حرب بمدرسة الحقوق الخديوية في آب (أغسطس) 1885 فتعلم الفرنسية جيداً، فضلاً عن القانون المدني الفرنسي الذي كان أساس الدراسات القانونية في مصر، وعلى الرغم من أصوله الاجتماعية التي دفعته للتناقض مع الثقافة الغربية، إلا أنه خلال تعليمه كان مضطراً أن يكون ضليعاً في هذه الثقافة، فقد كان معظم أساتذته من الفرنسيين.

اقرأ أيضاً: اقتصاد الحركة السلفية.. 

وعلى هذا الأساس أصبح طلعت حرب عضواً في نخبة وطنية مصرية عصرية آخذة في النمو، ومتأثرة بكل من النزعة التقليدية للحياة القروية والقيم الثقافية الغربية ذات البعد الكوني؛ فبسبب الاحتلال الاستعماري البريطاني وهيمنة رأس المال الأجنبي على الاقتصاد، وكذلك تأثير الثقافة الغربية على التعليم، كان على طلعت حرب وأبناء جيله في الطبقة المتوسطة الصاعدة أن يكوّنوا لأنفسهم رؤية عالمية تسمح بدمج عناصر الثقافة التقليدية، وقادرة على تحدي الاحتلال المسلح بثقافة متفوقة.

اقرأ أيضاً: ضرر كبير يصيب الاقتصاد العراقي بسبب إيران

تأثر طلعت حرب بمناخ التحريض السياسي السائد في مدرسة الحقوق التي اكتسبت طابعاً مُسيّساً خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، بفضل الأساتذة الفرنسيين الذين اعتبروا أنفسهم حلفاء طبيعيين للحركة الوطنية المصرية الناشئة، ولم تكن فرنسا وبريطانيا قد توصلتا حينئذٍ إلى اتفاق حول تحديد البلدان محل نفوذ وسيطرة أي منهما بعد.

وكان من بين زملاء طلعت حرب في المدرسة مصطفى كامل ومحمد فريد، وكان من بين معلميه عمر لطفي، مؤسس الحركة التعاونية التي دعمت بنك مصر بقوة خلال بدايات تأسيسه، وكذلك حفني ناصف؛ اللغوي الشهير والمثقف الديني المرموق، ومن هنا كان منبع التزام حرب بالوطنية المعادية للهيمنة الاستعمارية على مصر.

التناقضات الاجتماعية والسياسية أسفرت عن تأسيس بنك مصر وتدميره بعد ذلك

التناقضات الاجتماعية والسياسية أسفرت عن تأسيس بنك مصر وتدميره بعد ذلك

التجريد في خدمة الوطن

كان التعليم الذي تلقاه المحامون المصريون يرتكز على النزعة النظرية والمجردة، ومن ثمّ كان ينطوي على ميل أكبر لإضفاء الطابع السياسي نتيجة المشكلات السياسية والمعنوية والأخلاقية التي تثيرها دراسة القانون، على عكس التعليم المهني الذي كان يركز على النزعة التجريبية البراغماتية، ويقدم حلولاً محايدة للمشكلات الفنية.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد التركي إلى أين؟

وكان لهذا التمايز أثره الحاد في تلك الحقبة، خاصة في ظل التوجهات السياسية التي تبناها الطرفان، فالقانونيون من أمثال طلعت حرب وسعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد التزموا التزاماً حاداً بالأهداف الوطنية سواء تولوا مواقع السلطة أو ظلوا في موقع المعارضة، على عكس المهنيين الذين تعاونوا مع الاحتلال وتحالفوا مع رأس المال الأجنبي، مثلما فعل حافظ عفيفي (الطبيب) وأحمد عبود (المهندس) الذي تآمر في أواخر الثلاثينيات على تجربة طلعت حرب حتى أسقطها.

اقرأ أيضاً: هل تُنذر الأزمة الاقتصادية بتصدع نظام طهران؟

كما كان للخلفية الطبقية أثرها المهم على التوجهات السياسية لرموز البرجوازية الوليدة؛ فالذين انحدروا من أصول متواضعة كانوا متحررين من عبء الوطنية، واعتبروا أنّ صعودهم إلى مصاف السلطة الاقتصادية هو نتيجة مباشرة وحتمية لاجتهادهم الشخصي؛ كما فعل أحمد عبود المعروف عن عائلته معاناتها من الفقر المدقع، وكذلك الأمر مع المنحدرين من أصول ثرية ممن رأوا في تبوأهم مكانة اجتماعية عالية نتيجة طبيعية لثرائهم، مثلما رأى أمين يحيى باشا.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد الإسلامي شائعة روج لها فقهاء الإسلام السياسي

كان ذلك على عكس أبناء البرجوازية الصغيرة الذين تحملوا عبء مواجهة الاستعمار بكل أشكاله وترسيخ السيادة الوطنية، ويظهر هذا بوضوح في حالة البرجوازية ذات الأصول الريفية المحافظة على الثقافة المصرية التقليدية، والتي تشكل منها جسد البرجوازية الزراعية التي هبت لتحدي الهيمنة الاستعمارية ورأس المال الأجنبي الذي هدد وجودها في مرحلة من مراحل تطورها الاقتصادي.

هواجس البرجوازية الزراعية وعداؤها لرأس المال الأجنبي كانا الرصيد الخام الذي استفاد منه طلعت حرب في دفع فكرة تأسيس بنك وطني إلى صدارة المشهد السياسي، وإلى تجسيد الفكرة على الأرض في مؤسسة مالية حازت ثقة تلك الطبقة وولاءها.

طلعت حرب في المخيال الشعبي أسطورة وموضع افتخار

طلعت حرب في المخيال الشعبي أسطورة وموضع افتخار

أكبر من طلعت حرب

يتطلب فهم تجربة بنك مصر كقوة محورية في التطور الصناعي لمصر نظرة أكثر تعقيداً من نسبته إلى المؤسس؛ فالتغيّرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها مصر مع مجيء الاحتلال البريطاني وما لازمها من إدماج الاقتصاد المصري في السوق العالمية أثرت بشكل حاد على بنية المجتمع؛ فقد خلق التوسع في زراعة القطن طويل التيلة اعتماداً مزمناً على السوق الدولية، وزرع بذور التناقضات الاجتماعية والسياسية التي أسفرت عن تأسيس بنك مصر وتدميره في نهاية المطاف.

اقرأ أيضاً: بين التدين النفعي واقتصاديات الكنيسة المصرية

كما أسفر تراكم الديون الهائلة على الصفوة السياسية الحاكمة قبل ثورة عرابي عن رهن أراضي الدولة “الدائرة السنية” وأراضي العائلة المالكة “الدائرة الخاصة” لدى الدائنين الأجانب، وكان اهتمام البريطانيين الأكبر بعد الاحتلال مباشرة ينصب على تصفية الدين المصري الذي وصل إلى 100 مليون جنيه، فسعوا إلى توليد إيرادات إضافية بزيادة إنتاج القطن المصري، وتطلب ذلك بيع أراضي “الدائرة السنية” بعد ضم أراضي “الدائرة الخاصة” إليها، وكان إجمالي مساحة الأراضي المراد بيعها يصل إلى نصف مليون فدان.

وُضعت أراضي الدولة تحت إشراف لجنة خاصة عُهد إليها بإدارة هذه الأراضي وتحويل أرابحها إلى خزانة الدولة، وظلت اللجنة قائمة حتى أنشئت شركة مساهمة بهدف بيع الأراضي نهائياً.

الأولوية الأولى لدى الإدارة الاستعمارية كانت تتمثل في ضمان كفاءة زراعة وحصاد محصول القطن، ومن ثّم كان الشرط اللازم لذلك هو إرضاء أهم عنصر اجتماعي في الريف، وهم كبار الملاك عبر خفض ضريبة الأراضي، وإضفاء الشكل القانوني على الملكية الخاصة للأرض، وهو ما أحدث التأثير المطلوب، حيث استمرت زراعة القطن بلا عائق حقيقي حتى الحرب العالمية الأولى.

في موازاة ذلك جعل الاستقرار السياسي في تلك الفترة من مصر منطقة جذب استثماري، فتأسست شركات أجنبية لاستصلاح الأراضي، ومعها انتشرت المؤسسات المالية التي تقدم قروض الرهونات بهدف التوسع في مساحة الأراضي القابلة للزراعة.

من جهة أخرى، حوّل المال الربوي حياة المزارعين إلى جحيم، لذا كان محل انزعاج المجتمع المصري بأكمله وهو السبب التاريخي الذي دفع الشيوخ لتحريم “فوائد البنوك” التي تضررت منها شرائح واسعة من الفلاحين، لكن في مقابل ذلك كانت هناك شرائح اجتماعية أخرى، وإن كانت أقل عدداً إلا أنها أقوى نفوذاً، كانت مصائرها مرتبطة بالمعاملات المالية وجدت في فتوى الإمام محمد عبده مبرراً شرعياً في التعامل مع البنوك وقبول الفائدة.

فتوى الإمام منحت مصلحة البريد المصرية فرصة لا تقدر بثمن في فتح أبوابها لاجتذاب مدخرات القطاعات الميسورة من الفلاحين والعمال، وكان بنك مصر هو المستفيد الحقيقي من تلك الخطوة التي مهدّت الأرض لتأسيسه.

فتوى الإمام منحت مصلحة البريد المصرية فرصة لا تقدر بثمن

فتوى الإمام منحت مصلحة البريد المصرية فرصة لا تقدر بثمن

الطبقة هي الفيصل

لما كانت الأراضي التي تباع من الدائرة السنية والأراضي التي كانت تبيعها شركات الاستصلاح توزع في معظمها في قطع كبيرة، لم يكن يستطيع الاستفادة منها سوى الملّاك الذين يملكون كميات كبيرة من الأموال السائلة، وهم وحدهم من استأثر بإمكانية الحصول على القروض، على العكس من الملّاك الصغار، وهو ما أدى إلى تعميق الفوارق الطبقية في المجتمع.

كما ظهر في الفترة ما بين 1882 و1907 زيادة كبرى في حيازات أعيان الريف من الأراضي، وهو ما أدى إلى خلق تجانس بين طبقة كبار الملاك، وزيادة وعيها بمصالحها الاقتصادية والسياسية، وبروز إحساس بالتضامن الطبقي بين البرجوازية الزراعية، وتأثرت تلك الطبقة بقوى السوق العالمية بشكل حدي في مسائل حجم الطلب على القطن المصري وإمكانية الحصول على قروض أجنبية، بالإضافة إلى تدهور إنتاجية الأرض نتيجة فقدان خصوبتها جراء زراعة القطن التي استنزفتها.

وبالإضافة إلى العوامل الثقافية والأيديولوجية التي ساهمت في صعود الوطنية المصرية، كان الصراع بين البرجوازية المصرية المفعمة بوعي طبقي طاغٍ ورأس المال الأجنبي سبباً مادياً لبروز الروح الوطنية؛ فقد طالب ملاك الأراضي الحكومة بالسيطرة على البنوك والشركات المساهمة الأجنبية بعد الانهيار المالي العالمي الذي حدث عام 1907 ما أدى إلى انهيار العديد من المؤسسات الائتمانية المرتبطة بعمليات بيع الأراضي والاستثمار في الزراعة، كما أدى إلى خسائر فادحة أحاقت بكبار الملاك نتيجة الكساد.

وتصدى كبار الملاك لمقاومة رأس المال الربوي في الريف، حيث كان يهدد الفلاحين الذين يؤجرون لهم الأرض ويشترون منهم القطن بالإفقار المطلق، وفي النهاية تبنوا الآراء التي تذهب إلى أنّ مصالح رأس المال الأجنبي مضرة بمصالحهم كبرجوازية زراعية تحتاج بشكل مُلِّح إلى تأسيس بنك وطني.

ومع نهاية العقد الأول من القرن العشرين بدأ التوسع في الأراضي المستصلحة مرحلة الأفول، ومن ثم جمود حيازات الأراضي، في وقت بات خطر تفتيت الأراضي فيه يهدد عائلات كبار ومتوسطي الملاك، فاضطر أبناء عائلات كبار الملاك للدخول إلى مجالات العمل المهنية، ما أدى إلى تقوية نفوذهم داخل القوات المسلحة والسلك الدبلوماسي والمناصب الإدارية، ومن هنا بدأت تلك العائلات تبتعد عن الاعتماد الكلي على زراع القطن وكان تأسيس بنك وطني يتمشى مع ميولها في تنويع أنشطتها ومصادر دخلها.

أقام طلعت حرب علاقات وثيقة مع "دويشته بنك"

أقام طلعت حرب علاقات وثيقة مع “دويشته بنك”

ما فعله المؤسس

بحلول عام 1908 بدأ طلعت حرب في كتابة سلسلة مقالات في صحيفة الجريدة ناقش خلالها الآثار السلبية لمضاربات رأس المال الأجنبي في أسعار السلع والأراضي، معتبراً أنّ تغلغل رأس المال الأجنبي في مصر يلعب دوراً هدّاماً على المستوى الاقتصادي، وخلال المؤتمر الوطني المصري 1910 الذي ساهم في تنظيمه حزبا الوطني والأمة، قدّم طلعت حرب اقتراحه التفصيلي لإقامة بنك وطني، وأيد الحزبان فكرة تأسيس البنك، وعرض كبار الملاك فيهما أراضيهم كضمان لرأس مال البنك المراد إنشاؤه. ببساطة استطاع طلعت حرب في تلك اللحظة حشد المصالح الطبقية، وتأطيرها في أول مؤسسة مالية وطنية.

وبعد أن ألهب طلعت حرب، حينذاك، الحماسة الوطنية الداعمة لتأسيس بنك وطني استغلها في تأسيس نواة للبنك تمثلت في شركة “التعاون المالي والتجاري بمصر” بالاشتراك مع عمر لطفي والأمير حسين كامل وألفريد عياد، وصارت الشركة نموذجاً مصغراً لما سيكون عليه البنك. وبعد عام واحد نشر كتابه “علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين” (1911) الذي وضع فيه رؤيته الشاملة للبنك وأنشطته وشرح فيه مدى أهمية وجود بنك وطني يعمل وبوضوح شديد على نقل الأرباح التي يحصل عليها الأجانب إلى أيدي المصريين.

ما أخّر ظهور بنك مصر للنور، وفقاً لدراسة دافيز المميزة عن تجربة طلعت حرب، كان افتتاح “دويتشه أورينت بنك” الألماني فرعاً له في مصر عام 1906 والذي أصبح خلال فترة قصيرة واحداً من أهم البنوك التي قدمت قروضاً لكبار الملاك، حيث كان دويشته بنك يمثل مصدراً بديلاً للقروض عقب الانهيار الذي أصاب المؤسسات المالية البريطانية 1907.

 

أقام طلعت حرب علاقات وثيقة مع “دويشته بنك” وفتح حساباً فيه بعد فترة وجيزة من تأسيسه، ومنه تعلم إمكانية جذب المساهمين عن طريق تقديم قروض ميسرة، كما أعطى البنك نموذجاً لطلعت حرب أصبح فيما بعد يميز عمليات بنك مصر كشركة قابضة وليس مجرد مؤسسة تمويلية.

ولما كان الهدف من إنشاء فرع لـ “دويتشه بنك” سياسياً بالأساس، وهو حرمان بريطانيا من سوق القطن المصري في سياق تنافسها الإمبريالي مع ألمانيا، فقد اتبع نمطاً من العمليات لا يتهم كثيراً بحسابات الربح والخسارة بقدر اهتمامه بالهدف السياسي من تأسيسه، وهو ما قلده بنك مصر في سياق مغاير حيث جعل من السيادة الاقتصادية لمصر هدفاً سياسيّاً يجب تحقيقه مهما بلغت كلفته، وهو ما ظهر في تأسيس شركة مصر للطيران التي لم تحقق أرباحاً تُذكر، لكنها كانت داعمة لتكريس سيادة مصر على مجالها الجوي.

في عام 1914 صادرت بريطانيا فرع “دويتشه بنك” فأعطت هذه الخطوة دفعة حقيقية لطلعت حرب للإسراع في تأسيس بنك مصر، في وقت وجد فيه عملاء البنك الألماني أنفسهم مهددين بافتقاد مصادر القروض: حجر الزاوية في نمط الإنتاج الرأسمالي، وكان حرب يضعهم في الحسبان حتماً.

الحرب العالمية الأولى فجّرت الموقف بالكامل؛ فقد كان لها آثار خطيرة على الاقتصاد المصري دفعت بفكرة تأسيس بنك مصر إلى حيز التنفيذ؛ فمثلاً أبقت بريطانيا أسعار القطن منخفضة بشكل مصطنع حتى عام 1918 وهو ما أثار عداء منتجي وتجار القطن السلعة الوحيدة التي تنتجها البلد، كما انقطعت المعاملات التجارية بين مصر وأوروبا، ما أحدث نقصاً فادحاً في السلع، ودفع الحكومة لتشكيل لجنة مكونة من إسماعيل صدقي وسورناجا وطلعت حرب لبحث السبل التي يمكن من خلالها توسيع الإنتاج الصناعي ليشمل السلع التي كانت شحيحة أثناء الحرب.

انتهى تقرير اللجنة إلى أنّ مصر تحتاج إلى بنك وطني لا يكون مصدراً فقط للقروض قصيرة الأجل، بل يكون مصدراً لرأس مال المشروعات الصناعية، وجعلت ثورة 1919 من توصيات اللجنة مطلباً وطنياً ملحاً ومنحت طلعت حرب دعماً سياسيّاً غير مشروط لتأسيس البنك، وكانت مساندة رجال الثورة للمشروع الوطني الكبير سبباً حاسماً في ميلاده قوياً.

بداية عظيمة ونهاية مؤلمة

اعتمد البنك في انطلاقته الأولى 1920 على نفوذه في وزارات تتسم بأهمية خاصة لأنشطته التجارية مثل المالية والزراعة والمواصلات، وصار يقدم وعوداً للوزراء بتعيينهم في مجالس إدارات شركاته عقب استقالتهم ونال مقابل ذلك دعماً سياسيّاً في مواجهة منافسيه مثل مجموعة شركات أحمد عبود، وكان هذا الدعم أحد أسباب النمو السريع للبنك، وهو ما سيدفع ثمنه في أواخر الثلاثينيات حين ثارت منافسات شرسة بين كبار الإداريين على التعيين في البنك.

22 أسس البنك أولى شركاته “مطبعة مصر” وبعدها بعام أسس الشركة “المصرية لإنتاج الورق” وكان تأسيس شركة “مصر لحليج الأقطان” 1924 الانطلاقة الحقيقية لما سمي بمجموعة شركات بنك مصر التي شملت شركة مصر للملاحة و”استديو مصر” والشركة الأهم شركة “مصر للغزل والنسيج” وشركة “مصر للكتان” وشركة “مصر لنسج الحرير” وشركة “مصر لمصايد الأسماك” وفي عام 1929 أنشئ بنك مصر – سوريا – لبنان.

وخلال سنواته العشر الأولى، زاد البنك رأس مال أسهمه من 80 ألف جنيه إلى مليون جنيه، وأسس 10 شركات مساهمة يصل رأسمالها إلى مليونين ونصف مليون جنيه.

في منتصف الثلاثينيات اتسع نشاط شركة “مصر للغزل والنسيج” لتصبح أكبر شركة من نوعها في الشرق الأوسط، ومنحتها حكومة إسماعيل صدقي دعماً سياسيّاً عزيزاً بفرضها تعريفات جمركية حمائية مكنتها من تحقيق أرباح طائلة، إلا أنّ ارتباط البنك الوثيق بحكومة مكروهة شعبياً وضعه في مرمى غضب الحركة الوطنية بالكامل، وعندما سقطت حكومة صدقي وجد البنك نفسه وجهاً لوجه مع حكومات غير صديقة بالمرة. كانت هذه إحدى الثمرات المرة للارتباط الدؤوب بين البنك والسلطة في ظل انقسام مجتمعي وترتيبات سياسية متحركة باستمرار.

ظلت القوة الدافعة للبنك كما هي بفضل الظروف الدولية المواتية ودهاء طلعت حرب وقدرته على الإمساك بخيوط السياسة الاقتصادية للبلد، ورغم الاتساع في أنشطة البنك وتأسيس عدد أكبر من الشركات في النصف الثاني من الثلاثينيات إلا أنّ شركتي “مصر للغزل والنسيج” و”مصر لصباغي البيضا” وحدهما من حقق أرباحاً، بل كانت شركة “مصر للطيران” عبئاً على البنك حين رفضت الحكومة دعمها.

معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا أسفرت عن إلزام مصر بتحمل كافة نفقات الدفاع عن نفسها، عقب انسحاب القوات الإنجليزية إلى قناة السويس، وكُلِّف البنك بالمساهمة في نفقات الدفاع الباهظة في وقت كان البنك مستمراً فيه بالتوسع في الممارسات الاقتصادية المشكوك فيها، ودعم شركات لا تحقق أرباحاً تُذكر، وحشد المساندة السياسية لها بتقديم قروض سخية لأعضاء البرلمان ممن كانوا يجدون صعوبة في تسديد ديونهم للبنوك الأجنبية.

اقرأ أيضاً: مشاركة إسرائيلية بمؤتمر اقتصادي في قطر

ومع ضعف الوضع الاقتصادي لمجموعة شركات بنك مصر، وتقدم طلعت حرب في السن، وتدهور وضعه الصحي، أصبح البنك في مرمى العديد من المؤامرات التي قادها حافظ عفيفي، الذي عُرف عنه أنه بريطاني أكثر من البريطانيين، وكان طامحاً في قيادة بنك مصر منذ أن عيّنه طلعت حرب مديراً لشركة مصر للتأمين 1934 بهدف تهدئة مخاوف بريطانيا من تنامي نفوذ الألمان داخل مجموعة شركات بنك مصر.

وبمجرد اندلاع الحرب العالمية الثانية، وجد بنك مصر نفسه في مواجهة المودعين الذي يطالبون باسترداد أموالهم، فحاول طلعت حرب الحصول على قرض كبير من البنك الأهلي الذي رفض إنقاذ البنك في لحظة حاسمة من تاريخه، فاضطر طلعت حرب أن يطلب من حسين سري، المقرب من البريطانيين ووثيق الصلة بأحمد عبود العدو اللدود لطلعت حرب، التوسط لدى البنك الأهلي للحصول على القرض إلا أنّ سري اشترط استقالة حرب الذي لم يكن أمامه سوى الإذعان، ليتولى حافظ عفيفي رئاسة البنك.

وكان أول ما فعله عفيفي هو الإطاحة بكل المديرين الذين عملوا مع طلعت حرب، وتحويل البنك من مؤسسة وطنية تتولى توفير رؤوس الأموال للمشروعات الصناعية والزراعية والتجارية إلى مؤسسة مالية تهدف لجني أكبر قدر من الأرباح، مع تصفية الشركات الخاسرة بدلاً من دعمها، وإتاحة فرصة أكبر للإثراء على حساب البنك من قبل المتنازعين على مناصب مجالس الإدارات.

 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
, ,
Read our Privacy Policy by clicking here