سأقضي جميلا كبجعة راحلة تحت شمس الغروب : قصة قصيرة

بقلم مھدي قاسم
بینما كان یقترب بخطوات واسعة كأنما ھروبا من ضجیج العالم ـــ فیقترب من غابة كثیفة و كبیرة، تقع مترامیة خلف تلال بعیدة ، في حین كان قرص الشمس یمیل شیئا فشیئا نحو الغروب المشوب والمزدان بمسحات قرمزیة وبرتقالیة ضاربة إلى احمرار مشع بومیض منشطر كأعمدة مزخرفة ومھشمة ، مضیئة و ساطعة ، وھو یلقي نظراتھ الحنونة والودیة على الأشیاء المحیطة و كأنھ في حالة وداع أخیر … تذكر أنھ كان یعاني دوما ضروبا من أمراض و حالات فقر وعوز تثقل كاھلھ یوما بعد یوم وخاصة افتقاره إلى فرص عادلة ، وجد أنھ لشيء عبثي و غیر طائل حقا الخوض في أمور العدالة الأرضیة أو السماویة ، أو البحث عن سبب حقیقي كامن وراء ذلك .. فتكفي القناعة والخبرة الحیاتیة بعدم وجود العدالة و خلاص ..والعیش مع قناعة أخرى أكثر صدقا و قربا للواقع إلا وھو أن الإنسان في نھایة المطاف ضحیة مصیره المفجع وكذلك بیئتھ و ظروف أزمنة وأماكن ولادتھ ونشأتھ ، أن حالفھ الحظ في أن یولد في بیئة تعطي لھ فرصا للارتقاء بإمكانیاتھ الذھنیة مع ّ عیش كریم و توفرحولھ من أمور ما تمنحھ صحة وعافیة و تعاطفا حمیمیا من قبل بیئتھ ، تعاطف إنساني صادق و حمیم یشعره بإنسانیتھ المھدورة حالیا .. أوفي بیئة أخرى تجعلھ یعیش میتا محتضرا محروما من أبسط مسرات الحیاة .. ولكنھ رغما على إرادتھ و خیاراتھ ّ المعدومة قد ولد في ھذه البیئة الرثة والقاسیة ذات مشاعر متحجرة وقلوب مسودة كمدخنة منخورة و عتیقة لا تنفث غیر دخان عقائد شرسة وغبار كراھیات مزوقة بمقدسات وحشیة ، تعشعش بین تلك القلوب الخاویة إلا من قسوتھا ، التي أرحم منھا حتى قلوب بعض الحیوانات الألیفة .. ففي النھایة لیس من ندم فادح أو من خسارة ماحقة ، لو رحل بشكل نھائي عن ھذا العالم الموحش و البارد الذي أضحى أكثر خواء ووحشة حتى من صحارى بعیدة ومنسیة ، بالرغم من كونھ بات عالما حاشدا و ممتلئا بعشرات ملایین من بشر جدد یجتثون الطبیعة كأسراب جراد نھمة !.. فتضطر الطبیعة أن تنتقم لنفسھا عبر أعصار وموجات تسونامي شاھقة كقمم جبال ، وھزات أرضیة عنیفة تحیل المدن أنقاضا . ولكن من یعلم ؟..
فإذا رحل ، وھو یشعرأنھ موشك على ذلك قریبا جدا ، ربما سیكافئ ھناك عن معاناتھ و سوء حظھ الحالي ، ولكن لو لم یكافئ ـــ فھذا ھو الأرجح لعدم وجود شيء من ھذا القبیل حسب اعتقاده ـــ فأنھ سیرقد وإلى الأبد مرتاحا و بھدوء و سكینة ، فلیس من ثمة قلق أو اضطراب أو لھاث وراء سلطة و مال و جاه و مجد أو أوھام غیبیة ، و حیث ستتوقف معاناتھ و رغباتھ بشكل نھائي ، وھو ، أن حدث ، فلن یكون في وضع بشري مفجع ، مثلما الآن .. سیتوقف كل شيء نھائیا و إلى الأبد . بالمقارنة مع حالة عیش كأنما میتا ومحفوفة بشتى معاناة ومشاعر إحباط و یأس وفي وسط أناس جشعین وغیر مكترثین إلا بأنفسھم فقط كبھائم غیر مبالیة .. و بینما ھو یأخذ مكانھ تحت شجرة معمرة كثیفة الأغصان والفروع ، صاغیا إلى اصوات طیور تتنادى بعضھا بعضا أو تحتفل بشمس الغروب وھي تتتوھج بین أغصاب تتلاعب بھا ریح كسولة ــ بزقزقتھا المموسقة والخلابة بینما ثمة سناجب تتقافز مبتھجة و راضیة أو تقتات حولھ دون خوف أو وجل منھ ، فقد اكتشف أن كل ھذه الجمال الساحر و الروعة المدھشة التي تمنحھما أمنا الطبیعة لنا بدون مقابل لھي أجمل ، أغنى من كل أموال و كنوز الدنیا المادیة ، وإذا من أجل لشيء ، فالأقل من أجل ھذا یجدر العیش طویلا و بھیجا ، فكم تمنى أن ینھض و یرجع عائدا إلى البیت ، بعدما شحن روحه بجمال الطبیعة الخلابة ، غیرأنھ وجد أن قوتھ قد أضحت واھنة ، و نبضات قلبھ مضطربة ، فأسند ظھره على الشجرة المعمرة و الوطیدة و أغمض عینیھ حیث ثمة ابتسامة أضاءت أساریر وجھھ ، كأنما تعبیرا عن رضا و سلوان ، ثم مالت رأسھ متدلیة على كتفھ ، كبجعة سعیدة تمضي إلى حتفھا مسربلة بشمس الغروب القانیة

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here