التمرد على العقل

نواصل  في هذه المقالة ، عرض ما قال فردريك باسر عن التمرد على العقل في الفلسفة الألمانية ، ففلاسفة  ألمانيا هم أول من تمرد على العقل ، بعد أن أله، وعد عقل شامل وغير منحاز ، فتبين لهم بعد طول استخدام ، ليس عقل غير منحاز وشامل ، وأنما منخرط في الصراعات السياسية ، ويتأثر بالمناخ الأجتماعي والثقافي ، وخاضع إلى الغرائز والأهواء . ومن ثم هو نسبي وليس شامل ، وغير عابر للحدود القومية . وهذا ما بين فردريك باسر في عرضه للعقل الألماني . ولكن ما للاحظناه على عرض باسر وما قد للاحظه القارئ معنا أيضاً ، هي أنه لم يعرض لتعريف وتاريخ العقل ، لأنه في الحقيقة  ، لم يكن هذا موضوعه في هذا الفصل الذي قدمنا ، فما كان يهمه هو التمرد على العقل في الفلسفة الألمانية ، وقد يكون فعل ذلك في  مكان ما من كتابه الكبير هذا . وبما تعريف العقل وتاريخية بحد ذاته موضوع شائك ومعقد ، ويحتاج لوحده لمقالة  مفرد له ، فسنكتفي ، من طرفنا ، بذكر الاختلاف بنظر لعقل في الزمن المعاصر وقديماً ، فقد تغيرت النظرة  لكيف يعمل العقل في زمننا الحاضر عما كان عليه في السابق . فالعقل ، قديماً ، نظر له ، على أنه شيء مكتمل وجاهز الأستعمال دون حاجة إلى أي عون من الخارج ، أو بما تمد الحواس من أحاسيس . فهو أعطى كامل ، ودفعه واحدة ، وما عليه سوى أن ينظر حوله أو إلى الأعلى ليعرف كل شيء ، ويقدر أن يستنجً ويصل إلى ما يريد بما لديه من ملكة من التفكير . فهو لدى أفلاطون مكتظ بالذكريات لعالم سابق ، ولدى أرسطو  عقل منطقي . يقوم بالأستناج بما يضعه من مقدمات

أما في الفترة المعاصر ، فقد تغيرت النظرة للعقل ، ولم يعد ينظر للعقل على شيء مكتمل منذ البداية ، وأنما نظر له نظرت  تاريخية ، وأنه لا يولد مكتمل ، وأنما يمر بمراحل وأطوار مختلفة . فهو في البداية عقل بدائي  ، لا يعرف المنطق ، والتفكير بطريقة مرتبه ، أي عقل خرافي ، ولهذا يراه ، أنه مر بمرحلة ، خرافية ، وآخرى ميتافيزيقة  ، حتى وصل أخيراً المرحّل العلمية ، ونظر جون لوك للعقل على انه صفحة بيضاء في البداية ، وأنه فقط من التجربة والخبرة يكتسب معرفته ، ولا يعرف ما يتعد حدود التجربة ، أما كانط فقد قال ، لا توجد فيه سوى مقولات ، أو قوالب فارغة تملئ من قبل التجربة ، وهو مثل لوك يؤمن بأن لا يعرف شيء أبعد ما تمده الحواس ، ولهذا نفى أن يعرف العقل وجود الله لأنه هذا أبعد من حدود التجربة  ، وجعل الأيمان ، والأعتقاد بوجد الله الأغراض عملية . فالفلاسفة في زمنا المعاصر ، نظروا للعقل ليس على أنه شيء كامل  وهبة من الله ، وإنما نتاج طبيعي ، وكل نتاج طبيعي مر في مراحل من التطور . أما من وجهة نظر دينة ، ومن نظر القرآن والإسلام ، فهو فطرة ، وهبة من الله جاهزة الاستخدام ، لا تحتاج سوى أن تنظر فيما حولك لتعرف  اسرار الطبيعة ، وتستنج وجود الله  ، ولذلك ، كثرة في القرآن عبارة ، مثل إلا ينظرون ، ويفكرون ، ويتعقلون . فالله وهب الإنسان  أحسن ما لديه ، وهو العقل  ، الذي إذا قيل له أقبل أقبل ، وإذا قيل له أدبر أدبر ، فالعقل في الاسلام استعداد فطري منحه الله للإنسان ، حسب رأيه رجال الدين . غير السؤال الذي يحتاج أن يسأل والذي ، فيما نعرف لم يطرحه أحد من قبل  ، لأنه لم يكن ممكن طرحه قبل كانط ، هو كيف منح الله العقل ، فهل منحه فارغ ، وخلو ، من أي إفكار  ، أو ممتلئ ، مع محتوى وعقائد ! فلو أن أعطاه مع عقائد  لما اختلف الناس ، في رؤية الأشياء ، لأن كل الناس لديها عقل ومن خلق الله ، وبه نفس الأفكار ، وهذا بخلاف ما نراه باختلاف الناس في عقائدهم وأفكارهم عن  الأشياء . ولو منحه الله كأطار فارغ ، يملء بالتجارب ، لما أصبح ، هناك ، لوم على أحد  لو عاش حسب عقيدة مجتمعه التي  قد تكون متعارضة مع الدين السماوية . ويبدو أن الإسلام ينظر لعقل  على أنه كامل ، وذو محتوى ، وليس فارغ ،  ومزود بكل ما يحتاج  لمعرفة ما حوله بدون عون التجربة ، والقرآن دائماً يقول إلا ينظرون إلا يتفكرون ، بما في العقل من محتوى ، فالعقل  لا يستطيع أن يعقل الأشياء وهو فارغ ، ما لم يزود بأفكار سوى من قبل الله ، أو التجربة ، فهو لا يفكر من الصفر ، ولا يعقل الأشياء ، بمجرد النظر ، والتأمل ، وهو فارغ . ولعل قصة حي أبن يقظان التي كتبها الفيلسوف العربي أبن طفيل هي خير من يعبر عن وجهة النظر الإسلامية بخصوص العقل ، وطريقة عمله ، فهنا ، نرى العقل  ، بحالة حي ابن يقظان ، بجهد الذاتي ، وبدون دعم ، من الخارج ، من التجربة أو العيش في المجتمع يصل إلى أستنتاجات عقلية بدون أي عون من أي خبرة ، فحي ابن يقظان الذي ولد في جزيرة منعزلة لا يسكنها أي بشر وتربى عن طريق ، ذئبة ، تمكن من معرفة الحسيات والآلهيات ، بدون أن يختلط مع البشر أو يلقن أي دين . فالعقل ، حسب الفهم الدين منحه الإلهية ، ولا يمكن ، يعطى فارغ ، من كل محتوى ، فالفطرة ، التي يكثر تريدها ، لدى المفكرين المسلمين ، تعني ، في الأكثر ، على ما وهب الله العقل  وصاغه ، ويفكر من ذات نفسه ، وليس نتاج تطور ، وخبرة من الحواس ، أو المجتمع . وهذا ما يبدو لنا ما قد يسد النقص في عرضنا لمقولة باسر حول التمرد على العقل في الفلسفة الألمانية . بتقديم هذه التعريف المؤجز للعقل . وإلى الجزء الثاني منها

                              (٢)

(١٥) أزمة عدم الثقة في نهاية القرن الثامن عشر تعمقت عندما واحد آخرى من القناعات العزيزة على التنوير أصبحت في دائرة الشكبأن العقل شامل وغير منحاز . فالمحكمة لنقد تكلمت بتلك السلطة الرهيبة ليس فقط بسبب أن مبادئه واضحين بذاتهم ، وأنما أيضاً بسبب أنهم شاملين بمعنى أنهم حقيقين إلى كل كائن عاقل ، بغض النظر عن حضارته ، وثقافته أو فلسفته . وهم غير منحازين بمعنى أنهم يستطيعو أن يصلو إلى أستنتاجاتهم بشكل مستقل عن ، وحتى ضد المصالح والرغبات . وأيمان التنوير في شمولية وعدم التحيّز إلى العقل يقوم بشكل كامل على الأعتقاد والذي هو حتى أكثر أهمية من المعتقدات الاساسية الآخرى ، الذي هو أستقلالية العقل  .

فالعقل أعتقد أن يكون ملكة مستقلة بالمعنى الذي يكون فيه حاكم لنفسه متبعاً القواعد التي أقامها لنفسه ، باستقلال عن المصالح السياسية ، والتراثات الثقافية ، والرغبات ما دون الوعي . وإذا ، بالعكس ، العقل خاضع للسياسة ، والحضارة ، أو التأثيرات ما دون الوعي ، فمن ثم ، لن يكون هناك ضمان بأن أستنتاجاته شاملين وضرورين . فقد ينقلبون إلى تعابير مقنعته إلى الهموم السياسية ، والثقافية ، والمصالح لا واعية  . ولعل أوضح مثال عن هذا المعتقد في الاستقلال إلى العقل  كان هو ثنائية النومين noumenon – والظاهرة ( الأشياء في ذاتها والظاهرة ) .  ومن المهم هنا ملاحظة القصد لكانط في هذه الثنائية  ليس أنقاذ فقط  أمكانية الحرية ، وأنما أيضاً الشمولية وعدم الأنحياز إلى العقل

(١٦) ولربماً أبرز وأكثر قوة وأصالة وأمضى النقد تأثير لهذا المعتقد ، أي أستقلالية العقل كان جي ، أج ، هامان في أحد مقالأته ، فهامان هاجم الفرضية الرئيسيّة التي يقف عليها معتقد كانط في أستقلالية العقل فيما يسمى النومين -noumenon والظاهر ( الأشياء بذاتها والظاهرة ). وعلى غرار التحليل الأرسطوطاليسي ، ونقد كانط للأفلاطونية ، ، عارض هامان بعنف ما يدعو الصفائية purism إلى العقل ، يعني البنية الأساسية للعقل عندما يجرد من اللغة ، والثقافة المكتسبة ، والتجربة . فإذا أردنا أن نصل البنية الأساسية للعقل ، يقول هامان ، علينا أن نرجع إلى سؤال أرسطو القديم  ” أين هو العقل ؟فبأي الأشياء المفردة يوجد ؟ ونحن نستطيع أن نجيب عن هذين السؤالين، يؤكد هامان ، فقط في مطابقة تجسد العقل في اللغة والفعل . ولذلك فالعقل ليس نوع خاص إلى مملكة والتي توجد في النومين ( ما لا يمكن معرفته ) أو مملكة عقلية متعالية ، وأنه ، في الواقع ، فقط طريقة في التكلم ( الخطاب ) والعمل في لغة محددة وثقافة . وعليه يشدد هامان على البعد الأجتماعي والتاريخي للعقل . واللذان أهملا في فترة التنوير كثيراً . وكما يلخص هامان موقفه من العقل ، أن أداة ومعيار العقل هو اللغة ؛ ولكن اللغةً، هي ليس أكثر من أن تكون العادات والتراث للأمة

فتشديد هامان على البعد الأجتماعي والتاريخي إلى العقل واضحه تماماً . وهو من ثم يؤمن بالنسبية بأستخدام العقل . فإذا اللغة والعادات لثقافة تحدد المعاير للعقل ، وإذا اللغات والعادات مختلفة إلى وحتى متعارضة مع بعضها، فعليه سوف لن يكون هناك مثل هذا الشيء الذي العقل الشامل الواحد لدى الجميع . فالعقل سوف لن يكون قادر أن يقف خارج الحضارة ( الثقافة ) ليحكم بينهم طالما أن معايره تقرر بواسطتهم . وهذا الأستخدام النسبي للعقل ، لم يستنتج بهذا الوضوح من قبل هامان ، بيد أنه طور في التفصيل من قبل أؤلئك الذين تأثروا بهوأكثرهم بروز ، هم  ، هيجل ، هردر ، شلنج ، فمثلاً ، هردر جادل ، بأن محكمة التنوير لنقد ، فقط عممت القيم ومصالح القرن الثامن عشر للأوربا . ولهذا ، فأن فلاسفة ذلك الزمان ليس لهم الحق بنقد معتقدات وعادات الثقافات الآخرى ، بما أن لا يصح الحكم على ثقافة ثانية بمعيار عصر التنوير

(١٧) والأيمان في أستقلال العقل وقع تحت نيران هجوم من أتجاه آخر من قبل أف ، أج ، ياكوب . بينما أصر هامان وهردر ، بأننا لا يمكنا أن نجرد العقل من المجتمع والتاريخ ، شدد ياكوب بأننا لا يمكن لنا أن نفصله عن الرغبة والغريزة . فعلينا أن ننظر إلى العقل كجزء من كيان عضوي حي واحد ، حيث ينظم ويدير  كل وظائفه الحيوية ، كما يقول ياكوب . فالعقل ليس قوة لا مبالية لتأمل ، ولكنه ، أذن ، أداة إلى الأرادة والتي تستخدمه لسيطرة  والهيمنة على البيئة . فالعقل واقع تحت تأثير الأرادة لهذا الحد ، ويؤكد ياكوب أكثر ، بأن حتى المعاير إلى الحقيقي والكاذب تملئ عليه من  قبل الأرادة . فما هو حقيقي وكاذب يصبح ما هو ناجح وغير ناجح في تحقيق غايات الحياة . وبدون أن يخشى أو يتجنب الأستخدام النسبي لعقل ، فأن ياكوب يلمح بأن تلك الغايات قد يختلفوا من حضارة إلى آخرى

(١٨) وحجة ياكوب بأن العقل خاضع للأرادة وجدت تعضيد أضافي لها في البصيرة ما قبل علميه لدى هامان وهردر ، بأن الوعي والفعاليات العقلية هم تعابير عن ما دون الوعي والحوافز لا عقليه . ولذلك ، رأى هامان بالطاقة الجنسية كمنبع إلى الخلق والأبداع ، وأصر بأن حتى التعقل هو فقط تسامي . وأكد هردر بأن المصدر لكل أبداعنا يكمن فيالقوى المظلمة، والتي علينا أن نقمعها من أجل أغراض الحياة اليومية . وتلك الأيحاءات والبصائر البدائية كانو ما يزالون بعيدين عن النظرية الواضحة والمنهجية ، للنظرية فرويد ، ونظرية نيتشه . ومع ذلك فهما يشيران لنفس الشيء ، فهما ، على كل حال ، يشككان في معتقد التنوير في أستقلالية 

العقل

(١٩) والعديد من الانتقادات إلى أستقلالية العقل والذين ظهروا في نهاية القرن الثامن عشر كانوا فقط جزء من الحصاد المر إلى برنامج التنوير للشرح العلمي . فإذا نحن قبلنا بالشعار القاضي بأن علينا أن نفسر كل شيء وفقاً إلى قوانين الطبيعة ، لذا ، علينا أن نكف أن نرى العقل كملكة تكتفي بذاتها والتي توجد منفصلة عن الطبيعة ، وعلينا أن نبدأ بتفسيره كجزء  آخر من الطبيعة ، مثل أي شيء أخر . فمحاولة أنقاذ أستقلال العقل بوضعة داخل مملكة نومين خاصة  المتعذرة إلى الدراسة العلمية ، يعادل ، من ثم ، لا شيء آخر سوى ، جعله فائق لطبيعة ، أو تصوفيه ، أو جعله نظام صوفي mysticism أو وقوعه في الظلامية obscurantism ، بستخدام المصطلح الذي أستخدمه نقد كانط إلى فرضه عالم النومين ( ما لا يمكن معرفته ) . وهكذا ،  في النهاية ، أصبح معتقد التنوير بأستقلال العقل صعب أن يلائم المذهب الطبيعي العلمي . وهنا ، مرة آخرى، فأن الأنعكاس على الذات لعقل يأتي ليلعب دوره ، في تفكيك سلطته . فإذا العقل يجب عليه أن يفسر كل شيء وفقاً لقوانين الطبيعة ، فعليه ، من باب أولى ، أن يفسر نفسه بحسب قوانين الطبيعة ، فالموضوع والذي يفسر الطبيعة لا يقف في موقف متعالي ومتميز عن الطبيعة التي يشرحها ، وأنما ذلك ، يعني ، بأن العقل يخضع لتأثير القوى الطبيعية ( مثل ، الغريزة ، والرغبة ) ، ولهذا ، فهو ، ليس بعد مستقل

(٢٠) أيمان التنوير يرتكز أخيراً وليس آخراً ، على المذهب الطبيعي ، الأعتقاد بأن العقل يستطيع ، إذا فقط مبدأياً ، أن يفسر كل شيء في الطبيعة . وهذا المعتقد الجريء ، رغم أنه ، يظهر يملك كل نجاحات العلم الحديث في صالحه . والعديد من المفكرين والفلاسفة ، فأن الفيزياء الجديدة إلى غاليليو ، ونيوتن ، وهايجن ، بينوا بأن كل شيء في الطبيعة قابل لتفسير وفقاً إلى نظام قوانين الرياضيات والذين هم واضحين إلى أن يكتشفوا من قبل العقل . ومثل تلك الظواهر المتنوعة ، مثل سقوط التفاحة ، والجزر والمد ، ودوران الكواكب حول محور الشمس كلهم يمكن شرحهم بقانون واحد شامل ، قانون الجاذبية . وهذا القانون وحده أظهر أنه يمد بدليل أخاذ لوجهة النظر بأن العقل له بصيرة في بنية الطيبعة .  

والفلاسفة اعتنقوا بالهفة الفيزياء الجديدة ، لأنها تبدو تدافع عن واحدة من أكثر معتقداتهم العزيزة ؛ هارمونية ( الانسجام ) العقل والطبيعة ، تشابه التفكير والوجود . فالقرن الثامن عشر ورث ، ولم يشك أبداً بهذا المبدأ للقرن السابع عشر للعقلانية . وهو ، فعلاً ، أي القرن الثامن عشر أنفصل عن العقلانية  ؛ غير أن هذا الانفصال لم يكن يشك بوجود هذه الوحدة أو الهارمونية ، وإنما كيف نوضحها أو نقيمها . فالنيوتنين إلى ما بعد النقد والفلاسفة هجروا الطريقة الأستنتاجية إلى العقلانية لصالح الطريقة الأستقرائية التجريبية . فلكي نعرف المنطق خلف الطبيعة ، جادلو ، علينا ، أن لا نبدأ بعد من المبادئ الواضحة بذاتها ومن ثم نهبط إلى أستنتاجات محددة . فهذا مجرد فرض نظامنا الاعتباطي ( تركيب ، بنية ) على الطبيعة . ففي الواقع ، علينا أن نبدأ مع الملاحظة والتجربة ، ومن ثم فقط نصعد إلى القوانين العامة . ومع ذلك ، سوى كانت طريقتنا أستنتاجية أو أستقرائية ، فأن الدافع خلفهم هو نفس الشيء ؛ هو توضيح الهرمونية بين العقل والطبيعة

(٢١) وكانت مهمة كانط أن يتصدى لتهديد شكوكية هيوم في نقدالعقل الخالص لينقذ أيمان التنوير بالعلم . وكانط يبدأ في دفاعه عن مبدأ السببية . وهو ، يجادل هنا بأن هذا المبدأ شرط ضروري لكي تعزو الموضوعية إلى التجربة، بتميز بين النظام الذاتي إلى الأحساسات والنظام الموضوعي إلى الأحداث ذاتهم . وعلى أي حال ، فالنظام الموضوعي لا يعط لنا ، وأنما يخلق من قبلنا . فالعقل يعرف البنية لتجربة فقط بسبب أنه يفرض أشكاله ( مقولاته ، قوالبه الفكرية  ) عليها ؛ ومن بين تلك الأشكال ( المقولات ) مبدأ السببية ، وفي عبارة آخرى ، فهذا المبدأ يستخدم لتجربة فقط بسبب فعالياتنا المسبقة جعلت التجربة تطابقها

وأعظم تهديد إلى معتقد التنوير بنسجام ( هرمونية ) العقل والطبيعة ، جاء في وقت مبكراً من عام ١٧٣٩ مع هجوم هيوم على السببية في رسالته عن العقل البشري . فبحسب ، هيوم ليس هناك من تبرير تجريبي إلى الافتراض بأن هناك أرتباط شامل وضروري بين الأحداث . فإذا نحن تفحصنا أنطباعتنا الحسية ، فأن كل ما نجده هو سلسلة من التكرار العرضي وليس أرتباطات ضرورية ، والتي ، هي ببساطة نتاج الخيال وتداعي العادات . وبالاصرار على أن الانطباعات الحسية تماثل الارتباط الضروري ، أربك هيوم فلاسفة التنوير فيما يخص معيارهم التجريبي للمعرفة . فالنظرة الفاحصة إلى التجربة تبدو تكذب أكثر من أن شهد لوحدة العقل والطبيعة . وهكذا ، فأن ارباك الثنائية ، يظهر حيث المبادئ الشاملة والضرورية إلى العقل تقف في تناقض عنيد مع المفرد والعارض 

بالتجربة

(٢٢) غير أن دفاع كانط عن مبدأ السببية كان له تأثير مزدوج على الأيمان بهرمونية العقل والطبيعة . فهو بين بأن الأنسجام ( الهارمونية ) يصح فقط على المظاهر وليس على الأشياء بذاتهم . فنحن نقدر أن نعرف الطبيعة طالما هي تتماثل مع مفاهيمنا المسبقة ، ولكن ليس ما دام توجد منفصلة عنهم وقبلهم . فهرمونية العقل والطبيعة ، قصرت ، لذلك ، داخل مملكة الوعي نفسه . فهي لا تدل على التطابق بين الوعي والحقيقة الخارجية  ، وأنما على أنطباق الوعي مع قواعده المفروضه ذاتياً أو مفاهيمه المسبقة . وعليه ، إذا تحدي هيوم قد واجه ، فأنه فقط بدفع ثمن حد العقل في مملكة الظواهر

ورغم صعوبة وغموض نقد كانط في نقد العقل الخالص ، إلا أنه واجه بموجة من النقد في عام ١٧٩٠ ، فهو ، بسرعة ، أصبح هدف إلى الهجوم المضاد إلى أنصار هيوم الجدد من أمثال ميمون ، بلانتر ، هامان ، شولتز ، فهم ، قالوا ، بأن كانط فقط يطلب الاختلاف مع هيوم . وحتى لو كان كانط على حق بأن مبدأ السببية شرط ضروري إلى التجربة الموضوعية ، فليس هناك أي سبب ، إذا كنا من جماعة هيوم الشكاكين ، أن نقبل مثل هذه الموضوعية  . فلماذا لا تكون التجربة مجرد أفتتان بالأنطباعات مثلما تخيل هيوم ؟ وأكثر من هذا ، فأن الدفاع بأن العقل هو المشرع للطبيعة ، فأن كانط ببساطة يفرض مسبقاً مبدأ السببية ، والذي كان القصد الأصلي في دفاعه . لأنه ألم يكن يعني بأن فعالياتنا المسبقة هي بمعنى ما السبب إلى 

تجربتنا ؟ 

(٢٣) وكل أنصار هيوم الجدد الذين شكوا في دفاع عن مبدأ السببية كان له نتائج مدمرة  على أيمان التنوير في الأنسجام بين العقل والطبيعة . فتلك الهرمونية ليس هددت فقط بالهوة بين العقل والأشياء بذاتها وأنما أيضاً بالفجوة بين العقل والمظاهر . فحتى داخل مملكة التجربة ، لا تزال هناك ثنائية حادة بين المبادى الشاملة والضرورية للعقل والمعلومات المفردة والعارضة إلى الانطباعات الحسية . ولهذا ، بدأ للعديد من الفلاسفة في نهاية القرن الثامن عشر ، كما لو أن العقل ينسج شبكته بدون أي ارتباط إلى الحقيقة الخارجية . فكيف ، رغم كل شكوك أنصار هيوم ، يكون ممكن  الدفاع وأعادة ربط العقل مع الطبيعة ؟ وهذا المسألة ، في الحال شغلت ، فخته ، شلنج ، هيجل

(٢٤) وعلى أي حال ، فلم ، يكن الأكتائب والموت هو الذي أحاط نهاية القرن الثامن عشر، فقد كان هناك وعد في التطور، والذي قدم بعض الأمل في أنهيار سلطة العقل . وهذا تدريجياً أعاد أحياء النماذج الغائية teleology في منتصف القرن . فالآن يبدو أن التنوير في نبذه التفسير الغائي في صالح التفسير الميكانيكي  ، أو السبب الكافي لم يكن ناضج . فبعض نتائج العلوم الطبيعية الأخيرة يظهر أنها أعطت دليل قوي في صالح الغائية . فتجارب هللر في التهيج ، وندلهام ، ومورباتوس في نظرية التوليد العفوي ، أظهرت ، لكي تبين بأن هناك قوى عضوية في داخل المادة . فالجوهر للمادة لا يستنفذ في الأمتداد الميت ، وفِي الواقع ، أنه مؤلف في التنظيم الذاتي والقوى الذاتية الفعالة . فالمادة أظهرت حية  ، بما أنها مثل كل الأشياء الحية تتحرك وتنظم نفسها ، حينما لا يكون هناك سبب واضح وأضح يدفعها للعمل . وعليه ، يمكن عزو المقاصد للمادة ، حتى ولو كانت ليس وعي بشكل صحيح . وهذه المادية الحيوية الجديدة ، والتي طورت من تولاند وبرسلي في أنكلتر ، وديدرو ، وهولباخ في فرنسا ، نشرت ودافع عنها من قبل هردر وفورستر في عام  ١٧٧٠ و ١٧٨٠بالمانيا

(٢٥) فاحياء الغائية في نهاية القرن الثامن عشر بدى أنقاذ إلى التنوير من قرنين المأزق المزعج . طالما أن مفكري التنوير تبنو النموذج الميكانيكي إلى التفسير . فهم كان لديهم أختيارين فقط في فلسفة الذهن  ؛ الميكانيكي أو الثنائي dualism . غير أن كلا  من هذين الأختيارين كانوا من الواضح غير مقنعين . فالمكانيكي دمر الحرية ولا يمكن أن يعد نسيج وحده للظواهر العقلية كأهداف . والثنائية قصرت الشرح العلمي إلى العالم المادي بأفتراض مملكة عقلية فائقة لطبيعة ، وعليه لا يبدو يكون هناك أي شرح علمي بعد غير مختزل إلى الظواهر العقلية

وعلى كلً ، فأن المادية الحيوية الجديدة ، قدمت تفسير  الذهن (العقل ) الذي حل المأزق . ونحن الآن نستطيع أن نشرح العقل ( الذهن ) كأعلى درجة لتنظيم والتطور إلى القوى الكامنة في الجسد . وهذا سوف يتجنب الميكانيكية طالما الجسد لم يعد بعد ماكنة وأنما عضوية organism  ؛ ويتفادى الثنائية بما أنه ستكون هناك أستمرارية بين العالم العقلي والمادي حيث كل منهما يتألف من درجات مختلفة من التنظيم إلى نفس القوة الحية ؛ فسيكون العقل شكل عالي من التنظيم والتطور إلى القوى الموجودة في الجسم ؛ والجسم سيكون شكل بدائي إلى القوى الكامنة في العقل

فبرغم من أن المادية الحيوية بدت واعدة ، فأنها لا يمكن أن تؤوسس نفسها بدون مقاومةعنيفة  .. فالسؤال قد أثار في الحال ، فيما إذا الغائية تستطيع فعلاً أن تمد بقوانين طبيعية يمكن التحق منها ، أو فيما أنها لا ترق إلى أي شيء اكثر من العودة إلى السكولائية القديمة . ففي وقت مبكّر من عام من عام ١٧٧٠ كان هامان قد أثار بالضبط هذا السؤال حين هاجم بعض الافتراضات الحيوية خلف نظرية هردر عن أصل اللغة . فاوفقاً لهامان ، أفتراض هردر إلى قوى عضوية ، هو فقط أعادة تقديم الصفات السحرية ، والتي هي  أعاد وصف الظواهر التي تفسرها ؛ أضاف لهذا ، أن الحيوية ما تزال لا تملك أجوبة إلى شكية هيوم حول السببية فيماإذا نحن نبني السبب كقصد أو لحدث سابق ( متقدم) فلا يزال لا يوجد هناك أرتباط ضروري بين السبب والنتيجة .

(٢٦) ومسألة الوضع العلمي إلى الغائية أصبح قضية رئيسية مع نقد كانط إلى هردر وفورستر . فقد جادل كانط بأن الغائية تساوي الضرورة الميتافيزيقا بسبب أن تفسيراتها لا يمكن التحقق منها في أي تجربة ممكنة . فنحن لا نقدر أن نتحقق من الأدعاء بأن العوامل الغير واعية تعمل وفقاً لغايات ، بسبب فقط أن تجربتنا إلى فعالياتنا المقصودة تستمد من وعينا . ونحن نفترض بأن الأشياء في الطبيعة تعمل وفقاً إلى غايات فقط في مماثلتها إلى فعاليتنا الواعية ؛ غير أننا لا نستطيع أن نثبت تلك المماثلة ، طالما نحن لا نعرف شيء عن العالم الداخلي إلى النباتات ، والمواد الغير حية ، والحيوانات . وكل ما نحن نستطيع أن نفترضه ،  من ثم ، بثقة ، هو أن الطبيعة  ” تظهر  أن تعمل ، كما لو كانتلها أغراض . وعليه ، فأن الغائية لها بالدقة دور تنظيمي ، وليس بنيوي في العلم

وهجوم هامان وكانط على حيوية هردر أثار أسئلة جديدة حول الأمكانيات إلى الغائية كمنموذج من التفسير في العلم الطبيعي . لأنه يبدو إذا العقل لا يقنع في البقاء داخل الحدود إلى التجربة الممكنة ، فعليه أن يقنع نفسه مع النموذج الميكانيكي إلى التفسير ، بيدأن هذا ليس مقنع أيضاً، طالما أنه فقط يعيد أيقاظ المأزق القديم  إلى الثنائية أو الميكانيكي . لهذا فأن فلاسفة القرن الثامن عشر بلغوا طريق مسدود . فهم رفضوا كل الخيارات المتاحة لهم . فالحيوية لم تنل رضاهم ، لأنها لا تلبي طلبهم في التحقيق ؛ والثنائية حدت من حدود العلم ؛ والميكانيكية لا تستطيع  أن تفسر الظواهر العقلية . فهناك يبقى طريق واحد للخروج من المأزق ؛ وهو مواجهة اعتراضات كانط ضد الغائية ومحاولة تحقيق بأخر النتائج العلمية . وهذا الطريق أنبثق فقط في أوأخر عام ١٦٩٠ مع الفلسفة الطبيعية إلى شلنج وهيجل .

                  هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here