لماذا يستمر تجاهل جرائم قتل المتظاهرين والسكوت عليها ؟

د. كاظم المقدادي
شهدت الأعوام الثمانية الأخيرة في العراق في ظل سلطة الأسلام السياسي عودة الممارسات القمعية، كالمداهمات الليلية، والإعتقالات دون أوامر قضائية، والإختطاف، والتغييب، وإخفاء مصير المختطف، وإنتزاع التعهدات،الى جانب التعذيب الوحشي، والتصفيات الجسدية، في أقبية الأجهزة الأمنية،التي مارسها النظام البعثي الفاشي المقبور بحق المعارضين له طيلة أربعة عقود.وبلغت الممارسات الراهنة في العراق (الجديد) حد إطلاق الرصاص الحي وقتل المتظاهرين السلميين المطالبين بأبسط حقوقهم المشروعة..
ويبدو ان من بين المسؤولين المتنفذين والأجهزة الأمنية والأحزاب الحاكمة ومليشياتها المسلحة، ثمة من يريد ويسعى جاهداً لجعل الممارسات القمعية الإجرامية جزء من المشهد السياسي والإجتماعي الراهن، حفاظاً على السلطة والثروة والنفوذ من أي تهديد ..
هذا النهج جسده نوري المالكي خلال أعوام 2010-2014، معتبراً كل من يتظاهر ويحتج على سوء الخدمات والفساد الإداري والمالي هو عدو لسلطة حزبه (الدعوة)، وهو الذي أعلنها جهاراً نهاراً “أخذناها وبعد ما ننطيها!”..ومن هذا المنطلق الصلف مارست حكومته ضد المتظاهرين السلميين المطالبين بتحسين الخدمات والظروف المعيشية،شتى أنواع العنف المفرط، وإختطفت العديد منهم وأخفت مصيرهم لحد اليوم، وإغتالت العديد من نشطاء المظاهرات،وعرضتهم الى تعذيب وحشي، وإنتزعت التعهد بعدم التظاهر مرة أخرى من متظاهرين عديدين
ذات النهج سار عليه حيدر العبادي (وهو أحد قادة حزب الدعوة) وتطور في عهده،بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين من قبل الأجهزة الأمنية والمليشيات المسلحة، فسقط منذ تموز 2018 ولحد الآن أكثر من 58 شهيداً وأصيب أكثر من 460 مواطناً بإصابات وجروح بليغة، وتم إعتقال المئات من المتظاهرين السلميين،عبر مداهمات ليلية، وإخفاء مصير العشرات منهم.وقد تم العثور على جثامين متظاهرين في مناطق بعيدة عن مدنهم عقب إختطافهم، مثل الشهيد أحمد الحلو الذي إختطف في النجف وتم العثور على جثمانه بعد أسابيع في منطقة الزعفرانية جنوب شرق بغداد.
وفي البصرة وحدها،التي إنطلقت منها شرارة الإنتفاضة الجماهيرية في تموز الماضي،ومازالت مستمرة، أكد مكتب مفوضية حقوق الإنسان، في أحدث إحصائية له، إستشهاد 20 مواطناً وأكثر من 300 جريحاً سقطوا خلال التظاهرات التي شهدتها البصرة مؤخراً، وإعتقال نحو 120 مواطناً،تم إطلاق صراح 20 منهم بعد إحبارهم على التعهد بعدم التظاهر مرة أخرى، وتم الإعتداء عليهم بالضرب وبأساليب لا إنسانية منافية للقوانين وللدستور العراقي..
وما تزال تشهد البصرة عمليات مداهمات واسعة لإعتقال المتظاهرين السلميين،خاصة من نشطاء الحركة الإحتجاجية الشبابية، تُذَكِرناُ بمداهمات وإعتقالات الأجهزة القمعية للنظام الكتاتوري البعثي المقيت، عقب سحق الإنتفاضة الشعبية في اَذار 1991..
وأكدت مجموعة تتألف من 16 منظمة من منظمات المجتمع المدني من مختلف المحافظات العراقية،في بيان مشترك لها، قيام قوات تابعة لوزارة الداخلية بحملة إعتقالات عشوائية طالت المئات من الناشطين الشباب في محافظة البصرة على خلفية الإحتجاجات الأخيرة هناك.وأستندت المجموعة على شهادات أدلى بها ناشطون ومواطنون من البصرة، فضلآ عن معلومات وردت من مصادر خاصة موثوقة، تفيد بان خلية “إستخبارات الصقور” التابعة لوزارة الداخلية هي من تنفذ المداهمات والإعتقالات وتجري التحقيقات وتقوم بتعذيب المعتقلين لإجبارهم على توقيع إفادات منافية للواقع ولكل ما موثق لدى منظمات المجتمع المدني. وإتهمت المجموعة قيادة عمليات البصرة وقوات سوات بقتل المتظاهرين وتعريض المعتقلين منهم للتعذيب في مقر قيادة عمليات البصرة، وهو ما حصل مع الشاب حارث منعثر..
الملفت بأنه لحد اليوم لم يُحاسب المالكي على مسؤوليته الجنائية ، بوصفه رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، عن إختطاف وتغييب وقتل العديد من قادة الحراك الإحتجاجي الجماهيري. وهو الذي كان قد صرح علناً بـ ” أنه المسؤول الأول في الدولة ” .. ولم يُحاسبُ أيضاً لا وزير داخليته ولا قائد العمليات ولا قائد قوات سوات، وغيرهم من الذين يتحملون المسؤولية عن تلك الممارسات المخالفة للقانون والدستور.. مثلما لم يُحاسبُ المالكي ورهطه على هدر أكثر من ألف مليار دولار من أموال الشعب عبر الفساد الإداري والمالي، ولا على تسليم نحو ثلث الأراضي العراقية للدواعش، ولا على مجزرة سبايكر.. وغير ذلك الكثير..

ولم تحاسب لحد الاَن حكومة تصريف الأعمال ورئيسها العبادي،بوصفه القائد العام للقوات المسلحة،على مسؤوليته الجنائية عن قتل المتظاهرين بالرصاص الحي، والتعذيب الوحشي للمعتقلين من المتظاهرين السلميين، وإخفاء مصير العشرات منهم في أقبية الأجهزة الأمنية، بأوامر منه أو بأوامر من مرؤوسيه.. وكذلك لم يُحاسبُ لا وزير الداخلية، ولا قائد عمليات البصرة، ولا قائد قوات سوات،ولا غيرهم من المسؤولين المباشرين عن إعتقال وتعذيب وإختفاء وقتل المتظاهرين السلميين..

فلماذا ؟!!.. هل ان هؤلاء المسؤولين هم فوق القانون؟!!..

على الصعيد ذاته، تجد ان جميع الجهات المعنية بالأمر وقفت تتفرج ولا تحرك ساكناً على السياسات القمعية التي إزدادت شراسة وإستهتاراً في إراقة المزيد من الدماء وإستباحة حياة المزيد من المواطنين، وجلهم من شباب العراق!..وقد انتشرت في محافظة البصرة خلال الاشهر الاخيرة حالات الاغتيال لناشطين وشخصيات مدنية لمشاركتهم في التظاهرات التي اجتاحت المحافظة، بسبب تردي الاوضاع الاقتصادية وانتشار البطالة ونقص الخدمات- الماء الصالح للشرب والكهرباء وتردي الرعاية الصحية..واَخر جرائم الإغتيالات هي إغتيال الناشطة المدنية الحقوقية د. سعاد العلي، داخل سيارتها في منطقة العباسية وسط البصرة،عصر يوم الثلاثاء 25/9/2018 والشهيدة هي أم لأربعة أطفال، ومعروفة بدعمها لمطاليب المتظاهرين ووقوفها ضد الفاسدين.
والفقيدة العلي ليست الوحيدة التي تم اغتيالها بغدر، وإنما سبقتها عمليات اغتيالات جبانة طالت المحامي جبار كرم، الذي كان يدعم المتظاهرين السلميين،إضافة الى نشطاء مدنيين ومتظاهرين عديدين، كرد فعل انتقامي من المتنفذين الفاسدين والفاشلين والإنتهازيين. ويتوقع المحللون إستمرار مسلسل الأغتيالات للناشطين المدنيين لبث الخوف والرعب وسط المتظاهرين والمحتجين الشباب لكي لا يشاركوا في المظاهرات وللحد من زخمها ،وبالتالي قطع الطريق بوجه التغيير الجذري في أدارة سدة الحكم..

وإستطراداً، لابد من الإشارة الى ان الكثير من المسؤولين الحكوميين والحزبيين وقادة المليشيات المسلحة، زعموا، مراراً وتكراراً، بان الدم العراقي “محرم ” ، وأنه ” خط أحمر” لكونه ” عزيز” عليهم ، ولن “يسمحوا” بسفكه، ولا بـ “إستباحة ” حياة العراقيين.. لكن جميع هؤلاء أثبتوا بأن مزاعمهم ما هي سوى كلام لا أساس له في الواقع. والدليل الساطع هو صمتهم على قتل المتظاهرين السلميين المطالبين بحقوقهم المشروعة من قبل الأجهزة الأمنية والمليشيات المسلحة.. وكأن من تم قتلهم بالرصاص الحي “ليسوا عراقيين”، أو ان دماء الشهداء المتظاهرين ” ليست ” دماء عراقية محرمة !!

وإرتباطاً بذلك،لا نغالي إذا قلنا بأن من سفكوا الدماء الطاهرة أرادوا إيصال رسالة مفادها ان التلاميذ النجباء لنظام البعث الفشي المقبور،من المشمولون بـ ” الدمج”، الذين أعادهم المالكي الى وظائفهم وسلمهم مسؤوليات خطيرة، ومن ” فدائيي صدام” في المليشيات المسلحة،الخ.. هم: أحياء يرزقون، وباقون على العهد، ولهم دورهم في المشهد السياسي الراهن..

المؤكد ان الشبيبة المنتفضة في محافظات جنوب ووسط العراق قد أغاضت جداً الأحزاب الأسلاموية المتنفذة، بكسرها لجدار الخوف منها ومن مليشياتها المسلحة،بل وأرعبتها بأنها ستخسر السلطة والنفوذ والأمتيازات، ولذلك إعتمدت في مواجهة المتظاهرين والمحتجين أبشع الأساليب، بما فيها الإجرامية والخبيثة، الغادرة والجبانة..فإضافة الى القتل بالرصاص الحي،الذي وجهته في اَن وحد للمتظاهرين ولأفراد من قوات الأمن، لخلق الفتنة، بثت المندسين والمخربين والمجرمين المطلق سراحهم من السجون، الذين أشعلوا الحرائق وإعتدوا على المؤسسات والمباني الحكومية والحزبية، وعلى القنصلية الأيرانية.وإتهمت عبر أبواقها المأجورة المتظاهرين بـ”الإندساس” و”التخريب”،وإنطلت على رئيس الحكومة ورددها في إحد مؤتمراته الصحفية الأسبوعية.. مع ان تنسيقيات الشبيبة المنتفضة في البصرة أدركت المؤامرة المدبرة، فقررت لحظتها وقف التظاهر مؤقتاً، وأعلنت دخول الأحزاب المتنفذة ومليشياتها على الخط وحولت ساحات التظاهر الى ساحة صراع فيما بينها..وقد نشرت وسائل الإعلام بالصورة والصوت كيف أسعف المتظاهرون أفراد من القوات المسلحة الذين تأذوا بالرصاص الحي والغازات السامة في ساحات التظاهر.وأكد ضباط وجنود وأفراد من الشرطة،بالأضافة الى شهود عيان مدنيين، بان بعض حرائق مباني المحافظة قد نشبت وإلتهمت النيران أجزاء كبيرة منها قبل وصول المتظاهرين إليها..وألقت قوات الأمن القبض على قناص يطلق الرصاص على قوات الأمن من على سطح بناية المحافظة ، وإعترف بأنه ضابط دمج.وقد نشر فيديو يوثق ذلك.. وفي اليوم التالي من توقف المظاهرات خرج عشرات المتظاهرين الشباب لتنظيف الساحات والشوارع من النفايات، كي لاتضاف ملوثاتها لمياه الشرب الملوثة بالسموم..وقد تم إعتقال العديد منهم فيما بعد، ولليوم مصيرهم مجهول..

فالمجد لهؤلاء الشباب الأبطال والنشامى الذين هم مفخرة الجماهير المطالبة بحقوقها المشروعة المهدورة !

والخزي والعار لحكومة تقتل مواطنيها المتظاهرين السلميين، وتتسترعلى المجرمين القتلة !

وبئساً لقضاء وإدعاء عام تجاهلا قتل المواطنين الأبرياء العزل المتظاهرين سلمياً والمطالبين بحقوقهم المشروعة !

وتباً لمجلس نواب لم يحاسب رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، ولا وزير الداخلية،ولا قائد عمليات المحافظة، ولا قوات سوات، الذين أصبحوا فوق القانون وإقترفوا الجرائم بحق المواطنين.

وتذكيراً..لقد وقف مجلس النواب في دورته السابقة موقفاً مخجلآ ومخزيا من المتظاهرين السلميين المطالبين بحقوق مشروعة.. بينما كان همه الرئيس تقاسم المناصب والمغانم.. وذهب غير مأسوفاً عليه.. فهل سيقف مجلس النواب الجديد موقفاً مغايراً، فيكون في خدمة الشعب حقاً وفعلآ، ويثبت ذلك من خلال تشريع قانون يكفل حقوق الشهداء وعوائلهم، واَخر ينصف المحتجين السلميين، وثالث يحاسب بموجبه كل المسؤولين، دون إسثناء، عن إعتقال وتغييب وتعذيب وقتل المتظاهرين السلميين،خلال الأعوام المنصرمة..وبذلك يكون مجلس النواب ممثلآ حقيقياً للشعب،لا يفرط بحق الشهداء ويحاسب المجرمين القتلة ومنتهكي حقوق الإنسان؟

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here