التربية والتعليم تحت رحمة من لا تربية ولا تعليم لديهم

جواد وادي
شاهدت وبحزن شديد اليوتيوب الذي انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي، الذي يفضح تصرفات السيد محافظ نينوى وهو يوبخ وبطريقة غاية في السادية وانعدام اللياقة الأدبية في الحوار او حتى المحاسبة المتعقلة حين يواجه مسؤول موظفا مقصّرا مهما كانت درجة التقصير والتجاوزات، بعد م اتباع آليات المواجهة التي تمنح لأي طرف الحق في الرد والتبرير وتوضيح ما جرى للدفاع المشروع عن النفس حتى وان كان الأمر واضحا ولا يحتاج الى تبريرات أو تسويف للحقائق من اجل الإفلات من العقاب، هكذا نفهم احترامنا للقوانين والتشريعات المعمول بها كونيا.
لكن ما جرى وكما شاهدت ولعدة مرات ذلك الفيديو المخزي، طريقة البلطجة التي مارسها السيد المحافظ ضد التدريسي، مدير المؤسسة التعليمية، وقد انتابته فورة غضب غير مبررة على الاطلاق تنم عن موروث بوليسي وطريقة مواجهة تذكرنا بما كان يقوم به ازلام البعث وهم يكيلون السباب والشتائم والاهانات للطرف الآخر، دون اجراء تحقيق لمعرفة ما جرى وإعطاء الحق للطرف الآخر للدفاع عن موقفه، وذلك السيل من الاتهامات التي هي بالأساس متعلقة بالتربية والتعليم ولا علاقة لها بأي موقف سياسي، لكننا لاحظنا أن المحافظ يريد أن يوجه خطابه المبطن بالتهديدات والوعيد بالثبور واشد العقاب، لا للتدريسي المسكين وهو يرتجف من الخوف وعدم القدرة على الرد للدفاع عن مشهد المحاكمة بغياب اطراف كان ينبغي أن تكون هي صاحبة الشأن في تسيير العملية التربوية والتصدي والرصد لأية تجاوزات قد تصدر خارج سياقات العمل التربوي، لتمارس حقها في إدارة الحالة اعتمادا على تشريعات وقوانين تنظم العمل الإداري والتربوي بطريقة حضارية ولباقة في التعامل تنم عن احترام آدمية البشر حتى وان كان التدريسي قد ارتكب خطأ تربويا واداريا يعاقب عليه ضمن التشريعات المعمول بها لا أن يبيح المحافظ أن ينصّب نفسه جلادا بهذه الطريقة الفجة وهذا السلوك الأرعن.
لا اخفيكم سرا بأنني صُدمت جدا لتلك المشاهد وأنا اتعاطف بقوة مع التدريسي الذي أفقده المحافظ القدرة على الكلام وانتزع حقه في الرد، لأنه كان يلجمه وبطريقة خسيسة وبوليسية، يبدو أن السيد المحافظ احيا بداخله دون أن يعي، حقده الدفين إزاء الآخرين، كما تربى عليه ونسي أنه يخاطب بشرا، إن لم يكونوا بمستواه، لعلهم أقدر منه في الحديث والمواجهة. ولا اخفيكم ذلك الإحساس بالضيم الذي انتابني وتمنيت لو كنت مكان ذلك التدريسي البائس لبصقت في وجه المحافظ وليكن ما يكون احتراما لآدميتي.
كل ذلك مرده الإحساس المضاعف من الحسرة والأسى، كوني مارست التدريس في العراق والجزائر ثم المغرب لأكثر من خمسة واربعين عاما وبشكل متواصل، ولدي وبتواضع شديد، تجربة تمكنني من تفهم هكذا حالات ومواقف، وتوظيف التجربة الطويلة في علاج مثل هكذا إشكالات تكون طبيعية في خضم العمل التربوي، ولقد واجهتنا مثيلات لها، لكننا كنا في المجالس التربوية نعالجها بكل روية وتعقّل وبُعد نظر، موظفين ما نمتلك من خبرة طويلة، لتكون احكامنا بعيدة عن القسوة والعقاب البدني الذي تعرّض له تلميذ ذلك التدريسي، الذي يكون ذا خبرة تربوية تنقصها التجربة والتروي في معالجة مثل هكذا حالات، لأن التربية والتعليم هي فنٌ صعب المراس على من لا يفهم كنهها ويمتلك الدربة الكافية أن يكون على بيّنة في التصدي لمثل هكذا تجاوزات من لدن المتعلمين صغارا كانوا أم كبارا.
لنقتطف بعض مما قيل في مجالي التربية والتعليم هذه المقولات لعلها تنفع من تنقصه التجربة العملية والفكرية في هذا المجال الحيوي الخطير في تربية النشأ تربية سليمة بعيدة عن تعقيدات وموروث مجتمعاتنا العربية والاسلامية التي تعج بالتخلف والصدام الدائم والعنيف مع كل ما هو حضاري في هذا المحال الحيوي للغاية:
تعني التربية بمدلولها اللغوي تعهّد الطفل بالرعاية الشاملة للتغذية المعنويّة والماديّة إلى أن يشتدّ عوده، وقد أولى العلماء والفلاسفة مفهوم التربية جلّ اهتمامهم، وسعوا إلى الكشف عن كافّة مضامينه العلميّة، وتوصّلوا لعدة تفسيرات مختلفة في أشكالها له، وجميعها تتفق في جوهرها، ومن هذه المفاهيم:
*أوضح أفلاطون مفهوم التربية على أنّه إعطاء الجسد والروح أكبر قدرٍ ممكن من الجمال والكمال، وهذا الأمر يعتمد على الناحية الكميّة من التربية، وذلك عن طريق مزاولة كافّة الأنشطة البدنيّة والعقليّة التي تؤدي إلى الكمال..
*قال أرسطو: إنّ الغرض من التربية هو تمكين الفرد من عمل كافة الأمور الضروريّة والمفيدة في حالات الحرب والسلم، إضافةً لقيامه بكل ما هو خيرٌ ونبيل من الأعمال التي من شأنها إيصاله إلى حالة السعادة.
*قال جون ديوي: إنّ التربية هي عبارة عن عمليّة تكوين وصياغة فعاليّة الفرد، ومن ثمّ تحويلها لعملٍ اجتماعي مقبول لدى المجتمع أو الجماعة.
ويمكننا هنا القول بأن العملية التربوية والتعليمية هي عبارة عن:
عمليّةٌ افتراضيّة، أي عمليّةٌ غير ظاهرة، وإنّما يُمكن الاستدلال عليها من خلال آثارها ونتائجها.
وباختصار شديد ينبغي أن نفرق بين مفهومي التربية والتعليم ولماذا دائما تسبق التربية التعليم، لأن التربية تأتي اولا ومن ثم يلحق بها التعليم لتشكلا صنوان لعملية تلقينية متكاملة ورصينة، تعطينا جيلا يتناسق مع محيطه ومجتمعه وتفاصيل وجوده الانساني.
“إن التربية والتعليم عبارة عن مصطلحٍ شاسع يُشير في معناه إلى السبل والطرق التي تُمكّن الأفراد من اكتساب المعارف والمهارات، التي يتوصّلون من خلالها إلى فهمٍ صحيحٍ لأنفسهم وللدنيا، ويشار إلى أنّه بين التربية والتعليم عموم وخصوص، فهما ليستا كلمتين مترادفتين؛ حيث إنّ التربية بمفهومها أشمل من التعليم الذي يُعتبر جزءاً من التربية؛ حيث يقتصر التعليم على المعلومات المُقدّمة من قبل المعلّم، إضافةً لعددٍ من الاتجاهات والمهارات داخل الصف، أمّا التربية فإنّها تتواجد داخل الصف وخارجه، ويقوم بمهمة التربية المعلّم وغيره، ولهذا فإنّ مفهوم التربية يعتبر أعم وأشمل.”
ان عملية التربية والتعليم في مجتمعاتنا المتخلفة بشكل عام وفي العراق على وجه التحديد، تحتاج الى اعادة نظر جذرية اذا ما توخينا الحذر الشديد في التعامل مع الاجيال الناهضة في خضم الفوضى التي تحيطهم وبشكل يثير القرف والاشمئزاز من حجم الاكراهات التي يعيشونها ويعانون منها، لهذا فمن أولوية التربية والتعليم ايلاء اهتمام شديد الخصوصية من لدن مفكرين وباحثين وعلماء وتربويين لهم دراية كافية في فهم هذه العملية الخطيرة والتبصر بدورها في تخليص المجتمع من ادران كافة الموروثات التي تشكل المعوقات الحقيقية للوصول الى الأهداف التربوية والتعليمية المنشودتين.
أخيرا ورغم ما اقترفه السيد التدريسي من خطأ تربوي وتجاوز لكل التشريعات التربوية نحثه على الدراسة والاطلاع والتبين حول هذه المسؤولية الكبيرة التي ننشدها جميعا، لنقول للسيد المحافظ بأن تصرفه الأرعن كان تجاوزا خطيرا على أسرة التعليم والعملية التربوية برمتها، وعلى المجتمع العراقي والدولة العراقية، وبهذا فهو لا يستحق أن يتولى منصبا كهذا يمارس من خلاله شططا وتعنيفات لا موجب لها بحق الناس، متخطيا كل الأعراف والقيم الأخلاقية وقبل كل شيء القوانين المعمول بها احتراما لهيبة الدولة التي ينتمي لها.
ونهمس في اذن التدريسي المعنّف بمراجعة تكوينه وحثه على البحث والاستقصاء المطلوب لينجح في مهمته التربوية على أكمل وجه.
والكلام موجه لكافة من لهم علاقة بأسس بناء وتكوين النشأ والاجيال القادمة، لأنهم عماد المجتمعات الحديثة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here