آلة النظام الكبيرة

محمد الكاظم
العقل العراقي عقل كسول لدرجة محبطة، فنحن نبحث دائما عن مبررات نتكئ عليها لتبرير فشلنا في صناعة دولة متقدمة، أهم تلك المبررات هي ان العراق هو دولة مكونات، وما دمنا دولة مكونات فيجب علينا ان نستمر بسياسة الترضية او القهر. وهذا رأي مثير للإحباط أول من وقع فريسته هو فيصل الأول مؤسس الدولة العراقية الذي قال ذات مرة (لا يوجد شعب عراقي، بل مجموعة شعوب) معرباً عن يأسه من إمكانية إدارة ذلك التنوع. ومازالت أجيال كاملة من السياسيين العراقيين تستهلك جرعة اليأس العالية هذه لدرجة انها جعلتهم يغفلون عن حقيقية ان إرضاء المكونات وجعلها تشعر بالاطمئنان لبلدها لا علاقة له بأصلاح الكهرباء والخدمات وحل مشكلة السكن ومحاربة الفساد مثلاً. الأنكى من ذلك هو المحاولات الحمقاء للصهر القسري للمكونات والثقافات وصناعة نموذج واحد تعتقد السلطة انه النموذج المثالي للعراقي الجيد. وهذا ما أنتج مشاريع هجينة زادت من شروخ المجتمع العراقي طوال عمر الدولة العراقية.
منذ فيصل الأول وحتى 2003، كان الحل الذي انتجه عقل السلطة العراقية عبر اشكالها المختلفة يكمن في صناعة قطار يكون جميع العراقيين مجبرين على ركوبه. فمن قطار متجه الى لندن، الى آخر متجه الى موسكو، الى ثالث متجه الى القاهرة، الى رابع يحاول وصل المحيط بالخليج عبر البندقية وثياب الخاكي . كل تلك القطارات كانت معطلة ولا تسير بالدولة وابنائها، ولا تتسبب الا بالمزيد من الفقر والخسارات وضياع فرص التنمية. اما بعد 2003 فقد صنع الكسل حلاً توافقياً لزجاً يقوم على توزيع عربات القطار على الغرماء المختلفين وترك الحرية لكل عربة ان تختار اتجاهها. ونسي كل من حكم العراق منذ بداية تأسيسه ان قطار الدولة يحتاج الى سكة ليسير عليها.
قد يكمن بعض الحل في صناعة تلك السكة وترك الجميع يستخدمونها بالطريقة التي تناسب قدراتهم ومواهبهم الفردية. وتطويع حماس الجماعات ليكون عاملاً مساعداً في تسريع التفاعل عبر انتاج القيم والأفكار التي تحتاجها سكة التقدم والازهار، فالتنوع الثقافي والاجتماعي والسياسي يصبح مشكلة لدى غير القادرين على إدارته، وقد يصبح عنصر حيوية لدى الدول القادرة على فهم الخصوصيات وتحويلها الى عنصر قوة ووضعها على السكة الصحيحة.
على سبيل المثال تمنح الولايات المتحدة الامريكية سنويا 50 ألف بطاقة غرين كارد تسمح لمواطني دول أخرى بالإقامة الدائمة فيها، إضافة وجود 11 مليون مهاجر غير شرعي، بل ان عدد الذين هاجروا الى أمريكا بصورة رسمية خلال العقود الثلاثة الأخيرة أكثر من تعداد الشعب العراقي، ولهذه الملايين المهاجرة لغاتها ومعتقداتها وانتماءاتها وقومياتها واديانها، فكيف تتمكن الولايات المتحدة من تطويع كل هذا التنوع العرقي والثقافي وصهره ليتماشى مع النظام العام لدرجة ان الجميع يسلكون سلوكاً واحداً، ويحلمون حلماً واحداً هو (الحلم الأمريكي). نحن في العراق لا نعرف الإجابة على هذا السؤال، كما لا نعرف الإجابة على الكثير من الأسئلة المتعلقة بوجهتنا وهويتنا
تلك الإجابة تعرفها المانيا التي استقبلت 10 ملايين مهاجر، وتعرفها بريطانيا والسويد والدنمارك وغيرها من البلدان التي تحترم الخصوصية لكنها تؤمن بآلة النظام الكبيرة التي يشارك الجميع بإدارتها حتى دون تدخل الدولة.
تلك الإجابات تعرفها الصين (الشيوعية) وهولندا وبريطانيا (الأقل تدينا في العالم). وتعرفها ماليزيا وتركيا(الإسلامية)، وتعرفها البرازيل (الكاثوليكية)، والدنمارك (البروتستانتية) وتعرفها كوريا الجنوبية التي يعتبر نص سكانها انفسهم بلا ديانة، وتعرفها تايلند(الأكثر تدينا) وتعرفها اليابان التي مازالت متمسكة بتقاليدها ونظامها الامبراطوري ومع ذلك أصبحت لوحدها كوكباً موازياً لكوكب الارض، وتعرفها الهند التي فيها اديان وقوميات ولغات وطوائف لا يعلمها الا الله لكنها غزت الفضاء.
نحن امام منعطف في تفكيرنا يجب ان نواجهه، التنوع ليس مشكلة، وشكل النظام السياسي ليس عائقا امام التقدم، والدين، والطائفة، والقومية، والايديولوجيا، والخلفيات الاجتماعية، ليست عقبات، أبحثوا عن سبب التخلف في مكان آخر، الاختلاف ليس ذريعة للفشل.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here