المشهد الكردستاني… محطات وسيمفونيات… شتاء وبكاء

سامان نوح
– في الخامسة والنصف مساء، في منطقة تنتج حقولها الواعدة عشرات الآلاف من
البراميل النفطية يوميا، مر بسلسلة محطات وقود حديثة تجنب الوقوف عندها
“انها تبيع وقودا مغشوشا” قال لصحابه، قبل ان يتوقف عند محطة على اطراف
مدينة تعد معقلا للحزب الأكبر والأقوى في الاقليم، ويتجه الى زاوية على
يسار المحطة كان يقف عندها عامل شاب ورجل مسن والى جانبه طفل لم يبلغ
العاشرة يقف قبالة كومة من “الجليكانات الفارغة”، ردد وهو ينظر الى
صاحبه:”يقولون ان الوقود هنا صالح للاستعمال”.
– كانت الساعة تشير الى السادسة، والعجوز مع الطفل ينتظران عامل المحطة
لملأ جليكانين من النفط الأبيض، حين انقطعت الكهرباء. مرت عشر دقائق من
الصمت وسكون محركات الضخ قبل عودة التيار، كانت كافية ليشتد الظلام في
المكان وليتشكل طابور صغير من المنتظرين دورهم للحصول على النفط الأبيض،
أشخاص يحملون جليكانات بيضاء ورمادية وملونه متطلعين جميعا للحصول سريعا
على بضعة لترات من النفط الابيض غير المغشوش بسعر 600 دينارا للتر وحملها
سريعا الى عوائلهم المنتظرة في المدينة التي تحيطها الجبال التي تحتضن
قممها البعيدة طبقات من الثلوج والحكايات والذكريات.
– في الطابور وفي درجة حرارة قاربت الصفر مئوية، وقفوا بصمت، تدريسي
ومهندس ومحامي مع آخرين، منتظرين دورهم وهم يطالعون الجليكانات التي صفت
وراء بعضها، قبل ان يقاطع احدهم الصمت قائلا وهو يخاطب صاحبه الذي كان قد
انزوى خلف كومة الجليكانات ويحدق فيها بعينين نصف مفتوحتين فيما يحشر
يديه في معطفه القصير: “17 لترا بعشرة آلاف دينار تكفيني لعدة ايام…
علينا ان نتدبر امورنا في هذا البرد، وحين تنفد يدبرها الله”.
– في ذات المساء، كتب النائب السابق بالبرلمان العراقي شوان داودي على
صفحته يقول: “اليوم في مدينة اربيل زرت الكاتب الكردي الكركوكي الكبير
……….. الذي يملك 52 كتابا بينها 46 كتابا مطبوعا. لم تكن الساعة قد
تجاوزت السادسة مساءً، وجدته قد التحف ببطانية هربا من البرد… لم يكن
في بيته نفط ابيض”.
– قبلها بأيام كتب ناشط كردي معروف، وهو يتحسس البرد في روحه: ليل أمس،
صعد ناشط مدني في دهوك الى سطح منزله المؤجر، ليحتمي بالظلام من موجة
بكاء اجتاحت جوارحه. لم يحتمل رؤية أطفاله وهم يلوذون بالبطانيات
ويتوزعون في زوايا منزله الصقيعي.. لم يكن في بيته مال يكفي لشراء الوقود
وأبت عزة نفسه ان يطلب المساعدة من أحد في ظل سياسات الادخار الاجباري
للرواتب والمستحقات.
– ساخرا، في قلب موجات المحتفلين بالثلوج والذين اكتسحت صورهم صفحات
التواصل، وجه ناشط نصيحة لقرائه: اموركم ممتازة وهذا امر عظيم، لكن حين
تزورون احد معارفكم او تعاودون مريضا فتحققوا اولا من المقربين منه: هل
يملك في منزله وقودا لتدفئة عائلته… اذا لم يكن فخذوا معكم جليكانا من
النفط الأبيض بدل الفواكه والعصائر… فهو اتقى لكم وانفع لهم”!.
– بين المحطات الحديثة والأسواق الفارهة والأحياء الراقية، وبين البيوت
المجمدة والأرواح الباردة، في المدن التي عليك ان تحذر من حفر بئر للماء
فيها فقد تفاجأ بمزيج من الماء والزيت والنفط، يتوزع كتاب وصحفيون على
المؤسسات الاعلامية للأحزاب القائدة، في مهمة تلميع الواجهات وعزف
سيمفونيات السياسات الاستراتيجية الحكيمة للعودة الى المناطق المتنازع
عليها، التي دفع الكرد آلاف الضحايا لمنع سقوطها بيد جند دولة الخلافة
ومن ثم خسروا ادارتها خلال ساعات عقب استفتاء الاستقلال، وطقطوقات
التكتيكات التي حققت نجاحات منقطعة النظير في تجاوز الأزمات الاقتصادية
والسياسية المستفحلة واعادة بناء العلاقات المتعثرة مع أنقرة وطهران
وبغداد، التي تتوغل الأولى وتستأسد بهجمات دامية في عمق الاقليم، والتي
تضرب الثانية شمالا وجنوبا مستهدفة اي صوت معارض لها، والتي قررت الثالثة
أن تتكرم بـ”منح مواطنيها الكرد” موازنة ورواتب حرموا منها لسنوات.
– في ذات الليلة، وهي الليلة 110 لما بعد احتفالات تنظيم الانتخابات
البرلمانية، كان مسؤولون في الأحزاب النافذة
– يبشرون مواطنيهم بقرب انطلاق مباحثات تشكيل حكومة الاقليم بعد اتفاقات
اولية على توزيع الحصص، وكان آخرون يبشرون بقرب انفراجة الأوضاع المالية،
وآخرون يبشرون باستمرار منحة الحكومة الاتحادية المتمثلة ببرميل او نصف
برميل نفط ابيض لكل عائلة في الاقليم، الاقليم الغني صاحب الـ 45 مليار
برميل من الاحتياطات النفطية والكميات الهائلة من الغاز، العاجز بسبب
“مؤامرات الاعداء” وللعام الثالث عن تأمين برميل واحد لأبنائه المنعمين
المرفهين المحتفلين بنجاحاتهم المتوالية وسط الثلوج من على القمم
الشامخة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here