الثامن من شباط ، حكايات لن تنطوي صفحاتها

وئام ملا سلمان

ليت كأس المحبة من كل قلب تراق

الولادة حب

الشهادة حب

ودرب المحبين رحب

فمن أجلنا ، دعونا نحب

سلاماً على من بصدق أحب العراق.

من ندى رذاذ الذاكرة التي ما برحت حية وفتية رغم الوهن الجسدي الذي لابد من دفع جزيته التي لا تني تزداد بالتقادم ، فما بالنا والذكرى تسحب أثقال خمسة عقود وست سنين تباعا،ويا لها من ذكرى حزينة وموجعة !

قبل شهر ونيّف ، إذ جلسنا حول طاولة المطبخ التي جمعت ثلاثة أجيال نسوية ، كانت الأحاديث تترى ولا يمكن لنا أن نتجاوز الذكريات وبيننا زينب ابنتي التي تتوق لسماع حكايات الأمس البعيد بالنسبة لها وهي تقضي أيام أجازتها بين دفء الأهل والأحبة بعيداً عن برد السويد وشتائه الأبيض الحزين ، وكان لها حصتها في الحديث وهي تنقل تجربتها من خلال عملها واطلاعها على واقع المرأة القادمة من البلدان التي عانت من ويلات الحروب والأنظمة السياسية القمعية وكيف أن الخوف يظل رفيقها حتى ولو تغيرت لديها الظروف الحياتية في المجتمع الجديد وقد كان لحديثها وقعه على سيدة الجيل الأول والتي كانت تصغي بجوارحها لما تسمعه من كلام ليأتي ردها بصيغة حكاية من حكايات الماضي البعيد وذكريات اللوعة والهلع التي رافقت الثامن من شباط المشؤوم في الذاكرة العراقية حيث دموع الأمهات وأقبية السجون ووجوه الحرس القومي الكالحة المكفهرة وطوفان الدم الذي وقفت خلفه كل قوى الشر متمثلة بالرجعية وكافة أدواتها المتطرفة دينياً وفكرياً.

السيدة التي تحدثت هي السيدة ” سلمى الصراف” زوجة أخي والتي هاتفتها قبل شروعي بكتابة سطوري لأخبرها برغبتي بالكتابة في هذه الليلة الكئيبة ، وقد وافقت أن أذكر اسمها وأتحفظ على الأسماء الأخرى حرصاً عليها واحتراماً لها ، هي “سلمى” التي بدأت

حديثها مخاطبة زينب ابنتي بعبارة ” اسمعي خاله حتى تعرفين ليش تصير هاي التبعات النفسية ” وراحت تسرد لها حكاية واحدة من حكاياتها الكثيرات . والتي كنت قد سمعتها منها سابقاً ، وكان لعيني زينب نصيب من الدمع وهي تصغي لزوجة خالها لما مضت إليه قائلة:

بعد أن صدر أمر ألقاء القبض ومتابعة الحرس القومي لي وبحثهم عني ضمن المطلوبين عقب الإنقلاب الدموي رحت أتخفى متنكرة بأزياء شتى تبعد الشبهات” خادمة ، فقيرة ، امرأة ريفية” متنقلة بين بيوتات الأصدقاء والأقارب والجيران وفي بعض الأحيان يكون الاختفاء في صريفة من الصرائف والمهم في الأمر أن لا يعرف الحرس القومي مكان وجودي عبر الإخباريات التي تصلهم من وكلائهم وأعوانهم ، ولكن رغم ذلك كنت أنجح في النجاة من براثنهم ، وفي هذه المرة التي كنت بها في بيت أختي المتزوجة منذ شهور قلائل بعد أن تم تأمين طريقي إليهم ولكن يبقى خطر وصول الحرس القومي كبيراً لهذا البيت كونه بيت أختي! فقدعرضت علينا عائلة نجفية أخرى من بيت” ك.غ” الانتقال إلى بيتهم حيث تم تمشيط منطقتهم وأصبحت آمنة من المداهمات وهذا ما يمنحني مساحة أمان ولو مؤقتة ولكن ما حصل أنه بعد سويعات قلائل رحت أسمع حركة أقدام وضجيج وأصوات ترتفع في واجهة البيت حيث اقتحم الحرس القومي الحديقة وعادوا ثانية لتفتيش المنزل الذي أنا به وقد كنت حينها في الغرفة مع ابنتهم النفساء والتي كانت قد وضعت ابنتها قبل أيام قلائل والتي راحت تقول بصوت مرتجف :” يمه رجعوا الحرس القومي” فما كان منها إلا أن رمت بطفلتها بحضني وكنت أقابل الحائط شائحة بوجهي وجلوسي بحجة أني أرضع الصغيرة ومن فرط دهشتي لحظتها لم أنتبه كيف حملتها فقد كنت أضع أقدامها عند صدري ورأسها متدلياً في الجهة المعاكسة وكانت أمها تنظر وتهمس بفزع مكتوم”يمه بنَيْتي ماتت” ، وكان رجال الحرس القومي يحملون الرشاشات ويبحثون عن امرأة مختفية وحينما سألوا رجل من أهل الدار أخبرهم بأن أخته نفساء والمرأة التي بقربها هي أختها التي تعتني بها وكان رجال الحرس القومي قد اصطحبوا معهم السيدة ” م ، ح” والتي تم إلقاء القبض عليها وقد وضعوا على وجهها ” البوشيّة” كي يخفوا ملامحها وأدخلوها إلى الغرفة لاحقاً عسى أن تتعرف على من بها ولكنها أنكرت معرفتها بمن فيها رغم أنها كانت على علاقة وثيقة بي وأنا عرفتها بكل تأكيد.

إلى هنا انتهت واحدة من حكايات شباط الأسود حيث الثامن منه ولكل بيت حصته وقصته، ولن أنسى ما حييت دموع أمي وهي تتكلم مع أعتى عتاة الحرس القومي” ع.ح” وكنت ألوذ بعبائتها بسنيني الخمس ورغم تراكم السنوات مني وابيضاض الشعر فما زالت ترعب ذاكرتي صور الدم وأكوام القطن والضمادات الملقاة أمام نقابة المعلمين القريبة من بيتنا والتي أضحت مركزاً للتوقيف والتعذيب وكان أخي أحد الموقوفين بها قبل أن يصدر

حكم السجن عليه لاحقاً ، وما زالت تلك المشاهد شاخصة أمامي ولن تمحوها كل مماحي الزمن !

الخزي والعار للقتلة المجرمين ، والمجد والفخار والعزة لكل شهداء وضحايا وسجناء الثامن من شباط.

ليلة الثامن من شباط 2019

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here