العِراق.. «الحوار بوابة التَّعايش»

20 نوفمبر 2018

تَنادى حريصون، مِن مختلف الطَّوائف العراقية، رجال وطلبة دين ومدنيون، مِن الشِّيعة والسُّنَّة، مِن آل بحر العلوم وآل الخوئي وآل طه والسامرائيين، وقساوسة وباحثين في الصَّابئة المندائية والإيزيدية، وأئمة مساجد وخطباء، إلى مؤتمر «الحوار بوابة التَّعايش»، وهذا اللقاء، الذي عُقد في «المجمع الفقهي العراقي لكبار العلماء للدعوة والإفتاء»(اختتم في 8/9/2018)، بجامع الإمام أبي حنيفة، وقبل ذلك عُقد في كنيسة الكلدان، و«مندي» (معبد) المندائيين.
سارت تلك الجهود متوازية مع رياح السّموم الطّائفية، ونعلم الخطورة التي حفت بدعاة «التَّعايش»، يوم أصبحت الطَّائفية قاعدةً والدَّعوة إلى التَّعايش هي الشَّواذ، وسار في ركابها مثقفون، مِن كُتاب وباحثين وفنانين وشعراء، وهبت على الأطفال، دخلت الصفوف مع المعلمين والمناهج، فالصورة كانت قاتمة، لا تلمع فيها أنوار لدعاة السلم الاجتماعي.
جاء في بيان اللقاء أو المؤتمر الآتي: «تأكيد مبدأ سيادة القانون، وبناء دولة المواطنة من دون تمييز، مِن خلال حكومة عادلة قوية بعيدة عن التأثيرات السِّياسية، ومواجهة خطابات الكراهية، وتشريع قانون يُجرم التَّحريض عليها، ومواجهة الفساد بحزم ومعاقبة الفاسدين، وحماية المتظاهرين السلميين، وتحقيق مطالبهم في البصرة وبقية المحافظات، مع تأكيد ضرورة حماية الممتلكات العامة، التي هي مُلك الشَّعب، ووضع برنامج عملي مِن أجل إيجاد الحلول للمشكلات التي تُعيق بناء السّلم الاجتماعي، وضرورة إقرار العدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات للمواطنين كافة، وحصر السِّلاح بيد الدَّولة على نحو يضمن حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم».
ربَّ سائلٍ يسأل: إن هذه المطالب سياسية، فما علاقة دعاة التَّعايش بها؟! أقول: كيف سيكون تعايش ومواطنة، والسِّلاح غير محصور بيد السُّلطة، والفساد ينخر في المجتمع والدَّولة؟ ما قيمة التعايش الذي هو أول أبجديات الديمقراطية، إذا سالت دماء المطالبين بالماء والدَّواء في ساحات الاحتجاج؟
لا يُبنى التَّعايش، ليتجاوز مفهوم التَّجاور بلا صِلات واعتراف متبادل، إذا ظل يُحسب على مواقف سياسية. فعلى سبيل المثال، ورد في كلمة أحد المشاركين، والتي وصلتني مِن جنابه، وغير مخول بذكر اسمه، أن الإمام أبا حنيفة النُّعمان (ت 150ه) أيد الثورات العلوية، وكان تلميذاً لدى الإمام جعفر الصَّادق(ت 148ه). أراد بهذا الكلام تشجيع المذهب الآخر للتعاطف مع مذهبه.
أعطي الحق لصاحب الكلمة، وأثمن نيته وجهوده الصَّادقة، لكن لنفترض أن أبا حنيفة لم يسند الثورة الزَّيدية، ولم يقف بكلمة مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (قُتل145ه)، في الحرب مع أبي جعفر المنصور (ت158ه)، وأنه لم يكن تلميذاً لدى الصَّادق، فهل يبطل التَّعايش بين المذهبين؟!
وبالفعل تلك التَّلمذة غير ثابتة، فهما مختلفان أولاً في الفقه والرأي، ذلك إذا كان الإمام الصَّادق يمثل الفقه الإمامي المعروف، وثانياً أتى بها ابن أبي الحديد (ت656ه) في «شرح نهج البلاغة»، وهو المعتزلي الشَّافعي، حباً بالعلويين وأئمة الفقه السُّني كافة معاً، أما القول: «لولا السنتان لهلك النُّعمان»، كإشارة لتلك التلمذة لمدة سنتين، فقد جاءت متأخرة جداً، أول مَن طرحها الفقيه شاه عبد العزيز الدَّهلويّ (ت1823)، في كتاب أُختصر بـ«التُحفة الاثني عشرية»، مِن قِبل محمود شكري الآلوسي (ت1924)، لتأكيد أن فقه الصَّادق هو فقه أبي حنيفة نفسه. أما أستاذ أبي حنيفة فهو حماد بن سليمان، وظل شيخه حتى مماته (120ه)، وكلاهما مِن مدرسة الرَّأي، وإخلاصاً له سمى أبو حنيفة ولده حماداً.
القصد مِن هذا، يتطلب التَّعايش قبول الاختلاف، ليس بالضرورة أن يكون هناك اتفاق، فاختلاف الآراء وأسلوب العبادة يضمنه التَّعايش، في حال عدم إشغال الدِّين بالسياسة، وإذا يُراد أن توظف آراء أبي حنيفة في التَّعايش، فيكون الأخذ بأنه صاحب رأي، وقال بمساواة الدِّماء بين البشر، واعتبر المسجد مفتوحاً لغير المسلمين، وقال للمرأة الحق أن تكون قاضية، في ما تصح بها شهادتها، على خلاف بقية المذاهب.
كانت جهود هذه الثَّلة، المجتمعة في جامع أبي حنيفة، من العمائم والقلانس والأفندية، كوةً للنُّور، وسط ظلمة الكراهية، المدعومة بالسِّلاح والفتاوى، وخطاب الشَّرِّ، وهي مدعوة أن يؤسس للتعايش فكرٌ واضحٌ، يفصل بين السِّياسي والدِّيني، بين المواطنة وعقائد المواطنين، فالمواطنة حق الجميع، ضمن الحدود الجغرافية للوطن، والعقيدة الدِّينية أو المذهبي حق الفرد، فهذا عصر الدولة الوطنية الذي بدأ من أكثر مِن قرن، وبه انتهى عصر الإمبراطوريات، المبنية على العقيدة الدِّينية والمذهبية، والتي نجد الإسلام السِّياسي، يسعى لإعادتها، على أساس الشمولية.
إن التَّعايش المقصود، حق الإنسان في وطن لا فضل لأكثرية على أقلية فيه، ولا لأقلية استحواذ على الأكثرية تحت القوة. كان مكان اللقاء أهلاً لتكريس التَّعايش، والوضع حرج، بحاجة لساسة وفقهاء وخطباء، مِن أمثال مَن قال فيه بصير المعرة، قبل أكثر مِن ألف عام: «فالعِراقيُّ، بعده، للحِجازِ/يّ قليلُ الخِلاف سَهْلُ القِيادِ/ وخطيباً، لو قام بين وُحُوشٍ/عَلم الضَّاريات بِرَّ النُّقادِ/راوياً للحديث، لم يحوج المعْ/رُوف مِن صِدقهِ إلى الأسْنادِ» (سِقط الزَّند).

الكاتب

رشيد الخيّون

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here