موقف الكتاب المجيد من قضية ( تعدد الزوجات ) 2

في الحلقة الماضية كنا قد تحدثنا عن مفهوم تعدد الزوجات وموقف الكتاب المجيد منه ، وقد دل الدليل على إن هذا المفهوم قد أُسيء أستخدامه وفهمه ، وخلط وأستُبدل في معناه بينه وبين غيره ، فالتعدد في الزواج كما قلنا هو مستحيل بل غير ممكن – ، وإن ما يفعله عامة الناس في هذا المجال ليس صحيحاً لأنه يعتمد في الأساس على أخبار و فتاوى مخالفة لما ورد في الكتاب المجيد .

ومعلوم أن فقهاء التراث وبعملية لا نفهمها خلطوا بين مفهومي ومصطلحي – النكاح والزواج – وجعلوا منهما معنا واحدا ، لكن الكتاب المجيد لما أباح التعدد جعله مقيدا ومحصوراً في النكاح والذي هو المتعة أو التمتع ، وذلك لغاية معلومة منه تُلبي الحاجة والغريزة ، وبما إن هذه الحاجة وهذه الغريزة متغيرة بحسب الوضع ، لذلك ربط الكتاب مفهوم التعدد بذلك مع آلية الزمن المحدد والمعين ، و ذلك لتعلق الأمر ليس فقط بالقدرة بل والرغبة أيضاً وإمكانية التعايش .

لذلك قال : – [ أنكحوا ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورُباع .. ] – ، وفي هذا النص نرى الدور واضحاً كذلك الملازمة بين فعل – أنكحوا – وفعل – طاب – مع الأسم الموصول ، يدل على الشيء الطيب أو ذلك الشيء الحسن الذي تركنون إليه أو تودون معاشرته ، ولعل أن مفهوم – ما تودون معاشرته – هو أقرب المصاديق للمُراد بلحاظ وجود فعل – أنكحوا – ، وقد ركز الكتاب

المجيد على ذلك من باب الموافقة التحصيلية ، ولا نظن إن من منعوا أو أبطلوا ( نكاح المتعة ) أستندوا في حجتهم إلى دليل من الكتاب واضح ورزين ، إنما هو الهوى ولنقل هو المنع السلطاني المرتبط بالحاجة والضرورة بحسب ظرفي الزمان والمكان ، ولا يمكننا إعتبار هذا المنع بمثابة الحكم الشرعي المستند على دليل من الكتاب ، إنما هو وبحسب الظن الغالب كان المنع مرتبطاً برؤية الحاكم للمصلحة من ذلك وحسب مقاسات الزمان والمكان المعينين ، وليس هو حكماً شرعياً يجري ويدوم في كل زمان ومكان ، وهذا ما نفهمه من حكم الخليفة عمر بن الخطاب ، إذ لا يجوز بحال إعتبار المنع منه بمثابة الحرمة الشرعية المؤبدة والملزمة للجميع في كل زمان ومكان ، كما يروج لذلك بعض الأتباع والمريدين .

وإذا كان ذلك كذلك ، فيمكننا إستصحاب القاعدة الأصولية والقائلة : – ( إن الأحكام تتغير تبعاً لتغير الزمان والمكان ) – ، مع التنبيه والإشارة إلى إن هذه القاعدة ليست حكماً شرعياً بقدر ما تكون حلاً عقلائياً ، خاصة ً في ظل الإضطراب و التفاوت المفهومي والدلالي ، أضف إلى هذا إن ما أفتى به – حكم عمر بن الخطاب – لا يتعدى من كونه – منعاً مقيداً بالزمان والمكان – هذا إن إعتبرنا صحة ماروي عنه في ذلك .

وفي هذا نقول إنه : – ليس من حق أحدا ما كائنا من يكون في أن يُحلل أو يُحرم – ، ذلك إن التحليل والتحريم هي من شؤونات الله خاصة ، أي هي من إختصاصه وحده سبحانه ، وليست هي من صلاحيات الحاكم الزمني ، ولو تنزلنا وقبلنا عمر بن الخطاب في هذا الشأن ، إذن لا بد من القول : – إن ذلك منه ليس سوى إجتهاد سلطاني زمني محكوم بظروفه وطبيعته والأسس التي

أرتكز عليها – ، و مع إن ذلك منه ليس مهماً لنا ، إذ إننا لا نتعبد بحكم الرجال ، ولكن المهم في الأمر هو تلك التبعات التي أعقبت هذه الفتيا ، مما أدى بالبعض من القوم إعتبار إجتهاد عمر بن الخطاب حكماً شرعياً ملزماً للجميع ، وهذه مغالطة بل مفارقة وهي واحدة من الأشياء التي أعاقة فهم نصوص الكتاب المجيد والإستفادة منها .

ولها نقول : – إن نكاح المتعة جائز شرعاً وعقلاً – وضمن شروطه الموضوعية الضامنة لصحته ، وإن توفرت هذه الشروط على نحوها الصحيح فلا بأس بذذلك مع وجود ( الحاجة والمصلحة والقدرة والإستطاعة ) ، ثم إن الملاك والمناط في الجواز هو صحة العلاقة الجنسية المنصوص عليها والمُرادة في ذاتها لذاتها [ وكما هي الغرائز والشهوات تدخل في باب الحريات الشخصية ] ، والكلام هنا في أصل الجواز وليس في التفاصيل التي قد يُناكف بها البعض لعدم الضبط والإلزام .

وأما ما يترتب على أصل نكاح المتعة من أحكام وتبعات من أطفال وذرية ، فيخضع القول فيه وفي أحكامه لنفس أحكام ونواميس الزواج تماماً ، من شرط النسب والضمان والحماية والتوريث وكل ما يتعلق بالأولاد الصلبيين ، وهذا في الأصل التشريعي لصحة هذه العلاقة ومشروعيتها ، ومثالنا الدائم في هذا ما فعله نبي الله موسى ، ولم يُذكر إن موسى النبي قد تخلى عن ذريته وأبنائه ، وفي ذلك يكون فعله الدليل على صحة النسب والتوريث والحماية والضمان ويجري هذا كذلك بالنسبة لعامة الناس ، من غير تفاوت أو إختلاف .

نعم إن كتب الفقه التراثي مليئة بكثير من الشطط والوهن ، وإن الكثير مما كتبه الفقهاء ودونوه لا يصلح في المقام ولا يصح تداوله اليوم ، خاصةً تلك

الفتاوى الفجة والتي تخالف النصوص المجيدة ولا تلتزم بالقواعد تلك ، والكثير منها كُتب من غير تحقيق أو تدقيق إنما نُسخت نسخاً عن الغير ، وكلامنا هذا نقصد به بعض القوم ممن له شخصية إعتبارية ومع ذلك فهو يفتي بجواز التمتع بالزانية وذات العلم !!! ، مع علمهم إن تلك مخالفة صريحة لكتاب الله المجيد الذي قال : – [ الزاني لا ينكح إلاَّ زانية .. والزانية لا ينكحها إلاَّ زان .. أو مشرك وحُرم ذلك على المؤمنين ] – النور 3 ، وشرط الصحة في النكاح المسموح به ، هو تلك القاعدة الشرعية التي عليها التقرير .

ونسأل هنا : من أين أتت الجرئه لدى بعض الفقهاء لكي يفتي ويجيز التمتع بالزانية ؟؟؟ !!! .

والجواب : لا يخلو الأمر من قلة وعي أو محاولة تبرير وإيجاد سبيل يحد من الظواهر السيئة ، كما إن ما أعتمده الفقهاء من أخبار في هذا الشأن ليست على ما ينبغي ، ولذلك نقول : – إن أقوالهم في هذا الشأن متهافته وباطلة ولا يعتد بها – ، ونضيف : – بأن المدة التي لا يحصل من وراءها براءة الأرحام وطهارتها لا يتم بها عقد نكاح المتعة ولا يصح – ، ولذلك فالعقود ذات الأجل القصير لا يصح بها عقد المتعة ولا يجوز ، لأن الأصل هو براءة الأرحام و لما يستتبع ذلك من لواحق معلومة ..

وزيادةً في الإيضاح نقول : – إن مشروعية ( نكاح المتعة ) شيء وممارسته شيء أخر – ، والكلام هنا وفي مجمل البحث عن المشروعية المحكي عنها والمستمرة ، وذلك ما نرآه واضحاً في القول التالي : – [ .. وإمرأة مؤمنة أن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين .. ] – الأحزاب 50 ، ثم إن ضبط و

تطبيق تلك المشروعية على المفردات يلزمه ضبط وتطبيق الشروط الموضوعية الضرورية واللازمة في ذلك ، ولا يذهبن بكم الخيال لتجريد النصوص من سياقاتها ومعانيها الموضوعية ، – فالهبة – مثلاً هنا جاءت مقيدة بفعل النكاح ومفهومه الدال على الإستمتاع ، ولا يجوز النظر إليها من خارج دائرة وحرية العلاقات الجنسية المسموح بها والمقررة في الكتاب المجيد ، وأما التقيد الوارد في النص فلا يتعلق بمشروعية نكاح التمتع بل بخاصية قوله – ( خالصة لك ) – ، أعني إن المتعلق بالخصوص ليس – النكاح بذاته – بل صيانة ساحة النبوة من العبث والقيل والقال وترصد الأعداء ، وفي هذا المعنى صلة شبه أكيدة في المُراد من قوله تعالى : – [ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء .. ] – الأحزاب 32 ، لذلك حرص الكتاب المجيد للعناية بها وصونها وحمايتها من الغير ، وهذا منه متعلق بأصل النبوة و شخص النبي ، ولذلك وتدعيماً لهذه الفكرة ورد في السياق نفسه قوله تعالى : – [ .. وأزواجه أمهاتهم .. ] – الأحزاب 6 ، أي جعل عامة ما يقع مصداقاً في هذا المجال من النساء بمثابة الأمهات من حيث الحرمة والقدسية ، ومنه نفهم قوله تعالى – خالصة لك – من دون المؤمنين .

وفي بحثنا عن النبوة قلنا : – إن فعل النبي ليس صالحاً للتأسي والإقتداء – ، ( وفعل النبي هو غير فعل الرسول ) ، ففعل الرسول له القابلية على ذلك لأنه يرتبط بالنظام والقانون والحاكمية والأمامة ، وهذه أشياء تكون مثلاً وحجة على الغير عكس فعل النبي الذي لا يكون كذلك ، قال تعالى : – [ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة .. ] – الأحزاب 21 ، وعبارة ( كان لكم ) أي – إن لكم – على النصب في سياق التبعية الولائية للرسول ، ولم يقل : – ( لقد كان لكم في نبي الله أسوة

حسنة ) – ، وكذلك قال تعالى : – [ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا . ] – الحشر 7 ، ولم يقل : – ( وما آتاكم النبي فخذوه ) – ومعنى ذلك : – إن دور النبي يختلف عن دور الرسول ، ووضع النبي يختلف كذلك عن وضع الرسول وطبيعة النبي صفة وموضوعاً مختلفة عن طبيعة الرسول صفة وموضوعاً – ، ومن هنا فأحكام النبوة هي غير أحكام الرسالة ، وذلك واضح وجلي ، ففي قضية القتال التي هي قضية فطرية ربطها الكتاب المجيد بالنبي ولم يربطها بالرسول في مجال التحشيد وشد الأزر ، قال تعالى : – [ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال .. ] – الأنفال 65 ، ولم يقل – ( يا أيها الرسول حرض المؤمنين على القتال ) – ، ذلك لأن القتال المشروع في اصله هو دفاع فطري ، وفي الدفاع لا نحتاج إلى تشريع بل نحتاج إلى تذكير وبلاغ وحماسة وتحشيد وشد أزر ، ومعلوم إن القتال المسموح هو ذلك القتال الذي يكون في رد الظلم والدفاع عن المظلوم ، قال تعالى : – [ أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا .. ] – الحج 39 ، فالقتال المسموح والمأذون به شرعاً هو ذلك القتال من أجل دفع الظلم ( وحين يقول الكتاب – حرض المؤمنين – ، فالكلام فيه لا يتعدى هذا المعنى الذي ذهبنا إليه ، إذ ليس مسموحاً القتال الأبتدائي ) ، والذي من مصاديقه القتال من أجل الدعوة إلى الإسلام ونشره أبتداءاً وهذا باطل لا يجوز ، وهو ما توهم به الشافعي وتبعه في ذلك عامة فقهاء التراث مع الأسف ، وكما قلنا إن القتال المأذون به هو ما يرتبط بالفطرة .

وبما إن الزواج والنكاح كذلك يرتبطان بالفطرة ، لذلك جعلهما الكتاب من لوازم النبوة كالقتال ، والكلام هنا عن المشروعية وليس عما يترتب لا حقاً عليهما من أحكام ، فذلك محله الرسالة بإعتبارها قوانين تحكم

سير العملية التنظيمية للحياة .

ولكن هل يصح للنبي ما لا يصح لغيره من الأفعال ؟ .

والجواب : نعم يصح للنبي ما لا يصح لغيره ، ويكون ذلك كذلك لخاصية النبوة ، فعلى سبيل المثال ثبت إنه قد : – صح للنبي الزواج بأكثر من إمرأة – ، ولكن هذا الشيء لا يصح لعامة الناس ، أما لماذا يصح له ذلك ولا يصح لغيره ؟ ، فالظن الغالب عندي في ذلك يعود في الأصل لحاجة النبي و النبوة لمريدين ومصدقين وأعوان ، وفي هذا يكون الفعل في التعدد له صلة بمفهوم – تقريب القلوب إلى الدعوة وإلى النبوة – ، وهذا الفعل ليس تبريراً بل هو تكيتكاً مسموحاً به ، مع وجود الحاجة والمصلحة ، وقد ثبت بالدليل صحة : مفهوم المؤلفة قلوبهم إنما أنطلق ذلك من حاجة ومصلحة ، مما يكون له أثراً ومنفعة مطلوبة في ذاتها لذاتها ، وسنزيد في القول : – إن الغرض من ذلك دفع الذرائع ، والتخفيف من حدة التناقض والبغضاء ، وفي المقابل جر الناس إلى ساحة النبوة والتعاطي معها من غير تفريط أو حساسية زائدة ، ولهذا نفهم المُراد من قوله تعالى : – [ ولو كنت فضاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك .. ] – آل عمران 159 .

يتبع

آية الله الشيخ إياد الركابي

23 جمادي الأولى 1440

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here