من وحي المجزرة

يحتفل البعثيون و القوميون و مناصريهم بهذا اليوم مرتين في السنة حسب التقويم الميلادي و كذلك الهجري تأكيدآ على اهميته عندهم و يعتبرون هذا الأنقلاب بمثابة الحركة التصحيحية التي اعادت ( ثورة 14 تموز ) الى مسارها الحقيقي الذي انحرف و انفرد زعيم ( الثورة ) وحده بالحكم و قام بتصفية شركائه من القوميين و البعثيين و أقصائهم من مراكزهم الحكومية الرفيعة التي حصلوا عليها عقب سقوط النظام الملكي و مقتل الأسرة الحاكمة في حين يعتبر الشيوعيون و انصارهم هذا اليوم الثامن من شباط في العام 1963 هو يوم مشؤوم وكئيب و حزين حيث شهد نهاية حكم ( عبد الكريم قاسم ) في انقلاب عسكري دموي قامت به ثلة من الضباط و الجنود مدعومين من مخابرات الدول الأجنبية التي تضررت مصالحها من جراء سقوط النظام الملكي و هاهي المخابرات الغربية تثأر من قيادة ثورة 14 تموز حسب ما يقول الشيوعيون .

اختلف ( الأخوة الأعداء ) فيما بينهم على تقاسم الغنيمة حيث صار الحكم بعد ثورة تموز هو جائزة للمنتصر حيث اصبح الحكم و القصر الجمهوري هو مطمع و مطمح كل من لديه روح المغامرة و القوة للوصول الى ذلك الهدف و كان الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تملك السلاح الفعال و الجنود و بأمكانها و حدها السيطرة على الحكم و الفوز بالغنيمة الثمينة و لم يكن الأختلاف بين قادة تموز و بين قادة شباط عن كيفية بناء الدولة و مؤسساتها او عن كتابة دستورها او رسم شعارها او حتى الوان العلم الذي يجب ان يرفع فوق مبانيها فالطرفين كانا متفقين على كل تلك المسائل و الأمور عدا عن امر واحد لا غير و هو المناصب الحكومية العليا و التي اصبحت مثار خلاف كل ( الثورات و الأنقلابات ) التي بدأت بها ثورة تموز و ما اعقبها من نزاعات و صراعات و أزمات الى ان سقطت العاصمة ( بغداد ) و دخلت القوات الأمريكية و احتلتها و أنهت الحكم العسكري الذي استمر منذ العام 1958 و الى العام 2003 و سلمت الحكم الى الأسلاميين .

لسنا في مجال الدعاية للنظام الملكي او الدفاع عنه و كذلك ليس في النيل من النظام الجمهوري و الأنتقاص منه و لكن بصدد كشف الأوراق و توضيح الحقائق و المقارنة و الموازنة بين تلك الحكومات و التي كانت تشكل بتكليف من الملك و ان كانت تلك الديمقراطية منقوصة و يشوبها الكثير من الهفوات و الأخفاقات الا ان ما كان يميز تلك الحكومات هو ابتعادها عن الأستئثار بالحكم و التشبث بالمناصب و قتل المنافسين و الفتك بالخصوم و كما حدث بعد ( ثورة تموز ) و ما تلاها من أنظمة عسكرية كانت على نفس الشاكلة و ان اختلفت الوجوه و تبدلت الأقنعة و اختلفت الأدوار و قتل و نكل الحاكم الجديد برفاقه و اصدقائه من قادة الحكم الذي سبقه و هكذا دارت العجلة الدموية تسحق من في طريقها بلا رحمة او شفقة حتى كانت قصص الخلفاء و السلاطين المرعبة الذين كانوا يقتلون آبائهم و أبنائهم و يسملون اعينهم خوفآ منهم على الملك و السلطان قد عادت و قد بدأ الجنرالات ( قادة الثورات ) بقتل بعضهم البعض .

هكذا بدأ الحكم الجمهوري العسكري في العراق عهده بقتل العائلة المالكة و التي ابيدت عن آخرها لا لسبب معقول او تنفيذآ لحكم صادر عن القضاء انما في حالة من ( الهيستيريا الثورية ) التي انتابت احد ضباط ( الثورة ) فأطلق الرصاص بشكل عشوائي متعمد و قتل جميع افراد الأسرة المالكة و التي سوف تتكرر هذه ( الهيستيريا الثورية ) لاحقآ و لكن على شكل حروب خارجية و داخلية و اسلحة كيمياوية و مقابر جماعية جعلت من هذا الشعب عبارة عن مجموعات من اللأجئين الفقراء الباحثين عن الأمن و الغذاء بعد ان اوصلتهم الطغم العسكرية الجمهورية التي حكمت البلاد الى هذا الحال المتردي و المأساوي من الفقر و الفاقة و مصادرة الحريات و تكميم الأفواه .

فتحت أبواب الجحيم حين خرج الجيش من معسكراته و ثكناته و احتل القصر الحكومي و استبدل مهنته الأساسية في الدفاع عن الوطن و حماية الحدود و حين سرق وظائف السياسيين و اصبح الضابط هو العسكري و هو السياسي فأختلطت الوظائف و ضاعت الأختصاصات و فقدت الجندية هيبتها و انتزع من السياسة وقارها و لم يفهم العسكر حيل السياسة و مكرها و دهاء السياسيين و حنكتهم في ايجاد الحلول للمشاكل المستعصية و بأقل الخسائر الممكنة اما الضباط فلم تكن لديهم من الحلول سوى الحل العسكري و تحشيد الجيوش و هكذا كانت الحروب تتوالى و تتعاقب حربآ تليها اخرى حتى اصبح المواطن العراقي يقضي اكثر من ثلث عمره في سلك الجندية حيث كانت الأنظمة الجمهورية العسكرية على موعد مع حروب كثيرة و عديدة لا تحصى و لا تعد .

كانت حركة شباط الدموية الحقيقة التي نبهت الجميع الى فداحة الخسارة التي حلت بالشعب العراقي و الأجيال القادمة حين صفق و هلل للحكم العسكري الذي اطاح بالحكم المدني و توقع الخير و الرخاء الذي وعد به الحكام العسكريين لكن سرعان ما اكتشف الحقيقة المروعة حين لم يكن للحكام الجدد من الضباط سوى صناعة الأنقلابات و المؤامرات للظفر بالحكم و السيطرة على السلطة و أقصاء الحكام الذين سبقوهم و سوقهم الى مقتلهم و هكذا دخل العراق و شعبه في نفق معتم من التخبط و الفوضى و كانت النتيجة النهائية لهذا الوضع البائس هو في استيلاء الأحزاب الأسلامية على الحكم و التي استكملت ما بدأته الحكومات العسكرية من التدمير و التخريب و النهب و هكذا ظل انقلاب شباط يتكرر مرة على شكل انقلاب عسكري و أخيرآ على شكل انتخابات برلمانية .

حيدر الصراف

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here