الجدار..

خاَلهُ الناس مجنونا، عندما يأتي في كل صباح وهو يحمل شبه صندوق خشبي، فجأة يتوقف أمام الجدار العريض الذي أكلته الأملاح وبول المارة والكلاب السائبة، رائحته لا يمكن مجابهتها، لكن يبدو انه قد اكتسب المناعة دون أن يعلم، ضاع وجه الجدار إلا من رسم صورة شبحية المعالم تلك التي يجلس قبالتها، يضع ساق على ساق، يخرج لفافة تبغ رطبة عبثا يحاول اشعالها ثم يليها الى جانب الصندوق… يتفرس الصورة يعد لنفسه مأثرة خطابة، يستجمع جرأته ليصيغ ما يريد قوله، البعض ممن تعود عليه حفظ بعضا منها، غير أنه في كل مرة يستنبط شيئا جديدا، وهذا ما دفع البعض للفضول في متابعته وسماع ما سيلقيه من خطبة في كل مرة.
سأل أحدهم أهو مجنون؟؟
أجاب من اعتاده رفيق صحبة حيث كان يتسول.. لا لقد عرفته منذ الوهلة التي حط بصندوقه هنا، في نفس الرقعة صامتا بدايتها ثم يبدأ بمخاطبة الجدار.. لقد جابهته مرة واحدة ظنا أنه يستجدي مثلي وقد يسرق زبائني، لكنه هز رأسه بالنفي وقد اعطاني سيجارة عفنة ادركت عندها انه أتقع حظا مني شبه مجنون، خاصة بعد سماعي أغلب خطبه.. عليك ان تسأل عمن ستكون خطبته اليوم؟ هذا هو السؤال؟ ففي كل مرة يأتي بها يستعرض حالة ما ومن ثم يعرج على من كانوا السبب في ردائة حاله بوئد طموحاته وحريته، لا أظنه يأتي بجديد لكن لابد سيفاجئ من استمع إليه من قبل…
الجدار عريض وقد لاحظ هو انه ملامح الصورة قد بان شحوبها أكثر حتى وإن امعن في التمعن فيها، لم يعجبه الامر، مما دعاه الى اخراج قطعة من الفحم الأسود ليعيد للصورة حياتها وهو يقول:
لم اجد غير السواد لأعيد لك الحياة لقد اعتدنا اللون حتى صرنا نمتع اطفالنا وشوارعنا وأعمدة النور بحلكة السواد… غريب أمرنا يا جدار!!! العالم يتسارع فيه كل شيء نحو ضياء مستقبل ونحن لا زلنا نراوح أمامك، البعض منا يقف ليشاهدك والآخر يحتمي بك خوف شيء محتم سيحدث، عالمنا الفنتازي المؤود هو كعالم الجاهلية موسوم بالتغير والدخول الى أتون عوالم سبقته بالديانات، غير انها عرجت على الفقراء لتشتري ولائهم كونهم الحلقة الضعيفة التي تتمسك بالخيط الرفيع، لا عليك سأجعلك تبدو حزينا وبهيجا في نفس الوقت.. مرر أصابعه ليشكل ما كان شاحبا وهو يقول:
ها.. ما هو رأيك الآن؟ ألست تشبه الكثير ممن يختبئون وراءك بحجة الورع، التقوى، السلطة والسواد؟ زنادقة نحن يطلقون علينا كوننا لا نفقه من حياة الشياطين شيء، إليك الدليل.. أنت قد اعتمرت قرونا وعاصرت كهوفا مظلمة منها البغيض ومنها المغيض، لابد أنك لا زلت تتلمس الندوب التي تركت آثارها عليك.. عاصرت اللافتات بأنواعها الوطنية، الدينية، مناسبات الاعياد، الوفيات وحتى عبارات السخرية مورست على وجهك عنوة… تكاد لا تعي، أراك لا حول لك وهذا أشهد به بعد ان تبولت عليك الكلاب، القطط والبشر حتى الديدان نخرت أساسك، أما أنت ابتلعت بولهم كأنك راغب في أن تميت جذور أساسك، تدعوها للإنتحار، دعني أسألك.. ماهي عدد المرات التي تمنيت ان تسقط وتتخلص من عبودية كونك وقف ليس لأحد سوى المتبولين عليك؟ أظنك تحسبني لا أجيد قراءة الجدران!؟ لكن أعلم جيدا أني خبرت مثلك الكثير خاصة تلك الجدران التي أحاطت بالسجون المقيتة من الخارج والداخل، لا اخفيك كنت واحدا من الذين صنعوا السجون لقمع حرية الفكر لا اقول لك مجبرا لكنها وظيفة كغيرها، إعمار بنى تحتية لكن بشكل آخر، لعل ما أغراني بالقبول تواجدها في الدول الأخرى..
حسنا سأجلس الان وأريد ان تفضي بشعورك لي، سأرخي حواسي سأستمع الى مداخلتك خلال هوسي بك، لا عليك من المارة فهم لا يرون محاكاتك إلا من خلال ردة فعلي، سيطلقون علي المجنون.. لكن من منا هو العاقل الذي يتخبط دون ان يعلم أن لا شرعية في حياة قوضها دستور محبوك السرد والنص ببسم الله وتناسوا أن الأرضة التي أكلت بنودها قد هتكت ستر خداعهم وعهرهم كما هتكتك الجداريات التي أُلبست رغما عنك…
الجدار: يا هذا!! ألم يكفك ما أنت فيه؟ أرى أنك حياتك أصابتها الحصبة، الجدري وحتى الطاعون، وأنت لا زلت تتمسك بأذيال جداري، لكأنه جدار الكعبة، فبرغم ما يسوقونه من أنه محرم إلا أن كل الموبقات والجرائم تحاك بأسمه وعناوينه، لا زال بنو النظير والنجران وقينقاع يحكمون بدعوا أنهم أحق من كل البشر، أن الله اختارهم ليكنوا ابناءه على الارض سحت وفجور، دعة دياثة، نفاق ودجل، رياء ونفاق، جميعها أدوات تلونت بصبغة الغرب، ثم استحدث لها اللون الكلاسيكي الجاهلي الأبيض والاسود.. احاطوا الابيض بظلمة افكارهم حتى حولوه الى السواد، اما السواد فزادو من حلكته ليغتالوا من يروه ندا، لعلك وعيت ما أقصد فلا يجوز لي البوح أكثر وإلا فُسقت وهذا أضعف ما يمكن أن ألاقيه، يا هذا لم تعرضني ونفسك الى الهلكة؟ عش كبقية الخلق من دواب الخالق، إرضى بسجيتك الآدمية، تحيون الافعال فهذا ماهو سائد في عصر الحداثة، رغم التطور والعلم إلا أن المخلوق لا زال يبحث عن سجن يقيه من الآخرين ونفسه، فمن قبلُ كانت الكهوف ,اما الآن فالجدران وإن تلونت او زججت او استطالت او توسعت هي جدارات وإن اختلفت بمكنون معدنها… يا هذا إننا نحيا النهاية كالبداية، شرنا يقتل خيرنا لينال عقاب، فما كان للأسد ان يكون اسدا لولا أريد له ذلك ولا الضبع ضبعا لولا أنه أريد له ذلك ايضا، يخال الخلق أنهم مخيرون في حياتهم وهم مجرد احجار تتناقلها الأيدي التي انيط بها ان تعمل على ذلك… أن البشر موسومون بالغرور والطغيان فهذا دابهم، لعلك تدرك ان الخالق قد خسف ما خسف من قرى ومدن، ازال بشر واستحدث غيرهم لغرض واحد لا يعلمه إلا هو، وان ظن البشر انهم يعلموه.. لعلك تقول العبادة.. إذن انت مجنون وأحمق فما حاجته لهم ليعبدوه وهم يسيؤون إليه، يحرفون دينه ويقتلون، يحللون يحرمون يبطشون طغاة جبابرة، إنكم يا بشر حثالة الخلق رغم أن الخالق كرمكم بالعقل.. ولا اجد عقلكم ابعد مما بين فخذيكم، إن الصورة التي اعدتها على سطحي لا تفي بالغرض الذي تنشد، لا أمل لك في إحيائها، إنها تحتاج الى نبي جديد وتضحيات الصادقين من الضعفاء لإقرارها كدستور حياة لفترة ما.. لأنه لابد ان يطغى الفساد والشر ليحكم العالم، ستوزع بطاقات الموت شهادات ميلاد جديد أو تباد البشرية، سيقلب الخالق عاليها سافلها وتنتهي المأساة… أنظر الى المتحجرين خلفك ينتظرون منك الخطبة كأنك ستأتي بالجديد على مسامعهم، تناسوا أنهم يتخبطون في مستنقع من الرذيلة لا مناص من الغرق فيه، هيا يكفيك ما سمعت قم وامسح خطوطك السوداء، دعني لقضائي وقدري
حسنا سأفعل.. سأفضي بمضاضة قول قيحك، الذي أرقته في أذني، سأستوعب الصورة التي رسمت، سأغرس نبتة سوداء كي تكون باقة المستقبل على نعشك في حفل تأبينك، سأغدق عليك الرثاء بقصائد الجاهلية، سابكيك طربا موجعا، ستكون لي العوق الذي لم أشفى منه، سأُمحي صورتك الحقيقية، سأبيقك شبحا دون سارية، سأهتف بصمت صوت مدوي حين أقف تحتها صارخا… كان هنا موطني.. موطني.

القاص والكاتب/ عبد الجبار الحمدي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here