نقد الدين من وجهة نظر نيتشه !

من الأكثر فعالية في نقد الدين ماركس أم نيتشه ؟ هذا السؤال قلما طرح عندنا ، لأنه ، عادة ، ما نظر لنيتشه على كونه فيلسوف عدمي ، خصوصاً في وقت سيادة الفكر الماركسي ، وأنه ، في الدرجة الأولى فيلسوف فردي ، وفيلسوف ليس جماهيري ، ولا يمجد الجماهير ، ولكون ، من ناحية آخرى ، أن العرب لم يعرفوا الفرد والشخص ، فمهوم الفرد يعرف ويتبنى فقط في حضارة عالية تقيم الفرد ، ككيان مستقلة بذاته ، فنحن ما زلنا في المرحلة القطيعية ، مرحلة الجماهير ، والنَّاس ، والجموع ، ولم يوجد بعد لدينا الفرد ، والشخص القائم بنفسه ، بعيداً عن القبيلة ، والمذهب ، والطائفة ، أي ما زلنا نعيش في مرحلة الأمة ، أي ما تتسحسنه الجماهير والجموع ، وماذا يمكن تتحسن الجماهير ، سوى القشور ، وترمي ألب ، ! لذا لم يقدر نقد للدين نيتشه حق قدره ، لكونه في الأساس مخصص للأفراد وليس لمجموع ، وهو الذي كان يقول لن أهتم ولا يهمني إصلاح الجماهير ، ولن أريد أخلق الأوثان ولا التلاميذ والاتباع ! وآن لن الآوان أن نلتف إلى الأفراد في التربية قبل الجموع التي لا يمكن تغيرها أبدآ ، فمثلما فشلت محولات كل الخيمائين في تحويل المعادن الخسيسة لذهب ، فشلت مشاريع التنوير في جعل الجماهير صالحين ومواطنين يهمهم مصلحة الكل والوطن قبل مصالحهم الأنانية . فنيتشه ، كاتب الأفراد الذين لم ينخدعوا بالجماهير وأسطورتها ، ولعل هذا القصيدة التي كتبها ستيفن جورج الشاعر الألماني الكبيرة تمثل شيء عن فلسفة نيتشه ورأيه في الجماهير ؛

الحشد البليد يخب تحت ، فلا تزعجه ،

فلما تطعن السمك الهلامي ، وتقطع العشب ؟

فدع للحظة ، مع ذلك ، الصمت المهيب يرين ،

ودع الهوام التي تلطخه بفخر ،

تسمن في الأبخرة النتنه ،

قد تساعد في خنقه ،

فما عليك ، أولاً ، سوى الابتعاد ،

لأن عليك ، من ثم ، أن تواجه العصور بتألق ،

مثل القاد الآخرين ، بتاج ملطخ بالدم ،

فأنت منقذ ! وأنت الأكثر لعنة .

أتراك تخلق الإلهة ، لكي تطيح بها !

فأنت لا تسترح مطلقاً في الدعة أو بما تبنيه ؟

فأنت دمرت ما هو قريب لنفسك ،

لكي بعد ذلك ترتجف برغبة جديدة ،

وتصرخ بألم طالب العزلة .

وجاء متأخراً كثيراً هذا الذي قال لك بتوسل ،

ليس هناك بعد متسع فوق الجرف الصخري

المتجمد ، ولأ في وكر النسر ! وهذا ما نحتاج ، الآن ، أن نحبس نفسنا في دائرة مغلق بالحب . (١)

فكلا من ماركس ونيتشه تحدث عن الدين وقال ماركس عنه بأنه وعي زائف ، ونقد نيتشه الدين وقال بأنه تزيف للحياة ، أو في عبارة ماركس الأكثر شهر الدين أفيون الشعوب ، وكذلك ، بعبارة نيتشه المدوية ، مات الله ، لنرى ، من ثم ، مدى عمق كل تلك الأفكار وأصالتهم ، وعليه ، لنظر ، من بعد بعمق كل من تلك الفكرتين ! ولكن ، قبل ذلك ، علينا ، أن نظر ،، بشكل عام بتاريخ الدين ، ثم نعود لهذا المسألة التي تناولها كلاهما . ونسأل ؛

هل كان الدين تزيف مقصود للحياة ، ولماذا كان هناك تزيف ؟ سنحاول أن نجيب على هذين السؤالين ، في البدء ، لنشرح ، هنا ، المقصود بهذا التزيف ، ومن ثم نقدم نقد نيتشه للدين ، الذي كان يتمثل في المسيحية واليهودية ! شيء اعتيادي حينما يكون هناك تزيف ، أن يكون هناك وعي بهذا التزيف ، أي أن المزيف يعرف ما يزيف، ويعرف الغاية من هذا التزيف ، فلا يمكن أن يزيف بدون أن يعرف ما يزيف ، ففي هذه الحال لا يكون هناك تزيف ، ويسمى ما يقوم به وعي زائف ، أي يتم بغير علمه ، ويظن ما يقوم به شيء صحيح وصادق ، وهذه ما أطلق عليه ماركس الوعي الزائف ولم يسميه تزيف ، لأن التزيف يتم عن قصد ودراية في حين الوعي الزائف ينتج بتلقائية وعن غير وعي ، وبأيمان بأن ما يقوم به حقيقي ، وبأنه يحاول أن يفسرها ما هو أمامه . فحقيقة أن الوعي الديني ، كان في البداية ، وعي عادي ، كأي وعي ، وسمى فيما بعد بوعي ديني ، فهو في البداية مجرد وعي بالعالم والحياة ، ومحاولة بدائية لفهما ، ولأنه نسب وجود الحياة والكون لقوى عليا ومفارقة لعالمنا الأرضي ، لقوى تسكن فوق في السماء التي نظر لها على أنها حجاب وستار يفصل الإلهة عنا، سمى ، هذا الوعي ، الذي ينسب وجود الحياة ونشؤ الكون للقوى عليا ، فيما بعد بوعي ديني . هذا الوعي كان وعي فردي ، للأشخاص ليس متدينين ، لمفكرين ، يحولون تفسير ما موجود . وعادة ما يؤشر لهذا الوعي على أول انفصال لأنسان عن الطبيعة ودراكه لوجود في هذا الكون . ولذلك فالأديان لم تنشأ سوى في مرحلة متأخر من تطور الوعي .

ومع مجئ الأديان التوحيدية بدأ تزيف الواعي وتزيف الحياة ، ووأستبدلها في عالم أخرى . وعند هذه النقطة ، علينا أن نرى بداية تزيف الدين لللحياة ، ولماذا نشئ هذا التزيف ، فهنا كان التزيف مقصود وعلى وعي به ! لكون أن مؤوسي هذا الأديان كانوا على وعي بما يقوموا به ، فهم أرادوا أنشئ عقيدة ودين ، لقصد ما ، ولهدف يخدم أرادتهم ، فهؤلاء استولوا ما تشكل من وعي ديني ، خلال العصور المتعاقبة ، وعملوا على اعادة صياغته ، بما يخدم اهدافهم . وبالطبع ، من ينشأ عقيدة ، لم يكن يهتم في الدرجة الأولي بصحتها بقدر ما تكون مقنعة وجذابه ، وتجيب لمطالب لمن يقرأها ، أو يسمعها ، والتي يحاول المؤوس أن يدسها في نفسوا من حوله ومن صاغ لهم تلك العقيدة أو الديانة . وعلينا ، أن نفهم كلمة الزيف لا بالمعنى التي تشير أليه الآن ، بأن صاحبها يعي كل تفاصيل تفاصيل التزيف ، كالذي يزيف عملة مثلاً ، فالتزيف ، في حالة الأديان ، يجب أن يفهم ، بسد حاجة ، وتقديم مساعدة ، حتى ، ولو كانت تلك الحاجة والعون بها من الضرر والسم أكثر بما فيها الفائدة . ولكنه في وقتها تفي بالمراد وتسد تلك الحاجة . فموسى ، والمسيح ، ومحمد ، كلهم ، انطلقوا من هذه الحاجة والعون الذي يجب أن يقدم في وقته ، بغض النظر عما يخلفه للأحقاً من أضرار، فهم في وقت تقديم تلك الحاجة لم يكن مهتمين في المستقبل ، بقدر ما ما يعنيهم وقتهم وما حولهم من أن أناس ، فالمستقبل ، يجب أن يفهم من قبل أهله ، وعليهم وضع ما يناسبهم وما يحتاجوه . وعليه ، فأن موسى ، الذي هو أول مؤسس لدين توحيد ، كان همه الأولى هو وضع عقيدة توحد القبائل اليهودية وجعلها تحت سيطرته ، وبالمثل أراد المسيح ، أو القديس بول تأسيس دين خارج عن السيطرة اليهودية ، وجعله دين شامل ، وليس مقتصر على ما كان يسمى يهود . أما محمد ، فقد أراد هو الآخر تأسس دين جديد ، بعيد عن اليهودية والمسيحية ، وبأسمه ، ويجاد كتاب ، خاص به للعرب ، فقد سيطرة فكرة يجاد كتاب خاص بالعرب ، كالكتب التي لدى اليهود والمسيحين ، كما يقول يقول المستشرق السويد أندريه تور في كتاب عن محمد، العقيدة والرجل ، هذا الكتاب الذي أشاد بقوته وانصافه لمحمد ، كل من محمد أركون ، وهشام جعيط ، وآخرين كثيرون ، والذي قمنا في ترجمة ، وصدر في بغداد . أن هؤلاء الأنبياء ، كانوا وقبل كل شيء واعين بالدور الذي يقوموا به وما رادو التعبير عنه ، فخلقوا عالم آخر فرضوه على البشرية ، بفضل موسى وأنبياء اليهود ، فأرادة القوة ويجاد شيء جديدة وفرض على البشرية ، كانت هي التي تقف وراء رغبتهم ، وبالطبع أستخدموا لها كل الوسائل ، بما فيها أسم الله ، الذي بالطبع ، كان يسمئ في أسماء مختلفة حسب اللغة النبي ، عبرية ، أرنبة ، عربية . فالنبياء التوحيد ، كان المهم هو خلق عالم ، حسب ما يتصوره ، وما يوافق الظروف ، واعتمدوا على ما قدمته اليهودية من ديانة توحيدية ، فكلها ، كانت تنسج على منوال ما جاء لدى اليهود . فالرؤية اليهودية والتي ، خلقت عالم آخرى مفارق لعالمنا ، قد أنتقلت عدواها لبقية الأديان بغض النظر ، عن مزاج االأنبياء والشعوب التي ينتمون اليها ، فقد فسر العالم الآخر في اليهودية على أنه هروب من الأضطهاد في عالمنا ، في حين أن العرب ما كان يفكرون في للهروب لعالم آخر ، فهم ، بعد حين أنشؤ امبراطورية قامت باضطهاد الآخرين ، ولكن الدين الإسلامي قلد في هذا الهروب الدين اليهودي . فالعالم الآخر ، هو مصدر هذا التزيف ، وهو الأغراء الذي استخدم في سبيل تحطيم عالمنا من أجل العالم الآخر . مادام إبدي وليس زائل مثل هذا الدنيا ! ومن هنا حملة نيتشة على المفتونين في العالم الآخر ، لأنه يقوم على حساب هذا العالم ، فعالمنا في نظرهم لا يستحق أن أي اهتمام ، وكل شيء فيه جائز ومباح ، حينما يخدم العالم الآخر . ومن هنا يبدو نقد نيتشه أعمق من نقد ماركس بكثير ، فماركس ركز في نقده على البعد الأجتماعي للدين ونظره له من هذه الزاوية فقط . فهو مجرد أفيون مخدر ، وتاوه الإنسان المقهور ، والوادي الغارق في الدموع ، في حين كان نقد نيتشه من أنه متعارض مع الحياة وعلى حسابها ويزيف كل ما هو أصيل فيها . ومن هنا كان نيتشه ناقد إلى الدين والأخلاق ، هذين البعدين التي تقوم عليهم كل حياة . فنيتشه رأي في المسيحية نفي لكل ما هو طبيعي ، ليس فقط الغرائز وحدهم ، تحجيم الإنسان ككائن مريض ، كائن ضعيف ، ومنافق ، كاره إلى الأخرين ونفسه ، وشوهت العلاقة بين البشر وجعلت من الخضوع الفضيلة الوحيدة . والمسيحية لا تمثل تعاليم المسيح ، ونقد إلى المسيحية لا يمثل نقد للمسيح ، وإنما نقد لكنيسة والمسيحية ، فحين يقول بأن الأديان تزيف الحياة ، وتفرض عليها قيم تتعارض وجوهر الحياة ، التي يجب أن تسم بالقوة والحيوية ، وتضع لها قيم من صلب هذا العالم وليس العالم الآخر ، ليس لأنه يؤمن بالقوة الفضه والوحشية ، وأنما أراد أن ينشأ كائن معافى بعيد عن ذلك التي دعت له الأديان كائن ضعيف همه الخضوع والأذعان للقسس والكنسية ، والإنسان السوبرمان ، مقارن بما هو سائد في الأديان التوحيد الذي كل همها العالم الآخر . ومن هنا يجب أن نفهم دعوة لموت الله ، فهي دعوة لنبذ عالم الأديان التي سادت في كل تلك الحقب التي نشأت فيها الأديان وعالمها وخلاقها . فحين يموت الإله العالم القديم يحتم علينا أقامت عالم جديد ، ينسجم مع العصور الحديثة . فهذا النص يشير بلا مواربه إلى أننا في نهاية فترة وعهد جديد . وكلنا شركاء في قتل هذا الإله وموته ، فهو لم يعد يلائم للعصور الحديثة ، فالله ، الذي كان يمثل نوع من القيم والفهم إلى العالم والحياة لم يعد يستجيب لدواعي عصرنا لذا قمنا بقتله ، وعلينا ، أن نجد ، قيم جديدة يمثلها الإنسان السوبرمان ، وعلينا أن لا نرتعب من هذا الكائن ، فهو ليس الوحش الأشقر كما صوره البعض ، وأنما هو نتيجة محتومة ، للعصور الحديثة ، كدعوة كل الأيدولوجيات التي نشأت في التاسع عشر والقرن العشرين في أقام نظم جديدة ، ولكن نيتشة لم يدعو ، للقامت نظام جديد ، وإنما إنسان جديد ، ومخلوق بعيدة عن سيطرة الأفكار الشمولية ، فهو فيلسوف يمؤمن بالفردية والفرد، وهمه الأفراد الأصحاء قبل ، حكم الجماهير والطبقات . وهذا النص يُبين لنا أهمية نقد الدين لدى نيتشة ، فعلى أن أن يتحرر من الدين لكي ، يستطيع أن يكون كائن سوبرمان . ففي هذا النص يصور موت الله وما يترتب عليه من نتائج ، فموت الله حادث جلل ، فقد عاشت البشرية في كنفه وتحت رعايته للقرون طويلة ، فماذا عليه ، بعد هذا أن تفعل وأي الطرق تسلك . فنيتشه فيلسوف النهايات القصوى ، والفيلسوف الحدي الذي لا يقبل مساومة . ومن هنا يكثر التسأل في هذه النص عما نحن فاعلون مع موت الأب الراعي للوجود والإنسان ، فنحن بتنا أيتام ، وعلينا أن لا نبق نعيش كما كنا في السابق وكأنه لم يحدث شيء ! وأنما أن نخلق إنسان على العكس من الإنسان القديم ، الذي قام بتزيف كل شيء وخلق عوالم وهمية ، فتلك الدعوة إلى السوبرمان هي نتيجة حتمية ، تعقب الإنسان الزائف الذي عاش وما زال يعيش بين ظهرانينا ، فهل هذه الدعوة ك التي مضى عليها قرن من الزمان يمكن تضع حد لهذا الأغتراب ، عن الحياة والكون ؟ فلنستمع أخيراً لصوت نيتشه وهو يصور لنا عذابات الله الأخيرة ، وهو ينسحب من الوجود مخلفاً خلفه فراغ رهيب لا يعرف أحد بماذا سوف يملئ !

” المجنون ”

ألم تسمع بالرجل المجنون الذي أضاء مصباحه في ضوء الصباح المشرق ، وندفع إلى السوق ، ويصرخ بدون أنقطاع ، أنا أبحث عن الله ! أنا أبحث عن الله ؟ وفيما كان ما هناك العديد من الناس الذين يقفون معاً والذين لا يؤمن بالله ، جلب لهم كثير من التسلية ؛أهو ضاع ؟ سأل احدهم .أهو ضَل طريق مثل طفل ، سأل آخر ، أم أنه أختباء ؟ أهو يخافنا ، أذهب إلى البحر ؟ أهاجر ؟ وبهذه الطريقة صاحوا فيه وضحكوا . ومن ثم قفز المجنون في وسطهم ، وحدق فيهم بعيون نافذة ، وصرخ ، أين ذهب الله ؟ سأخبرهم ! نحن قتلناه، أنتم وأنا ! فكلنا قتله ! ولكن لماذا فعلنا هذا ؟ فكيف يمكن لنا أن نشرب البحر ؟ فمن أعطانا الممسحة لنمسح كل الأفق ؟ فما الذي يمكن لنا أن نفعله حينما تحل تلك الأرض من شمسها ؟ إلى أين ستجه ؟ وإلى أين يمكن لنا أن نذهب ؟ بعيداً عن كل الشموس ؟ ألن نسقط بشكل متواصل ؟ للخلف ، وعلى كل الجوانب ، وإلى الأمام ، وفِي كل الأنحاء ؟ أهناك بعد فوق وتحت ؟ ألم نضل وكننا في عدم لا نهائي ؟ ألم نشعر بأنفاس الفضاء الفارغ؟ ألم تغدو الدينا باردة ؟ والليل لن يحل آبداً ؟ أم يجب أضاءة المصابيح في عز الظهيرة ؟ ألم تسمعوا بعد ضجة حفاري القبور وهم يدفنون الله ؟ ألم نشم بعد تعفن الله ؟ لأن حتى الإله يتعفن ! فالله مات ! ويبقى الله ميت ! ونحن قتلناه ! فكيف لنا ونحن أعظم القتله أن نواسي أنفسنا ؟ فأقدس وأعظم الأشياء التي عرفها هذا العالم منذ الآزل نزف حتى الموت تحت سكاكينا – فمن سوف يغسل هذا الدم ويزيله عن أيدينا ؟ فباي مياه علينا أن نتطهر ؟ فأي ثريات ، وأي لعبة مقدسة علينا أن نخترع ؟ أفليس فداحة هذا العمل عظيمة جداً بالنسبة لنا ؟ فيجب علينا أن نصبح نحن أنفسنا الإلهة إذا أردنا فقط أن نظهر نستحقه ؟ فلم تكن هناك مأثرة أعظم منه أبداً، ولهذا، أياً من يولد بعدنا ينتمي إلى أعلى تاريخ من كل تاريخ من الآن فصاعداً !

وإلى هنا يعتصم المجنون بالصمت ، وينظر مجدداً لمستمعيه؛ والذين هم أيضاً بدورهم أخلدوا للصمت ، وحدقو فيه بحيرة ، وأخير رمى مصباحه للأرض ، ولذا تناثر إلى قطع . وواصل خطابه ، أني جئت مبكراً كثيراً، قال ، وعليه ، فليس هذا آوان مجئي . فنباء الحدث العظيم ما زال في طريقه، وهو متجه صوبهم – فخبره لم يصل بعد إلى أذانهم . وحتى بعد لم يفهموا ، فالرعد والبرق يحتاج لوقت ؛ وضوء النجم يحتاج لوقت ، والأعمال تحتاج لوقت ، قبل أن تسمع وتفهم . وهذا الحدث بعيد جدا عنهم وأبعد من أي نجم، ومع ذلك فهم عملوه بأنفسهم !

وقيل بأن في هذا اليوم ، شق المجنون طريقه في عدد من الكنائس ، مترنم بصلاة الموتا ، وحينما أجبر على الخروج، وطالب بتفسير ما يعنيه ، فأنه كان دائماً يجيب ، ما هذا الكنائس قد تكون الآن ، إذا لم تكن قبور الله ، ومقبرة الله ؟ ” (٢)

من هذه النص ، يمكن أن نستنتج ، ماذا ، يرى نيتشه ، علينا أن نفعل بعد هذاالحدث العظيم ، الذي لا يوازيه ، أي حدث آخر . وهو تقدم ، بحل لنا ، فما أن نصبح الإلهة أو سوبرمان ! ولكن ، بتأكيد أن أياً من هذين لم يحصل ! ونحن لو قرأنا هذا الرؤية التي يطالبنا بها نيتشه من وجهة نظر أجتماعية ، لرأينا فيها أنها ، تعبر في الجوهر ، عن فترة ، من حياة ألمانيا وأوربا، في عصر الصعود والقوة ، والتي يشعر فيها الناس بالقوة والعظمة ، وعدم حاجتهم ، إلى الإلهة ويجب وضعها جانباً والأعتمادة على الذات وبناء الإنسان السوبرمان الذي يجترع المعجزات . غير أي من هذا لم يحدث ، فأوروبا بنت حضارة عظيمة دون أن تبني إنسان عظيم ، فالإنسان ، تحول في تلك الحضارة المعاصرة إلى ملحق إلى الآلة والنظام ، ومن هنا خرج علينا ميشيل فوكو بالقول ، بموت الإنسان ، لأنه لم يحقق أي شيء من أحلام الفلاسفة ! وهنا علينا أن نسأل ماذا يبقى حين يموت الله والإنسان ؟ ومن يكون هذا الذي يملئ الدنيا ضجيج ؟ أهو لا مسمى ، كائن بلا صفات مثل بطل رواية كائن بلا صفات ! أم أننا في عصر الجماهير ، تلك الكتل الهلامية ، التي يمكن تكون كل شيء أو لا شيء ! نحن حقاً في مفترق طرق ، مفتوحه على كل الاحتمالات وما علينا سوى تنتظر ، ولن يطول أنتظارنا لنرى ، فالعالم يبدو حبلى بحدث عظيم ! هاني الحطاب

(١) هذه القصيدة مأخوذة عن كتاب والتر كوفمان ، نيتشه .

(٢) هذه النص عن كتاب العلم المرح لنيتشه .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here