جدل السِّياسة والدِّين.. الصَّواف والبَزاز

لا تُميز الأحزاب الدِّينية بين المسلم والإسلامي، فإذا اعتبروا السِّياسة عبادة، تراهم يدخلونها ركناً، غير معلن، بين أركان الإسلام، ووفق هذا التَّصور يعدون التَّدين ناقصاً إذا لم يسع الملتزم بتطبيق أركان الدِّين إلى قيام دولة إسلاميَّة، آجلاً أم عاجلاً تُقاد بالحاكمية الإلهية، فهو الهدف الأعلى لدى كلِّ حزب ديني، مع اختلاف السبيل والتَّطبيق، وبالتالي كلُّ مَن لا يقرُّ بهذا الرُّكن فهو «علماني»، لهذا صنفوا العلمانية صنواً للإلحاد، مع أن في هذا الاعتبار يدخل فقهاء دين كبار، ممَن فصلوا فصلاً واضحاً بين الدِّين والسِّياسة.
دار الجدل بين مؤسس «الإخوان المسلمين» بالعِراق، وأول مراقب للجماعة، الشَّيخ محمد محمود الصَّواف(ت1992) ورجل القانون المعروف عبد الرَّحمن البزاز(ت 1973)، عميد كلية القانون والدبلوماسي ورئيس الوزراء العراقي(1965-1966). كان اللقاء في سجن بعقوبة عِقب ثورة 14 (يوليو) 1958، حيث تُعقد محاضرات بين السُّجناء، ومن المحاضرين كان الصَّواف والبزاز. كلاهما متدينان، ولكن الأول اعتبر السيِّاسة ركناً مِن أركان الدِّين غير المعلنة، والثَّاني يعتبر الدِّين عِبادةً وثقافةً وأعرافاً وأخلاقاً مِن غير السِّياسة. ذهب الصَّواف للدراسة بالقاهرة وحضر ندوات حسن البنا(اغتيل1949)، فأدى القَسم «الإخواني» وعاد مراقباً لهم بالعراق، أما «البزاز» فذهب، في الفترة نفسها، للدراسة بلندن، وعاد حاملاً علم القانون، لم يتأثر تدينه الذي شب عليه، وظل هكذا، حتى رُمي في سجن «قصر النهاية»(1968)، وخرج منه مشلولاً.
تحدث الصَّواف في كتابه «مِن سجل ذكرياتي»(1987) عن جدل الدِّين والسِّياسة بينه وبين البزاز، ضارباً مثلاً على التزام البزاز الدِّيني، الناقص مِن الالتزام السِّياسي- الحزبي، قائلاً: «وأحبُ أن أضرب مثلاً مما وقع لي مع البزاز في السِّجن مما يدلُ على ضحالة فكره الإسلامي، وبعده عن أنوار هذا الفكر العظيم». أما الضَّحالة التي رُمي بها رجل القانون البزاز مِن قِبل مراقب «الإخوان» آنذاك، لأنه فصل الدِّين عن السِّياسة، فقد قال في محاضرته بما لا يُرضي الساعين إلى دولة إسلامية: «إن الإسلام إنما هو دين للعبادة والأخلاق ولا علاقة له بالسِّياسة ولا بالحُكم»(المصدر نفسه). أما الأنوار التي ابتعد عنها البزاز، لأنه لا يقرّ وجود النُّور في العمل السِّياسي الدِّيني كالذي أنشأه الشَّيخ الصَّواف، بينما الرَّجل عندما تولى رئاسة الوزراء كان أحد الفضلاء من رؤساء حكومات العراق عبر تاريخ الدَّولة العراقية.
اعتمد الصَّواف في رده على البزاز بالفترة النَّبوية ثم الخلافة الرَّاشدية(11-40ه)، على أن الإسلام كان في الحُكم، ولا أحد ينكر ذلك، لكن مَن هو يمثل الفترة النَّبوية اليوم، ومَن يمثل الخلفاء الرَّاشدين الأربعة، وأن ثلاثة منهم قد اغتيلوا، لأسباب سياسية، بمعنى أن ما كان يُطبق في الحُكم السياسة، أما الدين فقد استقر عليه الناس، وكل الفرقاء في الدول الإسلامية لم يتركوا الفروض الدينية، على الرغم مِن كل الخلافات السياسية. هذا على مستوى الدَّولة، التي وضع شرطها الشيخ الصَّواف تطبيقاً للآيات التي وردت فيها مفردة «الحُكم» على إنها السُّلطة السياسية، بينما لا يعتبرها البزاز ومئات من الفقهاء دالة على السياسة.
غير أن الصَّواف ضاقت عليه السِّياسة داخل حزبه «جماعة الإخوان»، وحوكم عدة مرات بتهم مالية، نعم خرج منها بريئاً، حسب ما ورد في مذكراته، لكنها أفقدته منصبه كمراقب للإخوان، وبسبب خلط الدِّين بالسياسة التي لا يقرها البزاز، عبرت جماعة الإخوان حدود الوطن، فحضر مندوب من «المركز العام»(العبارة للصَّواف في سجل ذكرياته) بالقاهرة ليبت بمشاكل الفرع ببغداد! فما هي الدَّولة التي سعى إليها الصَّواف، وما هي الدَّولة التي أراد البزاز إحصانها بالمدنية واللبرالية والوطنية!؟ وكان أول رئيس وزراء مدني، وكاد يكون رئيس جمهورية، أي خارج نطاق القوات المسلحة. بعد سنوات ألتقى الصَّواف بالبزاز، وهو رئيس وزراء، بمكة للعمرة، وذهبا يصليان معاً، هذا بنية العبادة وذاك بنية العبادة والسياسة، ففاتحه الصَّواف في شأن رفع مستوى الفقهاء ووضع مناهج «تربي أجيالاً من العلماء تسد الثغرات في المستقبل». لكن ما قصده بطلبه مِن رئيس الوزراء نفسه الذي اعترض عليه وهما في السِّجن، ولما رد عليه البزاز بعبارة «شسويلهم»(ماذا أفعل لهم)، غضب مِن الجواب، وقال: «لم ألق الجواب الشَّافي ولا النَّفس التي رضيت أو اطمأنت لهذا الكلام الذي سمعه مني، بل أسمعني ما أوجعني».
كان البزاز يريد فقهاء للدين، والصَّواف يريدهم للسِّياسة والدِّين معاً، وهذا هو جوهر الخلاف بينهما، فبعد أن تنتهي من مطالعة «مِن سجل ذكرياتي»، تعرف جيداً خطورة زج الدِّين في العمل الحزبي، وتحت مسميات «الإخوة الإسلامية»، أو «فلسطين»، والعراق كان بوجود الأحزاب العقائدية يفور كالتَّنور، ولم يهدأ حتى يومنا هذا. كانت الدَّولة التي نشدها البزاز تُدار مِن بغداد، بينما الدَّولة التي أراد مراقب الإخوان لا حدود لها، تُدار مِن قِبل «المركز العام»، فالمرشد المركز والمراقبون الفروع!

الكاتب

رشيد الخيّون

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here