ثانيةً في بيروت 1966

عدنان الظاهر

دخلنا شهر حزيران عام 1966 فجاءتني من الأهل رسالة يقترحون فيها أن نلتقي في لبنان وسوريا فوافقت على الفور، وكم كنتُ مشوقاً أن أسمع مثل هذا الإقتراح. سيّما وقد وعدت الوالدة في لحظة فراقنا في بيروت صيف العام المنصرم أن نلتقي ( إذا بقينا طيبين ).
سارعتُ على عجل لأحجز لي مكاناً في الباخرة السوفياتية التي سوف تقلّني من ميناء
( أوديسا ) على البحر الأسود إلى بيروت، كما فعلت العام الماضي. قدّمت الطلب الأصولي إلى السيدة ( زويا بتروفنا ) للسماح لي بمغادرة أراضي الإتحاد السوفياتي والعودة إليه، أي طلب تأشيرة خروج وعودة، كما كانت تقتضي التعليمات المتبعة. كما قدّمتُ لها طلباً خطياً آخرَ أرجو فيه حجز مكان لي للإصطياف لمدة أسبوعين على البحر الأسود سويةً مع تذكرة السفر إلى هناك بالطائرة. إبتعتُ بعض الهدايا البسيطة المصنوعة من الكهرب أو الخشب المزخرف وما شابه ذلك. كنتُ أوائل شهر تموز جاهزاً للسفر تماماً.
وصلت الباخرة ميناء بيروت أوائل الأسبوع الثاني من هذا الشهر فكانت والدتي في إنتظاري على رصيف الميناء وكانت معها شقيقتي ( نجاة ) وإبنة شقيقتي الأخرى ( سميرة ) وإبن العم ( حمزة داوود السلمان ). هذا هو العيد الأكبر. جاء الأهل وجاء العراق بأكمله معهم شماله ووسطه وجنوبه ورافداه ونخيله. جاءت معهم وفيهم طفولتي ومدارج فتوّتي وصباي. جاءت معهم المدرسة الشرقية الإبتدائية للبنين ومتوسطة الحلة ثم ثانوية الحلة للبنين.لم أصدّق ما أرى. أين الوالد وأين بقية أشقّائي ؟ لم تسمح لهم الظروف السائدة يومذاك على مغادرة العراق. أعيادٌ وأعياد، سواء في بيروت أو في سوريا. في دمشق يكون المكان المفضّل للوالدة هو مرقد السيدة زينب. أما في بيروت فأنسب مكان لإبن العم السيد حمزة هو ساحات سباق الخيول.كان الرجل ( ريسسجي ) من الطراز الأول. خسر هناك معظم ما حمل من نقود فأضطر إلى العودة إلى العراق قبل باقي الأهل.
زرنا ونحن في دمشق الجامع الأموي ومصيف ( الزَبَداني ) و ( دُمّر ) و ( الهامة ) وتناولنا الشاي في بعض مقاهي جبل قاسيون المطلّة على دمشق. كما إغتسلت بماء مجرى نهر بردى حيث كان الماء فيه شحيحاً. في دمشق أكلت أكلة ( الشاورما ) فكدت أن أموت من حالة تسمم حاد أنهك جسدي إسهالاً وتقيّؤاً. تواطأ صاحب الفندق مع جاره صاحب المطعم فتظاهر أنه طلب سيارة إسعاف لإنقاذ حياتي. كان يدير أرقام تلفونه لكننا
ما كنا ندري مع من يتكلم ولا بأي موضوع كان يتكلم. طال الإنتظار فطلبت من شقيقتي أن تشتري لي وعلى وجه السرعة كمية كبيرة من الليمون الحامض واللبن الحامض الثخين وأن تجهز لي شاياً ثقيلاً بدون سكّر. قدّمت لي كؤوس عصير الليمون وصحون اللبن وأقداح الشاي فتحسنت حالتي وتوقف القيء والإسهال تدريجياً. هل يحدث مثل هذا في مدينة أوربية مثلاً ؟ لماذا يحدث في دمشق ومع مواطنين من الجار الشقيق العراق ؟ كيف سكت كالشيطان الأخرس صاحب الفندق وهو يرى الموت مني قاب قوسين أو أدنى ؟ ظهرت بعد ذلك مباشرةً آثار حمى قوية جداً نتيجةً لإرتفاع درجة حرارة الجسم وقوّة الفايروس الذي أصاب الجهاز الهضمي. إنتشرت بثور كبيرة حول الفم وتحت أنفي وبقيت لمدة طويلة تسبب لي حرجاً وآلاماً مبرّحةً. أقسمتُ أن لا أرى دمشقَ ثانيةً.
سلوى
في بيروت عرّفتني شقيقتي على فتاة عراقية جاءت للإصطياف مع شقيقتها وزوج شقيقتها
وأحد أطفالهم.كنتُ محظوظاً بهذه المعرفة غير المتوقعة. فلقد كانت ( سلوى ) بمثابة أهلي بعد أن غادروا بيروت عائدين إلى العراق. كنّا نقضي معظم أوقاتنا معاً في بيروت نهاراً وفي مصيف ( بحمدون ) الدُرزي أو في مصيف ( عالَيْ ) الماروني مساءً. نتسوق من هنا ومن هناك ونتمشى في الشوارع وكان الإنسجام عالياً بيننا. كنت أرى شقيقتي في وجهها وكانت تراني لها أخاً وتجد فيَّ حصناً ودرعاً واقياً خاصةً بعد أن زرت بقية أفراد عائلتها في فندق إقامتهم في ( بحمدون ). أطمأنّت العائلة لي وسمحوا لها أن ترافقني نهاراً وفي الأماسي. في بيروت كانت تبحث عن محل لبيع الكتب معروف ولم تبين السبب. وجدناه أو إهتدينا إليه فوجدنا فيه شاباً أسمر البشرة. حيّته فأجاب ببرود.لم ينهض لمصافحتها ولم يسألها عن سبب وجودها في بيروت ولا مع من جاءت. عرّفته عليَّ فكان قليل الإكتراث. قالت لحظة أنْ تركنا المكتبة إنه إبن خالتها. ترك العراق للعمل في الكويت. ما سر بروده وعدم إكتراثه ببنت خالته التي فارقها لعدّة سنوات ؟ ما كان سبب إصرارها أن تراه وكيف عرفت المكان الذي يتردد إليه حين يأتي بيروت قادماً من الكويت ؟ لماذا ترك العراق وهل كان الدافع سياسياً وقد وقعت في العراق أحداث وأحداث مثيرة وتقلّبات سياسية لا حصرَ لها ؟ جائز، ولكنْ ما شأني وكل هذه الأمور المعقّدة التي لا تمسني لا من قريب ولا من بعيد ؟ حين إبتعدنا قليلاً عن مبنى المكتبة لاحظت آثار إمتعاض شديد بادية على وجهها فأصبح أكثر توردّاً تحت شمس بيروت الساطعة. كما إتقدت عيناها بمزيج من الحقد والكآبة خالٍ من أي أثر للدموع. جففت حرارة الغضب ولهيب الإنفعال دموع عينيها. حين عبرنا الشارع قرّبت ذراعها شبه العاري من ذراعي، ثم غدا هذا الأمر عادياً تكرره كلما أُضطررنا إلى عبور شارع أو الإنتقال من محل إلى آخر للفرجة أو التسوّق. بل كانت أحياناً تضع كفّها في كفي أو أن تقودني من ذراعي وقت عبورنا الشوارع أو إختراق الزحام أو دخول مقهى أو مطعم. لا تمثّل لي هذه الظاهرة أي أمر ذي شأن ولكن، قد يكون لها مغزى بالنسبة لسلوى، الفتاة التي جاءت من بغداد.كانت في الثلاثين من العمر تمتهن التعليم في إحدى مدارس بغداد للبنات. نشأت في عائلة ميسورة الحال ومتحررة بعض الشيء. في إحدى زياراتي لها في ( بحمدون ) إقترحت أن نقوم بجولة تمشي وبصحبتنا إبن أختها الصبي ( مُنقذ ).لم تفارق يد هذا الطفل يدي. كان مأخوذاً بي وما كنت أعرف السبب. إزداد تعلقه بي بعد أن غنيتُ له أغنية روسية كنتُ أحفظها وأستطيع أداءها بشكل جيد. وكان يطلب المزيد من الغناء بالروسية. سحرتني براءة هذا الطفل وسرعة تعلّقه بي فسألتُ خالته عن السبب. قالت لا عَجَب. ( مُنقِذ ) هو وحيد أبويه. يريد له أخاً أو صديقاً يتبسط معه ويُسلّيه. يقضي والده معظم وقته في مكتبه للمحاماة. يأتي بيته ليلاً مُتعّباً فلا يجد متَسعاً من الوقت كي يلاعب طفله البالغ من العمر ثمانية أعوام. جلسنا ثلاثتنا في أحد مقاهي ( بحمدون ) وأكلنا الفطائر المحشوّة بالجوز وتناولنا الشاي. تركنا المقهى رغم توسّلات ( منقذ ) أن نظل في المقهى لفترة أطول. رافقتهما حتى مدخل الفندق وإفترقنا على أن نلتقي في بيروت صباح اليوم التالي. جاءت صباح اليوم التالي إلى فندق إقامتي في الوقت المحدد نشيطةً كما هي دوماً وجميلة رشيقة تتوهج منها الثقة العالية بالنفس دون غرور الحمقاوات وأنصاف المتعلمات. ما كانت ثقيلة عليَّ وما كانت رخيصةً سواء في سلوكها أو في تفكيرها أو في ردود أفعالها.كان أثر تربيتها البيتية وبناؤها العائلي المحكم أكثر من واضحين على هذه المرأة الشابة. أرادت أن تُبعِد عني الظنون المتوقعة بشأن علاقتنا فقالت لي ( أنا أكبرُ منك ). أكبرتُ فيها هذا النَفَس الإنساني العالي والترفع عما قد يسيء إلى سمعتها وسمعة عائلتها. وضعت بذلك جداراً بيننا عازلاً من الكونكريت المُسلّح كنتُ أنا بالأحرى بأمس الحاجة إليه. هل هي نسخة ثانية من ( عايدة ) الأرمنية ؟ كلاّ. تلك كانت تروم زواجاً ثم بقاءً في حِمى وطنها أرمينيا.
مرّت كل هذه الأفكار في رأسي بإلحاح شديد. فقبل عام كنت هنا في بيروت ضيفاً على عائلة لبنانية أرمنية. ثم ساقت الصدف العمياء فتاة من أرمينيا السوفياتية لتكون جارتي في القسم الداخلي. هل أسميه ( عام الأرمن ؟ ). شاب أرمني منشق يروم مغادرة وطنه القومي أرمينيا والإتحاد السوفياتي. وفتاة أرمنية تريد مني أن أبقى معها أُشاركها وطنها الأم أرمينيا. ما كنتُ مسيحياً ولا أرمنياً ولا مواطناً سوفياتياً. ما الذي يجمع النساء ؟ ما هو الشيء المشترك بينهنَّ ؟
كانت ( سلوى ) ساحرة وخبيرة في شأن النفس البشرية. كانت دوماً قادرة على قراءة ما
يجول وما يدور في رأسي من خواطر وأفكار ومشاريع وتحفظّات مستورة أقفل عليها بأختام الأسرار الباطنية العميقة الغور. سألتني إذ كنّا نتمشى في شوارع منطقة الحمراء : هل أكملتَ شراء هدايا صديقاتك الروسيات ؟ فوجئت حقّاً بهذا السؤال وتساءلتُ فيما إذا كانت صاحبتي تغار عليَّ من سواها من نساء العالمين ! فيمَ الغيرة وقد عزلتنا هي عن بعضنا بجدار عالٍ من الخرسانة المسلّحة ؟ ماذا تعني ( أنا أكبرُ منك ) ؟ كنت فعلاً قد أكملت شراء بعض الهدايا لصديقتي الجديدة ( زويا ) الطالبة في كلية علوم الحياة ( البايولوجي ) في جامعة موسكو. لم أشأ أنْ أُحدّثها عن هذه الصديقة ولا أحسبها كانت بحاجة إلى سماع أخبارها. كما إني لم أقصصْ عليها قصة الأرمنية ( عايدة ) ولا حكايتي مع الأرمني ( جورج ) وزيارتي لشقيقته في ( برج حمّود ) في مثل هذا الوقت من العام الماضي. كانت تدور مثل كوكب سيّار حول فلكها الخاص. ما كانت تهتم بشؤون الآخرين ولا تدنو منها أبداً. عالمها عالم غريب فريد.
بعد أنْ أنهينا تجوالنا في منطقة ( الحمراء ) وأسواقها العامرة ومحلات الحلوى والمرطبات الشهيرة بجودتها قالت ( سلوى ) إنها قد أعدّت لي مفاجأة سارّة. خيراً إنشاء الله ؟ قالت سنكون مساء اليوم ضيوفاً لدى سفير الكويت السابق في بغداد وعائلته. سنزورهم في بيتهم الواقع في إحدى ضواحي مصيف ( عاليْ ) على رؤوس الجبال. تعالَ الساعة السادسة إلى ( بحمدون ) وسنذهب معاً لزيارة هذه العائلة. رجعتُ إلى دخيلة نفسي أبحث في أدراج مخزون الذكريات الدفينة متسائلاً هل ستكون هذه الزيارة ناجحة وُفق مقاييس تربيتي ومعايير نهجي السياسي السابق وما قد تعلّمتُ حديثاً خلال إقامتي ودراستي لأربعة أعوام في موسكو ؟ لم أقابل في حياتي حتى ذاك اليوم ( أوائل شهر آب 1966 ) إلاّ الوزير العراقي المفوّض في فيينا ثم السفير العراقي في موسكو وكانت لقاءات قصيرة عابرة وغير مُبرمجة وليست ( دبلوماسية ) الطابع. لديَّ تحفظ فطري ممن يحملون سمات وحصانات دبلوماسية أحسبها تمنحهم أو تجعلهم يشعرون بالإمتياز والتفوّق على ما عداهم من البشر. [ لي قصص طريفة وبعضها ذو أهمية خاصة مع سفراء آخرين سأسرد تفاصيلها كلاًّ في زمنه ومكانه ]. ترددتُ في قبول مقترح ( سلوى ). ترددت طويلاً ثم غلبني الوازع الإنساني. تعاني ( سلوى ) من الوحدة وهي في الثلاثين من عمرها. تأخر زواجها. يئستْ من إبن خالتها الذي كان بارداً وغير مؤدبٍ في لقائها. لا أملَ لها في طائرٍ من طينتي يحلّق عالياً في سماوات بعيدة بجناحٍ واحدٍ حيناً وبأكثر من جناح أحيانا. جاءت بيروت لا هرباً من جو العراق الصيفي اللاهب فقط، إنما لكي تمارس نوعاً بريئاً من الحرية. ثم، إذا لم أرافقها إلى بيت السفير فأين وكيف سأقضي المساء الطويل وحيداً ؟ لقد أعتدتُ رفقتها وأن نكون معاً على كل شبر من أرض بيروت ومصيف ( بحمدون ). إذن لا مناصَ من الإذعان لطلبها. قلت لها حَسَناً، سأكون أمام فندقكم في تمام السادسة مساءً.
حلقتُ ذقني وأخذت حماماً ساخناً وأرتديتُ أفضل ما كان معي من ملابس ثم ركبتُ السيارة التي إنطلقت تصعد الجبل إلى ( بحمدون ). وجدتها تنتظرني في مدخل الفندق جميلةً جذّابةً تشتعل حيويةً وأُنوثةً. وكان وجهها ـ كما كانت دوماً ـ دون مساحيق ودهون وعيونها خالية من الظلال والألوان. طبيعية جداً وليس في الكون ما هو أجمل من الطبيعة. ركبنا السيارة إلى مركز مصيف ( عاليْ )، ترجّلنا سالكين طرقاً ضيّقةً في أعلى جبل لبنان تفوح منها روائح التفاح والكمثرى والعنجاص والكروم.كان منظر بيروت والبحر وما فيه من زوارق ويخوت رائعاً يطير بالخيال إلى أبعد الحدود. وصلنا داراً صغيرةً جميلة وكان السفير وزوجه في إنتظارنا. بعد الترحيب والمجاملات المألوفة أحضر السفير ( ي. ي.ح ) زجاجة ويسكي والكثير من مكعّبات الثلج. سكب في كل كأس من كؤوس البللور الأربعة التي أحضرتها خادم هندية كميةً قليلةً من هذا المشروب الكحولي، ثم أكمل الكؤوس بقطع الثلج. قلتُ له مازحاً : فليكن كأسي طافحاً بالويسكي… أنا قادم من موسكو الثلوج والفودكا. لدينا منها كما تعلم الكثير. فهم الرجل مغزى وجدية مزاحي فأضاف على مضضٍ إلى كأسي شيئاً من الويسكي. قلت أخاطب نفسي ( إني على حق في تحفظاتي من السفراء ومن هم على شاكلتهم. يقيسون تصرفاتهم بالمسطرة ويزنون كلماتهم بميزان الذهب الأبيض. ألا تباً لهم ). ما كان الرجل ليبخل عليَّ بالويسكي إلاّ لكي يضمن سلامة اللقاء وخلوه مما قد يعكر الجو العائلي الخاص. فمع السُكْر يأتي الجنوح وربما بعض الجنون. ثم ما أراد لسلوى أن تسكر وهي في أعلى قمم جبال بيروت بصحبة رجل ساقته الأقدارُ العمياء إليها فتعرّفت عليه. كان السفير ودوداً بسيطاً ضحوكاً محباً للنكتة والمزاح الرفيع المستوى.كذلك كانت قرينته. تحادثوا طويلاً عن ذكريات عمله الدبلوماسي في بغداد وعن الزيارات المتبادلة بينه وبين عائلة ( سلوى ). ثم عرّجوا على حديث سفرات الزوارق النهرية التي كانوا يقومون بها في نهر دجلة جيئةً وذَهاباً ما بين الأعظمية وجزيرة ( أم الخنازير ) ولاسيّما الليلية منها تحت أنوار قمر بغداد.
طالت الجلسة وكان السيد السفير يضع في كؤوسنا بين الحين والحين بضعة قطيرات من الويسكي، لكنه كان كريماً حدَّ الإسراف في كيل مكعبّات الثلج. كان يُنقّط المشروب تنقيطاً. شعرتُ ببرودة الجو مضاعَفةً، لا من كثرة الثلج حسبُ، إنما إزداد الأمر سوءاً أن أصحاب الدار في أعالي جبال بيروت لم يقدموا لنا أي نوع من الطعام.لم يقدّموا لنا حتى قطعة فاكهة واحدة رغم أن دارهم محاطة ببساتين أطايب أنواع الفاكهة. ألم أقل لك يا رجل لا تُخالِطْ سفيراً ولا تقبل معرفة المحسوبين على السلك الدبلوماسي ؟ هل هو سلك واحد أم أكثر من سلك، أسلاك دبلوماسية ؟ نعم،كانوا مختلفين. ثلاثتهم مختلفون. الدبلوماسيون الثلاثة الذين قابلت حتى ذلك اليوم … كانوا مختلفين غاية الإختلاف. لذا فإنهم يمثلون أسلاكاً دبلوماسية منوّعةً شتّى وليس سلكاً واحداً. همستُ في أذن ( سلوى ) أنْ قد طال مجلسنا وأصبح الجو بارداً خالياً من أي رونق أو طعم. ثم إني جائع. شكرنا أهل الدار وإنصرفنا فكان الليل أكثر من رائع وبهيّ. أخذنا الطريق ثانيةً نزولاً إلى ( عاليْ ) وسط الأشجار المحمّلة بما لذ وطاب من فاكهة جنان اللهِ على أرض بعض جباله. وكان البحر تحتنا وبيروت المدينة تتوهج بالأنوار فتزيد الليل سحراً وفتنةً. منظر لا مثيل له في الوجود. كنا نتوقف وننحرف قليلاً عن الدرب الضيق حين تمر بنا سيارة عابرة.كنتُ أتمنى لو أستطيع البقاء هناك إلى الأبد. وأن أُدفَن في تلكم البساتين بين أشجار التفاح والخوخ والكمثرى. وصلنا مركز ( عاليْ ) مشياً على الأقدام ومنها ركبنا السيارة نازلين إلى ( بحمدون ). رافقتها حتى مدخل فندقها وإفترقنا على أن نلتقي صباح اليوم التالي اللقاء الأخير. فغداً هو يوم مغادرتي بيروت إلى الإتحاد السوفياتي. جاءت الساعة العاشرة صباح يوم سفري فتحادثنا قليلاً ثم تصافحنا دونما إنفعالات أو مشاعر أسف أو حزن أو ما شابه ذلك. لم تطلب عنواني في موسكو ولم أطلب عنوان بريدها في بغداد.كان كلانا واثقاً من عدم جدوى ذلك.لم نتفق على لقاء آخر سواء في بيروت أو غير بيروت.
أخذت حقائبي واتجهتُ نحو ميناء بيروت حيث تقف الباخرة السوفياتية على أهبة الإستعداد لتمخر عُباب مياه البحرين الأبيض والأسود عائدة إلى ميناء ( أوديسا ) في شبه جزيرة القرم على أراضي ( أوكرانيا ).
في الساعة الواحدة بعد الظهر غادرت الباخرة رصيف ميناء بيروت على أنغام فرقتها الموسيقية.لم يكن هناك في وداعي من أحد بعد أن قضّيت في بيروت أسبوعين مع أهلي وأسبوعاً مع ( سلوى ) التي كانت لي بالفعل سلوىً وسلوةً بعد مغادرة الأهل. لا مناديل ترفرف في الفضاء ولا دموع المحبين. لحظة قاسية، قاسية جدّاً. قبل ثلاثة أسابيع فقط كانت هنا على رصيف الميناء والدتي وشقيقتي وإبنة شقيقتي وإبن العم.كانوا هنا واقفين في إنتظاري غير مصدّقين وصولي. ولما رأوني أهبط سلالم الباخرة أُصيبوا جميعاً بالذهول. كأنما استيقظوا من حلم أو كانوا في سُبات عميق. أما اليوم، يوم مغادرة بيروت، فكانت في وداعي فتاة نبيلة رائعة لا تمتُّ لي بأية صلة رَحِمٍ أو قرابة. رأيت فيها وهي تصافحني مودّعةً ملامح وجه شقيقتي ( نجاة ). كم تمنيتُ أن تكون شقيقتي وأمي في وداعي. متى سأراهم ثانيةً ؟ أخبرتهم أني سأنهي أبحاثي خلال عام واحد. لكن ليس من المؤكد رجوعي إلى العراق. سأحاول إيجاد عمل لي في بلدان أخرى كالجزائر أو ليبيا أو ربما الهجرة إلى كندا. لوحة الوداع مؤثّرة وحزينة على الدوام. وكما قال الشاعر معروف عبد الغني الرُصافي (( وإني جبانٌ في فراقِ أحبّتي // وإنْ كنتُ في غير الفراقِ شجاعا )). أحسنتَ أيها الرصافي، أحسنت. تأتيني الدموع عادةً بعد الوداع والمفارقة. عندذاك تشرع الجروح بنضح المكبوت عميقاً فيها نزيفاً جارفاً. آخر كلام سمعته من شقيقتي وأنا أودعها في دمشق ووالدتي وإبنة شقيقتي (( دير بالك من البحر )) !! فلقد كنت أخبرتهم إني سأقضّي بعد سفرتي هذه مباشرةً أسبوعين للسباحة والإستجمام على سواحل البحر الأسود.
(( دير بالك من البحر ))… ظلّت هذه الجملة القصيرة ترّج وترتج في رأسي مثل مطرقة الحداد. ما الذي جعل أختي تحذرني من البحر ؟ أي هاجس كان في رأسها حين نطقت بتلك الجملة القصيرة ؟ أهي نبوءة أم خوف مبنيٌّ على أسسس من تجارب مع الماء سابقة ؟ معها حق. سقطت أختي الصغرى ( عَدَوية ) في بئر حديقتنا عام 1939 فماتت غَرقاً. ماتت ولم تتجاوز عامها الأول إلاّ بشهرين فقط.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here