1 –
لقد منع الكتاب المجيد – تعدد الزوجات – ، ولكنه في المقابل أباح – التعدد في النكاح – ، وبين المسألتين جدُ فارق في الفعل والمضمون ، ونحن بدورنا سنوضح ذلك ما أستطعنا إلى ذلك سبيلا معتمدين على الكتاب ونصوصه ودون الإلتفات إلى ماورد من أخبار وروايات في هذا الشأن .
ولكن وقبل البدء في شرح و بيان موقف الكتاب المجيد من هذه المسألة ، لا بد من التذكير بأن المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة تخوض صراعاً مستديماً متعدد الإتجاهات ، من أجل تحديد الموقف القانوني والشرعي والأخلاقي عن نوع الحريات التي تسمح والتي لا تسمح ، وعن طبيعة الحقوق وطبيعة النظام الذي يجب أن يسكنون إليه ، وأقول : – إن التعريفات العتيقة التي تبنتها المدرسة الإسلامية ما عادت تلبي أو تستجيب لكثير من المفاهيم التي أفرزتها حالة وطبيعة التطور المجتمعية في العالم أجمع – ، ولم يعد مناسباً في هذا الشأن التركيز فقط على منتجات التراث ، مع جُل إحترامنا لذلك التراث ، فالتراث مهما بلغ من شاء , فإنه يظل يعبر عن الماضي بما فيه من أفكار ورجال ، والماضي لن يستطيع ان يصنع الحاضر بطريقته وبفهمه للأشياء ، و إن منتجي التراث رجال لا قدسية لهم ولا معصومية ، وما أنتجوه من أفكار يظل في حدوده الخاضعة لبند الصحة والموافقة لكتاب الله والعقل ، والتراث في أصله اللغوي جاء من مادة – ورث – الثلاثية الدلالة والأبعاد ومعناه : – ما يحصل عليه الوريث من المورث مادياً – ، وإلى ذلك أشار النص التالي قال تعالى : – [ وورث سليمان داوود ..] – النمل 27 ، والتوريث هنا كل مايتعلق بما هو مادي من متاع وغيره [ وليس منه النبوة والحكم ، فالأول إصطفاء والثاني إختيار من قبل الناس ] ، فالنبوة ليست من الأشياء التي تورث لأنها إصطفاء من الله ، كذلك الحكم هو إختيار وإنتخاب للحاكم من قبل الناس فلا يصح فيه التوريث أو ولا ية العهد .
والتراث في عمومه مادي يظهر ذلك حتى في قوله تعالى : – ( وتأكلون التراث أكلاً لما ) – الفجر 19 ، وكل شيء يتعلق الفعل فيه والممارسة من قبل الإنسان فهو مادي ومنه الأفكار ، ولهذا يصدق عليها مفهوم – التراث – أيضاً ، كالقيم والأخلاق والمبادئ والتي هي في الواقع أشياء مادية يمكن توريثها ، وبهذا المعنى يكون كل ما أنتقل أو وصل إلينا من الماضي القريب أو البعيد هو – تراث – ، ولعلي أرجح لفظ – وصل إلينا – بدلاً عن أنتقل إلينا ، والفرق بينهما واضح : – [ فأصل الفعل في أنتقل هو من النقل أي الرفع من مكان لمكان أخر ، وبالتالي يكون معنى أنتقل إلينا هو ما نُقل إلينا من محل أخر ، واما لفظ وصل إلينا أي ما أتصل بنا – ، وفي هذه الحالة يكون الوصل أقرب في الدلالة ، فما وصل إلينا من الماضي هو ما أتصل بنا منه ، شريطة ان يكون له قابلية التأثير والفعل في حياتنا ، من حيث التأثير على أفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا ، وحين نفتقد لشرط القابلية في التأثير والفعل ، تكون الدعوة للخروج من حالة التقديس الأعمى لما في التراث ومُنتجيه أمراً لازماً ، وبنظرنا المتواضع لم تعد كتب التراث من تفاسير وكتب وأخبار مؤدية للغرض ، مع كامل الإحترام والتقدير لتلك الثروة ولذلك الجهد الغير مسبوق في زمانه ، وهذا يعني إننا بحاجة إلى حركة نقلة تدرب العقل وتؤهله ليواكب عصره ( الزماني والمكاني ) .
وهنا ترآنا نعود للتذكير بمقولة لنا مضت في لزوم ووجوب فتح باب الإجتهاد على نحو مختلف عن ذلك الذي ألفناه ، والإجتهاد الذي نلح بالطلب عليه هو في فسح مجال أكبر وأوسع للعقل بعيداً عن سلطة الأخبار وما فيها من القيل والقال والنكاية البعيدة عن مضمون عصرنا وزماننا ، مع عدم الإلغاء الكامل أو التجاوز الكامل على كل الماضي وكل التراث ، فتلك مخاطرة لا نسمح بها ولا نؤيدها ، إنما نريد لبعض الماضي الصحيح والتراث الموثق أن يكون جزءاً مما نستأنس به في موضوعاتنا وبحوثنا .
إن موضوعة – حرية الحقوق – جدلية بإمتياز فهي من حيث هي قضية يتصارع فيها الزمان والمكان ، ومن هنا تدفعنا هي ذاتها لتصحيح المسار من خلال رؤية جديدة لمعنى – حرية الحقوق – ، والسؤال هل تقع – حرية الحقوق – في دائرة الواجبات أم المباحات ؟ ، وطبعاً هنا في مسألتنا يكون الجواب إنها من المباحات فحق الزواج مثلاً ليس واجباً كذلك حق النكاح وحق التبعل ، ومفردة زواح ونكاح وتبعل مفردات أستعملها الكتاب المجيد في سياقها حسب الوضع والطبع ، وهي مفردات مختلفة المعنى والدلالة ولا يصح الخلط فيها تبعاً لما كان يفعله أهل التراث والأخبار ، والخلط منشأه فكرة الترادف التي شاع وغلب أستعمالها في الشعر والأدب ، ومن هناك وظفت في لغة الفقة والشرع عبر الشافعي كوسيط مفترض في هذه الفعلة ، فوقع الشطط في المعاني وقد تغلب هذا الفكر على من سوآه من خلال سطوة أهل السياسة والحكم .
ففي قضية – التعدد – هيمن الترادف على ما تؤدي إليه الكلمة من ظنون ، جاء ذلك بفعل هيمنة وغلبت الذكورية والقبلية التي كانت سائدة ومازالت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، فالتعدد موضوعة أرتبطت بالمرأة حين فسر المشرع المرأة كسلعة مما أدى مع الأيام لتجهيل – حق المرأة وحريتها – ، والمريب في الأمر إن عامة النساء المسلمات رضين بهذا وأستسلمن له تحت ظل ظروف إقتصادية وإجتماعية ضاغطة ، حتى صار التجهيل للحق حكم للشرع والدين بنظر العامة ، وعلى ذلك سُنت قوانين الأحوال والحقوق الخاصة بالمرأة ، مع إن هذا التجهيل أساسه رجال دين تراثيين وكهنة وتجار قيم .
و في هذا المجال تبدو الحاجة ماسة ليس فقط إلى إعادة تقييم ونقد التجربة الدينية لأهل التراث من المرأة ، بل إلى إنتاج قواعد فكر وقوانين تحمي المرأة وتنظم حقوق المجتمع ، وفي هذا أدعوا الجميع لمراجعة واقعية للكتاب المجيد من غير سطوة وهيمنة أهل التراث وفكره ، كما أدعوا إلى إعتماد العقل كأداة منتجة ومستقرئة ، وهذه الدعوة لنجعل منها الضابط الذي سيكون حاضراً معنا في كل خطواتنا هنا في هذا البحث ، ولا ندعي إننا نريد تجديد الخطاب فهذه ثمة أكذوبة أو هي أفيون جديد للتخدير والإلهاء يميل إليه كهنة السلاطين للخروج من حالة التناقض واللا إتزان السائدة ، ما نريده بناء منظومة بحث يمكنها إنتاج معرفة تجعل من الجميع حاضراً فيها غير بعيد عنها ، وهذا يكون بالتركيز على بيان المعنى بصيغ قريبة إلى فهم السامع ، من غير إطناب أو تضخيم أو تفلسف زائد ، كما كان دئب من سبق ، وهذا بنظرنا ما نرآه يفيد معنى مفهوم تجديد لغة الحقوق وقواعدها من وحي الكتاب والحياة المعاصرة .
في قضية – التعدد – وقع الوهم والتدليس فبدلاً من أن يكون – التعدد – في النكاح ، أصبح – التعدد – سارياً في الزواج لدى عامة الفقهاء ورجال الدين ، وبما إن هذه القضية إشكالية لذلك فسوف نسلط الضوء عليها :
ونتسائل ونقول : هل إن فكرة – التعدد – جائزة أو ممنوعة في الكتاب المجيد ؟ ، وبما إن هذا السؤال يتموضع بين الجواز والمنع ، فإننا نقول : إن قضية – التعدد – أساسها الفهم الخاطئ لما ورد في قوله تعالى : – [ .. فإنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألاَّ تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم .. ] – النساء 3 ، أعني الفهم الذي تبنى الترادف في فهم المعاني ، الفهم الذي جعل من لفظ – أنكحوا – بمثابة أو بمعنى لفظ – تزوجوا – ، مع إن الأصل والجذر اللغوي للفظين مختلف ، فلفظ – أنكحوا – دال على الإستمتاع الجنسي ، وأصله من الفعل الثلاثي – نكح – ، وفي ( النكاح ) الإستمتاع أو المتعة أباح الكتاب المجيد التعدد ، ولكنه في ( الزواج ) منع الكتاب المجيد التعدد ، والزواج في الكتاب المجيد كفعل أو كمضمون ممنوع من التعدد وذلك :
1 – لأن الزواج في وضعه و دلالته هو أوسع مفهوماً من الإستمتاع أو التمتع ، ولذلك لا يجوز قصر معناه في النكاح .
2 – كما إن فعل تزوجوا أعتبر في الكتاب المجيد ممنوعاً من الصرف ، والخلط بينه وبين فعل أنكحوا هو مخاطرة وفعل خاطئ .
3 – ثم إن اللفظ في الكتاب المجيد إنما وضع لمعنى محدد معين لا يتعدآه لغيره – .
وحين قلنا : إن إباحة التعدد في ( النكاح ) إنما بشرط وجود القدرة والإستطاعة ، وفي ( الزواج ) قلنا بالمنع لأن الزواج مرتبط بميثاق قال تعالى : – [ .. وأخذنا منكم ميثاقاً غليظا ] – النساء 21 ، والميثاق هو إتفاق بين – الذكر والأنثى – على طريقة الحياة وعن القوامة وعن الإدارة ورعاية الأطفال والضمان ، أي إنه إتفاق على تأسيس الأسرة وفي هذا قال الكتاب المجيد بعدم جواز التعدد ، قال تعالى : – [ وإن أردتم إستبدال زوج مكان زوج أخر ..] – النساء 20 ، بمعنى إن الجمع والتعدد في الأزواج ممنوع وغير ممكن ، وهذا مالم يتوفر هدفاً ومضموناً في النكاح ، إذ ليس هناك ثمة ميثاق فيه ، إنما ينعقد النكاح ( المتعة ) بإتفاق بين الطرفين ( ذكر وأنثى ) من غير قيد وفيه يصح التعدد لطبيعته ولما يُراد منه – .
وكما قلنا : – بعدم جواز الترادف في الكتاب المجيد ، كذلك نقول لا يجوز التكرار في الكتاب المجيد فعلاً ومضموناً – ، ومنه جاء المنع بعدم جواز إسقاط لفظ – الزواج على النكاح – ، وعندنا لا يصح الإتفاق مقروناً بهذا اللفظ في حال الزواج ، ودليلنا في عدم الجواز ما عليه قواعد اللغة العربية والتي تمنع التكرار و الترادف في هذه المسألة ، وأما ما ذهب إليه البعض من أقوال في هذا المجال فلا يعتد بها ولا تفيدنا في هذا المقام ، لهذا فالواجب يقتضي ضبط معاني الكلمات من خلال الكتاب المجيد ومن دون النظر أو الحاجة إلى هذه الإستعارة التبعية للشعر ومقولاته ، بل ولا يجوز جعل ذلك حجة على معاني وألفاظ الكتاب .
فإن قلتم : – ألم ينزل الكتاب المجيد على سبعة أحرف – .
قلنا : – إن ذلك ليس صحيحاً وهو وهم وتجني ، ذهب إليه من أراد دفع شبهة التحريف في الكتاب المجيد والتي يقول بها البعض – .
ثم إن التعدد في النكاح ورد مضافاً ، وليس عدداً صحيحاً بل العدد مضروباً بنفسه ، وهو ليس من قبيل العدد الصحيح واحد وأثنين وثلاثة وأربعة ، بل هو مثنى وثلاث ورباع ، وفي ذلك يكون العدد مضافاً كما ورد في ذكر أجنحة الملائكة ، قال تعالى : – [ ..جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع .] – فاطر 1 ، ولم يقل أثنين وثلاثة وأربعة ، لأن العدد هنا دال على الكثرة الممكنة ، مع إنه أستخدم العدد الصحيح في قوله تعالى : – [ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب .. ] – الكهف 22 ، ومنه يتبين إن اللفظ في الكتاب المجيد إنما يوضع بعناية للدلالة على المعنى المُراد والمقصود ، ولكي لا يتم الخلط أو تعمد الخلط .
فحين يستعمل لفظ – تزوجوا – يقتصر الفعل والمضمون على الواحد من غير تعدد ، وأما في حال علاقة الإستمتاع جعل التعدد ممكناً بحسب القدرة والإستطاعة ، وفي علاقة الإستمتاع جعل الكتاب المجيد حد أدنى وحد أقصى ، والأدنى يبتدأ بمثنى أي أربعة وينتهي برباع أي ستة عشر ، ثم جعل القيد مرتبطا بمفهوم العدالة من جهة الإستمتاع قال – وإن خفتم ألاَّ تعدلوا – قال ( فواحدة ) ، وهذا القيد متعلق بالقدرة والإستطاعة وليس بمحل أخر .
وبما – المتعة – يُثار حولها بعض اللغط ، والذي في غالبه جهل في فهم النصوص وعدم التعاطي مع ذلك بروح الواقع ، بل وتغليب بعض الأخبار على نصوص الكتاب المجيد ، ومن بين أوضح النصوص الدالة على جواز – المتعة – ماورد في قصة النبي موسى في قوله تعالى : – [ قال إني أريد أن أنكحك إحدى أبنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ، فإن أتممت عشراً فمن عندك .. ] – القصص 27 ، في هذا النص تبدو الدعوة لعلاقة مؤقتة و مشروعة بين ذكر وأنثى في زمن محدد وثمن محدد ( نكاح ) ، هذه العلاقة حسب ظاهر النص جائزة شرعاً ، ولم يرد نص في الكتاب بمنع أو إلغاء هذا النوع من النكاح ، ولم يجعل هذا النص عقدة النكاح بيد موسى – ، مما يدل على أن هذا النوع من الإتفاق والذي يقصد به الإستمتاع المشروط بأجر وزمن يلزم في الحرية الضامنة للطرفين .
يتبع
آية الله الشيخ إياد الركابي
Read our Privacy Policy by clicking here