نغوغي وا ثيونغو: تحرير العقل من ربقة الاستعمار

ترجمة: ا.د. :كاظم خلف العلي
استاذ اللسانيات و الترجمة – كلية الآداب – جامعة البصرة kadhimalali@ yahoo.com
مقدمة عن المؤلف
ولد الروائي الكيني نغوغي وا ثيونغو في 5 كانون الثاني 1938 في مدينة لمورو ، و تلقى تعليمه في أوغندا و انكلترا .يعتبر نغوغي وا ثيونغو واحداً من أكثر الكتاب المعاصرين أهمية في القارة الإفريقية . كتب وا ثيونغو رواياته الأولى “لا تبك يا طفل” (1964) و هي قصة عائلة تتورط في النضال من أجل استقلال كينيا ، و “النهر بين ” (1965) باللغة الإنكليزية أما روايته “الشيطان على الصليب” (1982) فقد كتبها بلغته الأم الغيكويو. و من  رواياته الأخرى ” حبة قمح  Grain of Wheat ” الصادرة في  1967 و التي ترجمها للعربية سلمان العقيدي عام 1987 و رواية ” تويجات الدم  ” الصادرة في 1977 و التي ترجمها للعربية سعدي يوسف عام 1982  و  رواية “ساحر الغراب Wizard of the Crow ” الصادرة في 2004.و كان وا ثيونغو رئيس قسم الأدب في جامعة نايروبي حتى احتجزته السلطات الكينية من دون محاكمة في 1977. و يصف وا ثيونغو هذا الاحتجاز في كتابه ” محتجز: يوميات كاتب سجين” (1981). و أثمر الاستنكار العالمي ضد احتجاز وا ثيونغو عن إطلاق سراحه. و الموضوع الحالي مجتزء من “تحرير العقل من ربقة الاستعمار: السياسات اللغوية في الأدب الأفريقي” (1986) و هو عمل يؤلف ، مثلما يقول الكاتب، “وداعي للغة الإنكليزية كوسيلة لنقل جميع كتاباتي”،  و فيما بعد كتب وا ثيونغو جميع رواياته و مسرحياته بلغة الغيكويو.و لقد كان وعي وا ثيونغو بحجم المعاناة الأفريقية حاضراً منذ فترة مبكرة إذ أعلن في مؤتمر كنسي لدول شرقي أفريقيا عقد في آذار 1970 بنيروبي عن تخليه عن المسيحية و عن أسمه المسيحي “جيمس” و قيامه بالتخلي عن الكتابة بلغة المستعمر الإنكليزية.
تحرير العقل من ربقة الاستعمار
ولدت في عائلة فلاحية مكونة من أب و أربع زوجات و حوالي ثمانية و عشرين طفلا. و كنت انتمي أيضا، مثلما كنا جميعا في تلك الأيام، لعائلة أوسع و اكبر و للمجتمع عموما.
كنا نتكلم بلغة الغيكويو حين نعمل في الحقول. و كنا نتكلم بالغيكويو في داخل البيت و خارجه. و استطيع أن أتذكر بصورة حية تلك المساءات التي نسمع فيها القصص بجانب موقد النار.و كان الكبار في المعظم هم من يقوم بقص الحكايات ، غير أن الجميع كان مهتما و مشتركا.و كنا نحن الأطفال نعيد القصص في اليوم اللاحق لأطفال آخرين يعملون في الحقول و يقطفون أزهار حشيشة الحمى و أوراق الشاي أو حبوب القهوة  لمالكي الحقول الأوربيين و الأفريقيين.
و كانت جميع القصص ، التي تكون فيها الشخصيات الرئيسة هي الحيوانات في أعظم الأحيان، تحكى بلغة الغيكويو.و كان الأرنب البري ، الضعيف و الممتلئ بالفطنة المبتكرة و البراعة في نفس الوقت، بطلنا. و كنا نتوحد مع الأرنب و هو يناضل ضد وحشية حيوانات مفترسة مثل الأسد و النمر و الضبع. و كانت انتصاراته هي انتصاراتنا، و تعلمنا أن الضعيف ظاهريا يمكن أن يفوق القوي حيلةً و دهاءً.و لقد تابعنا الحيوانات في نضالها ضد الطبيعة القاسية مثل الجفاف و المطر و الريح و هي مواجهة غالبا ما تجبرها على البحث عن أشكال من التعاون.  لكننا كنا مهتمين أيضا بصراعاتها فيما بينها ، و خصوصا بين الدببة و ضحاياها. و عكست هذه الصراعات الثنائية، ضد الطبيعة و ضد حيوانات أخرى، الصراعات الحقيقية في عالم بني الإنسان.
و لا يعني هذا اننا أهملنا القصص التي يكون فيها البشر هم الشخصيات الأساسية. فلقد كان هناك نوعان من الشخصيات في مثل هذه القصص المتمركزة على الإنسان: جنس البشر الحقيقيين الذين يملكون صفات الشجاعة و العطف و الرحمة و كراهية الشر و الاهتمام بالآخرين، و جنس الإنسان ذي الفمين الذي يأكل أخيه الإنسان و الذي صفاته الجشع و الأنانية و الفردية و كراهية كل ما هو صالح للمجتمع  المتعاون لأكبر حد. و كان التعاون بوصفه يمثل الخير المطلق في أي مجتمع فكرة ثابتة، فهو يمكن أن يوحد البشر مع الحيوانات ضد الغيلان و الحيوانات المفترسة، كما في قصة الحمامة التي بعد ان أطعمت زيت بذور الخروع أرسلت لجلب حداد يعمل بعيداً عن بيته و الذي هددت زوجته الحامل  هذه الغيلان ذات الفمين التي تأكل البشر.
و كان هناك قصاصون جيدون و سيئون. يستطيع القصاص الجيد أن يقص القصة ذاتها عدة مرات، و دائما ما تكون القصة طازجة لنا، نحن المستمعين. و يستطيع القصاص أو القصاصة أن تحكي قصة لشخص آخر و تجعلها أكثر حيوية و درامية. في الواقع، كانت الاختلافات تكمن في استعمال المفردات و الصور و تغيرات الأصوات من اجل إحداث نغمات مختلفة.
و على هذا الأساس تعلمنا أن نقدر الكلمات لمعانيها و ظلالها. و لم تكن اللغة سلسلة من الكلمات، بل كان لها قوة إيحائية أيضا خارج المعنى الفوري و المفرداتي.و عززت تقديرنا للقوة الإيحائية السحرية للغة الألعاب التي كنا نمارسها مع الكلمات من خلال الاحجيات و الأمثال و نقل المقاطع ، أو من خلال الكلمات عديمة المعنى لكن المرتبة موسيقيا. و هكذا، فإننا تعلمنا موسيقى لغتنا قبل المضمون. و أعطتنا اللغة، من خلال الصور و الرموز، منظوراً للعالم، لكن كان لها جمالها الخاص. لقد كان البيت و الحقول مدرستنا التي تسبق المدرسة الابتدائية، و لكن ما هو أهم ، لأغراض هذه المناقشة، هو ان لغة تعليمنا المسائي و لغة مجتمعنا البسيط و المجتمع الأكبر و  لغة عملنا في الحقول لغة واحدة.
و من ثم التحقت بالمدرسة، مدرسة استعمارية، فانقطع هذا التناغم إذ لم تعد لغة تعليمي لغة ثقافتي. التحقت أولا بمدرسة كاماندورا التي تديرها إرسالية ، و من ثم التحقت بمدرسة أخرى تدعى مانغوو تديرها مجموعة من الوطنيين ترتبط بجمعية مدارس الغيكويو المستقلة و الكارنغا. كانت لغة تعليمي لا تزال الغيكويو .و كان أول احتفاء بي هو بسبب كتابتي لموضوع إنشائي بالغيكويو. و هكذا ، كان لا يزال هناك تناغم في سنواتي الأربع الأولى بين لغة تعليمي الرسمية و لغة مجتمع الليمورو ألفلاحي.
ولم يسيطر النظام الاستعماري على المدارس التي كان يديرها وطنيون أصليون و يضعها تحت إشراف مجالس التربية في المقاطعات التي يديرها انكليز إلا بعد إعلان حالة الطوارئ في كينيا في 1952. و أصبحت الانكليزية لغة تعليمي الرسمية. و في كينيا، أصبحت الانكليزية أكثر من مجرد لغة، بل أصبحت هي اللغة، و كان على جميع اللغات الأخرى ان تنحني لها باحترام.
و هكذا، كان من أكثر التجارب إذلالا هو الإمساك بتلميذ يتكلم الغيكويو في جوار المدرسة.و كان المجرم يعطى عقابا بدنياً: ثلاث إلى خمسة ضربات بالعصي على أرداف عارية، أو بجعله يحمل قطعة فولاذية حول رقبته مكتوب عليها “أنا غبي ” أو “أنا حمار”. و كان المجرمون في بعض الأحيان يغرمون غرامات مالية يصعب أن يكون لهم قبل بها. لكن  كيف كان المدرسون يمسكون بالمجرمين؟ في الأساس كان أحد التلاميذ يعطى زراً و كان يفترض به أن يعطيه لمن يُمسك متحدثا بلغته الأم. و كل من كان يمسك بالزر في نهاية اليوم عليه أن يشي بالذي أعطاه إياه و هكذا تأتي العملية بجميع المجرمين في ذلك اليوم.و هكذا يتحول الأطفال إلى صيادي جوائز و لا يتعلمون في هذه العملية سوى القيمة المربحة لكي تكون خائنا لجماعتك الأقرب منك.
و كانت وجهة النظر من الإنكليزية مغايرة تماما: فكل انجاز في الإنكليزية المحكية أو المكتوبة كان يكافئ بصورة كبيرة، فهناك جوائز و توقير و تصفيق. لقد كان الإنجاز باللغة الإنكليزية بطاقة الدخول إلى عوالم أرقى.و أصبحت الإنكليزية مقياس الذكاء و المقدرة في الفنون و العلوم و جميع فروع التعلم، و المحدد الرئيس لتطور الطفل في سلم التعليم الرسمي.
و مثلما تعرفون فإن النظام التعليمي الاستعماري علاوة على فصله العنصري للتلاميذ تحلى ببنية هرمية مكونة من قاعدة ابتدائية واسعة و وسط ثانوي ضيق و قمة جامعية أضيق. و كان الانتخاب من المرحلة الابتدائية للمرحلة الثانوية يتم عبر الامتحانات، و كانت تسمى في زمني بالامتحانات الابتدائية الأفريقية الكينية، التي لابد للتلميذ أن يجتاز فيها ست مواد تمتد من الرياضيات إلى دراسة الطبيعة و اللغة (الكـــــ)سواحيلية. و جميع الأسئلة كانت مكتوبة بالإنكليزية . و لا يستطيع أي واحد أن يجتاز الامتحانان إذا فشل في امتحان اللغة الانكليزية مهما كان أداؤه بارعا في المواد الأخرى.و اذكر صبيا كان في صفي في العام 1954 و كان متميزا في جميع المواد عدا الانكليزية التي فشل فيها فأفشلوه  في جميع المواد مما جعله يترك المدرسة ليعمل صبي تبديلات في شركة نقل.أما أنا الذي لم اجتز سوى اللغة الإنكليزية فقد حصلت على مقعد في مدرسة التحالف الثانوية، و هي واحدة من أكبر المعاهد نخبوية للأفارقة في كينيا. و كانت متطلبات الحصول على مقعد في الجامعة، كلية  ماكيرر الجامعة، في العموم متشابهة حيث لا يستطيع أي طالب أن يرتدي زي التخرج الأحمر ، مهما كان أداؤه لامعا في جميع المواد الأخرى ، ما لم يحصل على تفوق في الانكليزية ، و ليس مجرد درجة مستوف! و هكذا فإن المكان الأكثر مرغوبية في الهرم و في النظام كان متاحا فقط لمن كان يحمل بطاقة رصيد في اللغة الإنكليزية. لقد كانت الإنكليزية الوسيلة الرسمية و الصيغة السحرية للنخبوية الاستعمارية.
و كانت اللغة المهيمنة التي تعزز أيضا تلك الهيمنة تحدد التعليم الأدبي.و توقف الأدب الشفاهي باللغات الكينية. و الآن أقرأ في المدارس الابتدائية كل من دكنز و ستيفنسون مع رايدر هاغارد بأسلوب مبسط.  و أصبح الآن جم هوكنز و أوليفر توست و توم براون ، و ليس الأرنب البري و النمر و الأسد، رفاقي اليوميين في عالم الخيال.أما في المدرسة الثانوية فقد تنافس جورج برناردشو مع الكثير من رايدر هاغارد و جون باكن و ألن باتون و الكابتن دبليو ئي جونز. و في ماكيرر قرأت الأدب بالإنكليزية من جوسر إلى تي أس إليوت مع شيء من غرام غرين.
و هكذا كانت اللغة و الأدب يأخذاننا أبعد فأبعد من ذواتنا إلى ذوات أخرى ، و من عالمنا إلى عالم آخر.
فما الذي كان النظام الاستعماري يفعله لنا نحن ألأطفال الكينيين؟ و ما هي عواقب هذا القمع المنظم للغاتنا و الأدب التي تنقله من ناحية، و عواقب ترقية الإنكليزية و الأدب الذي تنقله من ناحية أخرى؟ و للإجابة عن تلك الأسئلة دعوني أولاً أتفحص علاقة اللغة بالتجربة الإنسانية و الثقافة الإنسانية و الإدراك البشري للواقع.
إن للغة، أية لغة، صفة مزدوجة: فهي تمثل وسيلة اتصال و ناقل للثقافة في آن واحد. خذوا الإنكليزية. إنها تنطق في بريطانيا و السويد و الدنمارك، لكنها ليست سوى وسيلة للتواصل بالنسبة للشعبين السويدي و الدنماركي مع غير الإسكندنافيين . إنها لا تنقل ثقافتيهما.أما بالنسبة للبريطانيين، و خصوصا الإنكليز، فالإنكليزية فضلاً عن كونها وسيلة تواصل لهم لا يمكن فصلها عن كونها ناقلة لثقافتهم و تاريخهم.أو خذوا السواحيلية في شرق أفريقيا و مركزها. إنها تستعمل بصورة واسعة كوسيلة تواصل بين العديد من الجنسيات، لكنها ليست ناقلة لثقافة و تاريخ العديد من هذه الجنسيات. مع ذلك، فإن السواحيلية  في أجزاء من كينيا و تنزانيا ، و خصوصا في زنجبار، تمثل بصورة متلازمة وسيلة للتواصل و ناقلة لثقافة أولئك البشر التي هي لغتهم الأم.
إن الثقافة تنقل أو تمنح صور العالم والواقع تلك من خلال اللغة المحكية و المكتوبة، هذا يعني من خلال لغة محددة.و بكلمات أخرى، أن القدرة على الكلام، القدرة على ترتيب الأصوات بطريقة تخلق التفاهم البشري بين البشر قدرة عمومية. هذه هي عمومية اللغة، إنها صفة مختصة ببني البشر. و هي تناظر عمومية الصراع ضد الطبيعة و عمومية الصراع بين بني البشر،  غير إن خصوصية الأصوات و الكلمات و تنسيق الكلمات  إلى عبارات و جمل و خصوصية الطريقة أو قوانين تنسيقها هي ما يميز لغة عن أخرى. و هكذا، فإن ثقافة معينة لا تنقل من خلال اللغة في عموميتها بل في خصوصيتها بوصفها لغة لمجتمع محدد و تاريخ محدد. إن الأدب المكتوب و الأدب الشفاهي هما الوسيلتان الرئيستان اللتان تنقل لغة محددة من خلالهما صور العالم المكتنفة في الثقافة التي تنقلها.
فاللغة بوصفها تواصلا و ثقافة هما إذن نتاج بعضهما الآخر.إن التواصل يخلق الثقافة، و الثقافة وسيلة للتواصل. اللغة تنقل الثقافة ، و الثقافة تنقل ، و خصوصاً من خلال الأدب الشفاهي و الأدب المكتوب، كامل مجموعة القيم التي نصبح من خلالها مدركين لأنفسنا و مكاننا في العالم. و الكيفية التي يدرك الناس بها أنفسهم تؤثر على الطريقة التي ينظرون بها إلى ثقافتهم و سياستهم و الإنتاج الاجتماعي للثروة و إلى مجمل العلاقة مع الطبيعة و الآخرين. فعلى هذا الأساس لا تنفصل اللغة عن ذواتنا كمجتمع من البشر له شكل و شخصية محددتين و تاريخ محدد و علاقة محددة بالعالم.
فما ألذي كان يلحقه بنا الفرض الاستعماري للغة أجنبية نحن الأطفال إذن؟
لقد كان الهدف الحقيقي للاستعمارية هو السيطرة على ثروة الشعب: ما ينتجونه، و كيف ينتجونه، و كيف يوزعونه. و بكلمات أخرى، كان الهدف هو السيطرة على الأفق الكلي للغة العالم الواقعي. لقد فرضت الأستعمارية سيطرتها على الانتاج الاجتماعي للثروة من خلال الاحتلال العسكري و الدكتاتورية السياسية اللاحقة ، غير إن مجال هيمنتها الأكثر أهمية هو الفضاء الذهني للمستعمرين آلا و هو السيطرة من خلال الثقافة ، و من خلال الكيفية التي يدرك الناس بها أنفسهم و علاقتهم بالعالم. إن السيطرة الاقتصادية و السياسية لا يمكن أن تكون كاملة أو مؤثرة أبدا من دون السيطرة الذهنية. و السيطرة على ثقافة مجتمع ما تعني السيطرة على وسائل تعريفه لذاته ضمن علاقته بالآخرين.
و بالنسبة للاستعمارية فإن هذا الأمر يشمل جانبين من العملية نفسها: التدمير أو الانتقاص المقصود لثقافة مجتمع ما بفنونه و رقصاته و أديانه و تاريخه و جغرافيته و تعليمه و أدبه الشفاهي و أدبه المكتوب ، و التنمية الواعية للغة المُستعمِر. لقد كانت هيمنة لغات الأمم المستعمرة على لغة أمة ما حيوية بالنسبة للعالم الذهني للمُستعمر.
خذوا اللغة بوصفها تواصلاً. إن فرض لغة أجنبية و قمع اللغة الأم نطقا و كتابة يحطم التناغم الموجود أصلاً بين الطفل الأفريقي و الجوانب الثلاثة للغة. و طالما أن اللغة الجديدة بوصفها وسيلة للتواصل هي نتاج و عاكس “للغة الفعلية للحياة” في مكان آخر فإنها ، سواء كانت منطوقة أم محكية، لا يمكن أبدا أن تعكس أو تحاكي الحياة الفعلية لذلك المجتمع بصورة مناسبة. و ربما يفسر هذا بصورة جزئية السبب في أن تبدو التكنولوجيا غريبة قليلا بالنسبة إلينا دوما، فهي نتاجهم لا نتاجنا. و ظلت الكلمة ( missile / صاروخ ) تحمل صوتا غريبا و بعيدا إلى أن تعلمت مؤخرا مكافئها بالغيكويو ( ngurukuhi ) و جعلتني أفهمها بشكل مختلف. لقد أصبح التعلم بالنسبة للطفل الاستعماري فعالية دماغية و ليست تجربة محسوسة عاطفيا.   
لكن طالما أن اللغة الجديدة المفروضة لا يمكن أبدا أن تحطم اللغات الأم بأشكالها المنطوقة، فإن مجال هيمنتها المؤثر هو الجانب الثالث للغة بوصفها تواصلا ألا وهو الجانب الكتابي. لقد كانت لغة تعليم الطفل الأفريقي الرسمية أجنبية، و لغة الكتب التي يقرؤها أجنبية، و لغة تفكيره أجنبية.و كان التفكير عنده يأخذ الشكل الواضح للغة أجنبية. و هكذا، فإن لغة تنشئة الطفل في المدرسة ، بل و لغته المحكية داخل بناية المدرسة، أضحت منفصلة عن لغته المحكية في البيت.و غالبا ما لم تك هناك أدنى علاقة بين عالم الطفل المكتوب ، الذي كان أيضا لغة تعليمه، و لغة بيئته المباشرة ضمن العائلة و المجتمع. و بالنسبة للطفل الأفريقي، فقد كانت الأوجه الثلاثة للغة تواصلاً منفصلة بشكل لا يمكن استعادته.و أنتج هذا الأمر انفصالاً في وعي ذلك الطفل عن محيطه الطبيعي و الاجتماعي، و الذي ربما سميناه بالتغريب الاستعماري. و أصبح التغريب معززا من خلال تدريس التاريخ و الجغرافية و الموسيقى و حيث كانت أوربا البرجوازية دوما مركز الكون.
و يصبح هذا الافتراق و الانفصال أو التغريب عن البيئة المباشرة أوضح عندما تنظر إلى اللغة الاستعمارية بوصفها ناقلا للثقافة.
و طالما أن الثقافة هي نتاج تاريخ امة يعكسها بدوره، أصبح الطفل الآن يُعرّض كلية إلى ثقافة هي نتاج عالم خارجي بالنسبة له. لقد جُعِلَ الطفل واقفا خارج نفسه لينظر إلى نفسه. إن “الإمساك بهم أطفالاً Catching Them Young   ” هو عنوان كتاب عن العنصرية و العرق و الجنس و السياسة في أدب الأطفال لمؤلفه بوب دكسنBob Dixon  .  و كان هدف كتاب “الإمساك بهم أطفالاً” أكثر صدقاً بالنسبة للطفل الاستعماري. إن صور هذا العالم و مكانه فيه المغروسة في طفل تستغرق سنينا لكي تمحى، هذا لو كان بالإمكان محوها.
و طالما أن الثقافة لا تعكس العالم من خلال صور فقط،  بل إنها في الواقع و من خلال تلك الصور بالذات تكيف الطفل ليرى ذلك العالم بطريقة معينة ، فإن الطفل الاستعماري جُعِلَ أن يرى العالم و مكانه فيه كما هو مصور و معرف أو معكوس في ثقافة اللغة المفروضة.
و طالما أن تلك الصور تنقل في معظم الأحيان من خلال الأدب الشفاهي و الأدب المكتوب فهذا يعني أن الطفل الآن سيرى العالم فقط كما هو مصور في أدب اللغة التي يجبر على تبنيها. و من وجهة نظر التغريب، أي من خلال رؤية المرء لنفسه من خارج نفسه كما لو أن المرء كان شخصاً آخر، لم يعد يهم أن كان الأدب المستورد يحمل تراثا إنسانيا عظيما لما هو أفضل ما نراه لدى شيكسبير و غوتة و بلزاك و تولستوي و غوركي و برشت و شولوخوف و دكنز. لقد كان موقع هذه المرآة العظيمة للخيال بالضرورة هو أوربا و تاريخها و ثقافتها و كان بقية الكون يُرى من المركز.
لكن و بجلاء كان الوضع أسوأ عندما كان الطفل الاستعماري يعرض إلى صور عالمه كما تعكسها اللغات المكتوبة لمستعمريه. و حيث كانت لغاته الأم الخاصة به مرتبطة بذهنه المرن و السهل القولبة بالمكانة المتدنية و الإذلال و العقاب الجسدي و الذكاء و المقدرة البطيئتين جدا،  أو بالغباء المباشر و عدم المفهومية و البربرية فإن هذا يتعزز بفعل العالم الذي واجهه في أعمال عبقريات العنصرية مثل رايدر هاغارد أو نيكولاس مونسارات ،من دون ذكر  تصريحات بعض عمالقة المؤسسة الفكرية و السياسية الغربية  مثل هيوم (“إن الزنجي متدن بالفطرة بالنسبة للبيض…)  1 أو ثوماس جيفرسن (“…السود…متدنين بالنسبة للبيض في هبتي الجسم و العقل…”) 2 ، أو هيغل بصورته عن أفريقيا على انها ارض طفولة لا تزال مغطاة بعباءة الليل البهيم بقدر تعلق الأمر بنمو التاريخ الواعي .  إن عبارة هيغل على أنه لا يوجد هناك أي شيء متناغم مع الإنسانية يمكن أن نجده في الشخصية الأفريقية تمثل الصور العنصرية عن الأفارقة و أفريقيا كان الطفل الاستعماري ملزما بلقائها في أدب اللغات الاستعمارية 3. و النتائج يمكن أن تكون كارثية.
و تنقل إلينا الكاتبة و الأستاذة الباحثة مايسير مغو  Micere Mugo  في بحثها المعنون “الأدب المكتوب و الصور السوداء” الذي ألقته في مؤتمر حول تدريس الأدب الأفريقي في المدارس و الذي انعقد في نايروبي في 1973 كيف أن قراءة وصف المرأة الإفريقية غاغول Gagool  في رواية رايدر هاغارد “مناجم الملك سليمان  King Solomon’s Mines  ” جعلها لفترة طويلة تشعر برعب أبدي كلما واجهت نساء إفريقيات مسنات4  . و يصف سيدني بويتير   Sydney Poitier في سيرته المعنونة “هذه الحياة   This  Life”  كيف أنه ، نتيجة الأدب الذي قرأه، أصبح يربط أفريقيا بالأفاعي.و هكذا فإنه عند وصوله لأفريقيا و بعد أن أسكن في فندق حديث في مدينة حديثة لم يستطع أن ينام لأنه واصل البحث عن الأفاعي في كل مكان حتى أسفل سريره.لقد كان هذان الاثنان قادرين على أن يحددا بدقة أصول مخاوفهما، لكن بالنسبة لمعظم الآخرين فإن الصور السلبية تصبح مذوتة و تؤثر على خياراتهم الثقافية بل و السياسية في الحياة الاعتيادية.
هامش المترجم:
ما نفعله في نظامنا التربوي و التعليمي بالعراق منذ مدة مثير للحيرة و الألم في آن واحد؟ فلقد قام العراق أسوة ببلدان عربية كثيرة بتعريب التعليم العالي في العراق و إبدال اللغة الإنكليزية باللغة العربية التي أصبحت لغة تأليف المناهج الدراسية و إلقاء المحاضرات الجامعية، لكننا بعد مدة في ثمانينات القرن العشرين فرضنا على جميع طلابنا الساعين للانخراط بالدراسات العليا شرط اجتياز امتحان الكفاءة باللغة الإنكليزية الذي أدى إلى كوارث فعلية ، منها أن  المتفوقين الأوائل على أقسامهم و كلياتهم لم يتدبروا أمر الحصول على مقعد الدراسات العليا بسبب ضعف كفاءتهم باللغة الإنكليزية بينما استطاع الأقل علمية من الطلبة أن يلتحق بالدراسات العليا لنجاحه بالكفاءة بطريقة أو بأخرى.و رغم تقديم العديد من التربويين سيلا وافرا من المقترحات العلمية لتجنيب أبناء الوطن هذه الكارثة العلمية إلا أن وزارة التعليم العالي و البحث العلمي (المركز…بدكتاتوريته البغيضة) أصمت أذنيها عن نداءات التربويين (الهامش الذي لا حول له و لا قوة). و بمناسبة إعادة فرض هذا الامتحان الجديد بصيغة (التوفل) أقترح جعله شرطا ملزما على الطلبة العراقيين الذين يبتعثون للدراسة خارج العراق و ليس داخله.
أما ما يحصل في مدارسنا بمستوياتها الابتدائية و المتوسطة و الإعدادية بداعي تحديث و تطوير المناهج العلمية فهو لا يقل كارثية عما يحصل في التعليم العالي، فقد أصبحت مناهج اللغة الإنكليزية في جميع المراحل الثلاث أكثر صعوبة و بما يفوق قدرات و إمكانات الطالب مرات و مرات، و في الدروس العلمية من أحياء و كيمياء و فيزياء و رياضيات أصبحت اللغة الأم هي الإنكليزية و العربية هي اللغة الأجنبية ، و يخامرك الشعور حين تقلب هذه الكتب وكأنها كتب مترجمة ، فالكتب المشار إليها تزخر بالمصطلحات الإنكليزية العلمية المتخصصة البالغة الصعوبة حتى على طالب متخصص في الإنكليزية، و حل المسائل في المواد أعلاه يكون بكتابة القوانين باللغة العربية و مقابلاتها بالإنكليزية و اختصاراتها بالإنكليزية و تطبيقات القوانين بالإنكليزية.فماذا يعني هذا؟ و إلى متى تستمر الأزمات التربوية ؟ و هل ثمة حل؟ نعم ، و هاأنذا أدعو إلى تأسيس مجلس أعلى للسياسات التربوية و التعليمية يأخذ على عاتقه معالجة هذه الأزمات التربوية التي يتعرض لها أبناؤنا و بناتنا الطلبة و تجنيبهم المآسي و الكوارث التي تلحق بهم أفدح الضرر .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here