لإتحاد الاوروبي يخوض حربًا داخلية غير معلنة سينجم عنها إنهياره

إيهاب المقبل

أعلن وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر يوم الجمعة الماضية، أن المانيا قد توصلت إلى اتفاقا مع إيطاليا بشأن استعادة اللاجئين الذين يتم اعتراضهم عند الحدود الألمانية، واصفًا الهجرة على انها (أم جميع المشكلات في البلاد). وبتوقيت متزامن نشبَ سجال حاد بين وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني ووزير خارجية لوكسمبورغ جان اسلبورن، وذلك ضمن اجتماع لوزراء الداخلية الأوروبيين يوم الجمعة الماضية. وانتقد سالفيني فكرة اسلبورن عن حاجة أوروبا للمهاجرين بسبب شيخوخة سكانها، مما أثار رد فعل غاضب من اسلبورن. وقال سالفيني: (في لوكسمبورغ فقط توجد حاجة للهجرة… نحن في إيطاليا نحتاج أن نساعد الشباب على إنجاب الأطفال وليس الحصول على عبيد جدد كي يأخذوا مكانهم). وقاطعه اسلبورن بقوله: (جاء عشرات الآلاف من الإيطاليين إلى لوكسمبورغ كمهاجرين من أجل العمل كي يكون هناك مال لأطفالك). وختم بعبارة: (تبًا لك ما هذا الهراء). فرد عليه سالفيني: (يقارن أجدادنا المهاجرين بالمهاجرين غير الشرعيين… ويريد المزيد من المهاجرين ويصرخ تبًا!).

فتأمل معي، هذه الخلافات تحدث بين وزراء داخلية الإتحاد الاوروبي بصورة علانية! فماذا يحدث يا ترى خلف الكاميرات؟! في الواقع، يخوض الإتحاد الاوروبي حربًا داخلية غير معلنة سينجم عنها إنهيارًا داخليًا نتيجة سلسلة من التحولات أثناء محاولتهم تكييف سياستهم لتلبية المطالب المتنوعة. ولكي تكون الصورة واضحة للقاريء العربي، سأخذ مشكلتين واتعامل معهما بحيادية مجردة من العواطف وهما: (مشكلة الهجرة التي قتلت الإشتراكيين، ومشكلة الفجوة الإقتصادية التي اعتقلت الليبراليين)، واللاتي مكنتا حركات اليمين الشعوبية من الوصول بسلاسة إلى قاعات البرلمانات الاوروبية.

من الجانب الثقافي، يخشى معظم الاوروبيين من ملف الهجرة، وذلك لإنخفاض نسبة إنجاب الأطفال البيض مع شعر اشقر، مقابل زيادة تدفق المهاجرين إلى اراضيهم، ولاسيما المهاجرين الاسيويين والأفارقة، والمعروفين بولعهم في إنجاب الأطفال السمر والسود مع شعر أسود. تزداد مخاوف الاوروبيين في هذا الجانب في المانيا والسويد تحديدًا، حيث يُعرف كلا البلدين بقلة إنجاب الأطفال البيض للتوفيق بين العمل والمنزل. ومن الجانب الأمني، تشهد اوروبا زيادة في معدلات الجرائم، والتي يرتكبها مهاجرين واوروبيين على حد سواء جراء البطالة والفقر وتدابير التقشف والإنفلات الأمني، ولكن الغريب يلفت الإنتباه دائمًا، ولذلك يبرز المهاجرين في هذا الجانب أكثر من غيرهم في الإعلام الاوروبي كديك أسود وسط ديوك بيضاء. مثلًا، دراسة سويدية حديثة اظهرت ان 40% من المدانين بجرائم اغتصاب في السويد ولدوا في الشرق الأوسط وإفريقيا، وسرعان ما اصبحت الدراسة موضوع حديث بين السويديين، إلا ان معظمهم لم يتحدث عن النسبة الأكبر، وهي الـ60%، لانها ببساطة تشير إلى المدانين الاوروبيين. والمحصلة النهائية في ملف الهجرة انهم يريدون إنشاء مخيمات للمهاجرين على الحدود تدار من قبل مجموعة من البلطجية للتنغيص على عيشتهم كما قال رئيس وزراء الدنمارك لارس راسموسن. كما يريدون إستخدام سياسة التطفيش بدلًا من سياسة الهجرة والإندماج لدفع العائلات المهاجرة لمغادرة الإتحاد الاوروبي من تلقاء نفسها. وزيادة على ذلك، هناك نوايا واضحة من الأحزاب اليمينية الشعوبية للإنسحاب من اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، مما يعني تجريد اللاجئين من جميع حقوقهم القانونية، بما في ذلك اوراقهم الثبوتية ووثائق سفرهم وجنسياتهم المكتسبة.

اما مشكلة الفجوة الإقتصادية، فهي أهم من مشكلة الهجرة، حيث يدرك خبراء الإقتصاد في الإتحاد الاوروبي ان عملة واحدة، وهي عملة اليورو، لا تعمل عبر الإقتصادات المتباينة دون الحاجة إلى التحويل المستمر للاموال من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة في الإتحاد. ولذلك فان حجم الأموال التي يتعين على الإتحاد الاوروبي إنفاقها على الإقتصادات الأضعف ستكون أكبر بكثير مما هو عليه الآن جراء إنسحاب بريطانيا الغنية من الإتحاد الاوروبي العام الماضي. وسيؤدي هذا بصورة طبيعية إلى تجفيف التمويل للعديد من مشاريع الإتحاد الاوروبي، وإزدياد التلاسن بين فرنسا والمانيا حول مستويات المساهمة. يقول المستثمر الملياردير الامريكي جورج سوروس في مقالة مشروع نشرها اواخر مايو ايار ٢٠١٨ بعنوان الإتحاد الاوروبي غارق في أزمة وجودية: (الاتحاد الأوروبي على حافة الانهيار. الإتحاد الأوروبي في خضم أزمة وجودية، وقد يتوقف عن الوجود… قد تمر إيطاليا بأزمة سياسية كبيرة قادرة على إخراجها من منطقة اليورو، وبالتالي نهاية المشروع). ومن جانبه، توقع المؤرخ البريطاني والمعلق السياسي نيال فيرغسون مستقبلًا مروعًا للإتحاد الأوروبي، وشبهه بإنهيار الإمبراطورية الرومانية، وما نجم عنه من فوضى وخراب ودمار. ووفقًا لتحليلاته، فإن الإتحاد الاوروبي ضعيف جدًا لمواجهة التحديات الوشيكة للسنوات القادمة من أجل البقاء، ويقول: (الإتحاد الأوروبي هو أضعف القوى العظمى في مواجهة إمبراطورية الولايات المتحدة وإمبراطورية الصين). ويضيف: (صعود النزعة الشعوبية إلى السلطة يعني فقدان سلطة الأحزاب التقليدية التي دعمت تاريخيًا الإتحاد الأوروبي).

والاوروبيون عامة يعيشون حياتهم اليومية ضمن فلسفة المنفعة، فالمواطن العادي يفكر بما يجنيه من الإتحاد الاوروبي. ويدرك الثعلب البريطاني جيدًا هذه الفلسفة، ولذلك قرر الإنسحاب سريعًا من الإتحاد الاوروبي. وتتلخص اسباب انسحاب بريطانيا من الإتحاد الاوروبي العام الماضي الى العديد من العوامل، منها ان بريطانيا تتكفل سنويًا بضخ الأموال إلى جميع أنحاء اوروبا لضمان فرص متكافئة للدول الأكثر فقرًا في الإتحاد الاوروبي بميزانية سنوية تزيد عن 11 مليار يورو (17 مليار دولار). فعلى سبيل المثال وليس الحصر، فمن واجبات بريطانيا وفرنسا والمانيا – وهم العمود الفقري المالي للاتحاد الاوروبي – ضخ الاموال المحلية لمساعدة اليونان وبولندا وايطاليا لبناء وتشييد الطرق الجديدة مما زاد العبأ عليهم اقتصاديًا نحو تطوير مساحة الإتحاد الاوروبي، والتي تبلغ 3975000 كم². وبعبارة اخرى، فالامكانيات الاقتصادية لبريطانيا والمانيا وفرنسا لا تتناسب افقيًا مع المساحة الكبيرة للاتحاد الاوروبي. وزيادة على ذلك، تعرقل عضوية الإتحاد الاوروبي العلاقات التجارية خارج الاتحاد مما كبد الاقتصاد البريطاني خسائر كبيرة جراء عدم قدرتهم استيراد بضائع من الاسواق الصينية واليابانية بسبب الحجم الكبير للضريبة المفروضة على الاستيراد من خارج الاتحاد الاوروبي. فعلى سبيل المثال، الدولة العضو في الاتحاد الاوروبي ملزمة فعليًا بشراء تلفاز الماني بسعر 500 يورو، في حين ان سعره في اليابان لا يزيد عن 400 يورو للدول غير المرتبطة بالاتحاد الاوروبي، ويصبح سعره 520 يورو للدول المرتبطة بالاتحاد الاوروبي بسبب الضريبة. والهجرة هي الاخرى سبب لقرار انسحاب بريطانيا من الإتحاد الاوروبي، حيث يتواجد في بريطانيا نحو 14 مليون عامل من جميع انحاء دول الإتحاد الاوروبي، مما ادى إلى تفشي البطالة داخل المجتمع البريطاني جراء الاجور المنخفضة التي تتلقاها العمالة المهاجرة مقارنة مع الاجور المرتفعة للعمالة البريطانية. فضلاً الى الهجرة الاسيوية والافريقية إلى بريطانيا، والتي تمر عبر الاراضي اليونانية او الاراضي الاسبانية من دون عوائق حقيقية بغية التخلص منهم وتخفيف العبأ على الاقتصاد اليوناني والاقتصاد الاسباني. ولقد أظهرت تجربة البريطانيين في الإنسحاب من الإتحاد الاوروبي أن التكيف يتطلب البراغماتية، أي الربط بين النظرية والتطبيق، على الرغم من ان البراغماتية ليست شيئًا يشتهر به الإتحاد الاوروبي، إلا ان هدف البريطانيين على ما يبدو تشجيع جميع الأطراف على الإستقلال الصريح، وهو ما يحدث اليوم من إنهيار تدريجي للإتحاد الاوروبي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here