كيف ان الحضارة العربية تأثرت بالأداب الفارسية قديما ؟ ح8

(*) د. رضا العطار

لعلنا في حاجة الى التأكيد هنا على ان مجال بحثنا في نظام القيم في الثقافة العربية، ليس الثقافة الحالية التي نقصدها، بل انما كانت ثقافة انماطا من التعبيرات الفكرية والسلوكية على مستوى ما كُتب والف في مسألة القيم يومذاك. فمن هنا فمراجعنا لن تكوًن القيم كما طبقت من قبل هذه الفئة او تلك، في هذا العصر او ذاك، بل القيم كما كانت موضوعا للتفكير على مستوى الخطاب. وبما اننا نزاوج في دراستنا للعقل العربي بين المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي والطرح الايديولوجي، فإنه سيكون علينا ان نجعل الخيط الناظم لتقدمنا في البحث هو الجانب التكويني التاريخي، ابتداء.

ومن هنا سيكون السؤال الاول الذي سننطلق منه، ونحن بصدد التقديم لدور الموروث الفارسي وقيمه في تكوين نظام القيم في الثقافة العربية الاسلامية، هو التالي : متى وكيف ولماذا أخذت قيم الموروث الفارسي في الانتقال الى الثقافة العربية، وعلى اي مستوى ؟ وكيف كانت علاقتها بقيم الموروثات الاخرى ؟ والى اين انتهى بها الامر ؟

لنبدأ بسؤال (البداية) متى بدأ الموروث الفارسي يقدم نفسه ؟ داخل الثقافة العربية الاسلامية، عبر الترجمة والتأليف كخطاب كلًي في القيم والاخلاق ؟
قفد لا نقدم جديدا اذا قلنا ان ذلك بدأ في اواخر العصر الاموي وفي زمن هشام بن عبد الملك بالذات، ويهمنا في هذا المجال ان نعلم : كيف (حدث) ان شهد العصر الاموي بداية التأليف في (القيم والاخلاق) من داخل الموروث الفارسي، وهو العصر الذي كان عربيا (خالصا)، بل العصر الذي ساد فيه التعصب للعرب وثقافتهم. ثقافة الخطابة الشعر . . . ما الذي حدث حتى صار نظام القيم السائد، الذي كانت الدولة تكرسه بواسطة الخطابة والشعر والرسائل، لا (يكفي) للتغلب على أزمة القيم، دون الحاجة الى الاستعانة بنظام للقيم يقع خارج الثقافة العربية وموروثها ؟

في الواقع ان المرء ليندهش من ذلك الحشد الهائل من الخطب تعود الى العصر الاموي الذي كان بحق (عصر الخطابة). كانت الخطابة في هذا العصر حاضرة في كل مكان. كانت تتخذ المساجد والساحات والمجالس، مسرحا لها. وقد بقيت حاضرة عبر الايام بواسطة الرواية الى ان نشطت حركة التاليف، في (الادب)، (ادب اللسان) ومن خلاله صارت جزءا اساسيا من (ادب النفس) يكرس عبر العصور والى اليوم.
مَن مِن العرب، قديما وحديثا لم يقرأ او لم يسمع بخطبة (البتراء) لزياد بن ابيه، التي تكرس قيم الاستبداد القبلي بسلطة القوة، مشحونة بالتهديد والوعيد.
لقد ظهر في اواخر العصر الاموي اسلوب جديد في الخطاب يدعى (الترسل) يتصف بنص بلاغي يجمع اوامر الملك الى الرعية، تتزاحم فيه الاستشهادات بالقرآن والحديث وغيرهما من الموروث العربي والاسلامي في قوالب لغوية يراد لها ان تقوم مقام التبرير الديني والبرهان العقلي.

كان ابن المقفع صديقا حميما للاديب عبد الحميد الكاتب، تجمعهما المهنة والمحنة، هذا شيء معروف، وعلينا ان نضيف هنا انهما كانا صاحبي مشروع واحد، مشروع نقل القيم الكسروية الى الحضارة العربية الاسلامية، قيم الطاعة والاستبداد، ولا يعني هذا بالضرورة انهما كان يتصرفان بسوء نية، او انهما كانا (متآمرين) على مصير الدولة العربية الاسلامية ـ واذا كان هذا في حق ابن المقفع مما يمكن افتراضه ـ كل ما في الامر من وجهة نظرنا، هو انهما بحكم وظيفتهما كانا في وضع يحملهما على الاهتمام بالبحث في الموروث الفارسي من ادب واخلاق وسياسة، ناهيك عن العلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة في الحضارة الساسانية الفارسية، ونقلها الى الوسط العربي بكل ما اوتيا من همة ونشاط.

على ان ما يهم ابرازه هنا امران لا بد من ان نقول كلمة حولها لتكتمل الصورة : وضعهما الاجتماعي الذي أهًل كل منهما في ان يكون مستعدا للخوض في هذا المشروع، مشروع نقل التراث الاجنبي الى الثقافة العربية، ضمن السكوت عن مصادره ومراجعه.
عاش ابن المقفع وعبد الحميد، كتًابا ومترجمين ولم يكونا من عامة الناس، بل كانا من رجال الدولة وبالتحديد كان كل منهما في مستوى وزراء الخليفة ومن كبار رجال حاشيته.
الى الحلقة التالية في الاسبوع القادم!

مقتبس من كتاب نقد العقل الاخلاقي العربي لمحمد عابد الجابري، دار النهضة، الطبعة السادسة، الحمراء، شارع البصرة، بيروت 2014

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here