ليس هناك حرية ولامنطق .. دعوة لإعادة تعريف الله من جديد

خضير طاهر
بصعوبة تفاديت مشكلة غريبة حصلت لي في أحد مقاهي العاصمة عمان ، صاحب المقهى إشتبه بملامح وجهي اني مصري الجنسية ، وكان الشارع الأردني محتقنا ضد المصريين ، ونفس المشكلة كانت تواجهني في العراق ، إذ كثيرا ما تم الإشتباه بسبب ملامحي من أنني مصري ، وكانت للأسف معاملة العراقيين في منتهى العنصرية والبشاعة للمصريين منذ قدومهم الى العراق في عقد السبعينات من القرن العشرين ، ومهما كان يوجد بين المصريين من مجرمين ومحتالين ، إلا ان هذا لايبرر ان تخسر قيمك الإنسانية بردود أفعال عدوانية ضد أناس يشعرون بالضعف والغربة وأنت تستغل خوفهم من أبناء البلد وتقوم بأفعال جبانة ضد الجميع !
التقيت عصرا بالصديق خالد مروان في الحديقة العامة وسط عمان ، كنت مستاءا ، وحدثته عن ندمي على قرار مغادرة العراق والسفر بهذه الطريقة المجنونة ، على الأصح لم يكن قرارا ، كان محاولة للهروب من ظروف عائلية ، ومشاكل البلد العامة التي نجمت من بعد غزو الكويت ، بعت مكتبتي الشخصية من أجل تسديد ديوني ، وكتمت الأمر عن الأصدقاء حيث التخلي عن المكتبة يعد عملا معيبا وخيانة للثقافة التي كانت مقدسة لدى مجموعة الأصدقاء .
كنت كلما أدخل غرفتي وأرى مكان الكتب خاليا ، أشعر بالإنهيار وتحطم أحلامي ومشاريعي ، لم يطل الأمر معي ، فقد جمعت بعض التبرعات المالية من الأصدقاء ورحلت بصمت هاربا من البيت من دون حقيبة، والقيت نفسي في ورطة السفر من دون خبرة وليس عندي أية مهارة أستطيع تأمين معيشتي منها ، مع قليل من المال يساوي 50 دولارا فقط ، وعند الإنطلاق من منطقة علاوي الحلة ببغداد الى الأردن إشتريت كيلوغرام عنب مع رغيف خبز متاعا للسفر .
هجرني النوم طوال الطريق ، كانت (( ميسون )) صورتها تملأ عيني وتسبح حزينة بين أمواج طوفان عذابي ، بحضورها عثرت على سر وجودي ومبرر حياتي ، وتعرفت على معنى خفقات القلب ، وتوهج الروح، وإشتعال الشهوات الى أقصى مدياتها ، لقد كانت أنثى الأحلام التي تشعرك ان ليس هناك شيئا آخر غير هذه المرأة التي تجتاح عالمك وتقول لك : هنا دنيا آخرى أسطورية لاتوجد إلا معي !
جاري في المعقد المجاور لي من الجهة الآخرى في السيارة ، أخذ يسألني عن عملي وأهدافي من السفر ، وحينما صُدم من ضياعي أشفق عليّ وأعطاني من متاعه قطعة خبز مع طماطة وأنقذني من الجوع بعد نفاذ طعامي ، كان فقير الحال مثلما يبدو عليه هو وعائلته ، عرفت لاحقا انه عراقي مسيحي أشوري ، ورغم انه بنفس عمري إلا انه مارس معي دور الأب المتعاطف ، ولم يجد شيئا يمكن إصلاحه من خرابي فإكتفى بالتعجب والتألم ، لقد كان إنسانا بحق .
عاتبني خالد مروان على تقريعي لنفسي وتوجيه اللوم لها ، وقال لاتعذب نفسك وتلومها على قرار السفر ، فلا أحد منا يستعمل المنطق في قراراته ، ليس هناك منطق ولا حرية للإنسان ، وإنتشلني بكلماته هذه من كآبتي ، وحرك الحماس في داخلي لمناقشة أفكاره هذه.
– (( خالد .. ما الذي تقصده .. ليس هناك منطق ولا حرية للإنسان ؟))
– (( أقصد لاتحمل نفسك مسؤولية قرار سفرك العبثي غير المدورس ، غيرك الذي يدعي تشغيل العقل والمنطق في تحركاته ، ليس أفضل منك ))
– (( ماذا تعني .. هل يتساوى الجميع في تحركاتهم في الحياة ؟))
– (( الذي أقصده ان البشر يعيشون على أوهام التمتع بالحرية وإستعمال العقل ، لكن الحقيقة اننا جميعا نرزح تحت سلطة أوامر كونية وأقدار حتمية تحركنا كيفما تشاء ، وقوى لاشعورية في الدماغ تقهرنا على التفكير والسلوك داخل سجون إصطبل الحياة ، فما نحن إلا مجرد أغنام تقاد من قبل تلك الحتميات وظلمات اللاشعور ، أين الحرية والمنطق ، وأنت لاتختار من أقدارك شيئا : تاريخ ميلادك ، العائلة ، مكان مسقط الرأس ، القومية ، الدين ، لون البشرة مواهبك قدراتك ومهاراتك ، حظوظك في الحياة ، تاريخ موتك ومغادرة الحياة .. كل هذه الأمور مفروضة عليك، بل حياتك كلها رُسمت وأكرهت عليها !))
نشط كلام خالد في ذهني المحفوظات والأفكار الدينية الجاهزة التي تشكل جزءا من معتقداتي الشخصية ، رحت أرددها أمامه ، حول التدخل الإلهي اليومي وممارسة إنزال محبته ورحمته ، وكذلك غضبه وعقابه ، وإمتحانه للبشر .. وكانت إجابة خالد صادمة وجديدة عليّ حيث قال :
– (( لاتوجد ميزة للبشر على الجماد والحيوانات والحشرات تدل على إهتمام الرب بها ، حينما خلق الرب الإنسان الأول رماه بين الحشرات والحيوانات من دون ان يهيء له مستلزمات العيش من طعام وسكن وخبرة في إدارة شؤون حياته ، خلقنا الرب وتركنا نهيم على وجوهننا داخل الكهوف والغابات نتعذب ولم تكن لنا أية أفضلية أو تكريم على بقية المخلوقات ، ثم ان الرب لم يتحرك ويستجب للمعاناة ولا صرخات ولا توسلات الفقراء والجياع والمظلومين .. ظل محايدا يعامل البشر مثل حالهم حال الجبال والشجر والحشرات … ))
– (( عزيزي خالد كلامك عكس مقولات الأديان ومنطق العقل ، ماهو المعيار الذي ترتكز عليه ؟))
– (( بعيدا عن النصوص الدينية .. وأيضا العقل ، المعيار في تحديد علاقة الرب بالإنسان هو الواقع ، فالأديان ونصوصها من صنع البشر .. والعقل مراوغ ، يبرر ، ويؤول ، ولديه قوالب وأسس جامدة لايستطيع الخروج عليها … بينما الواقع يخبرنا ان الرب علاقته مع الحياة والمخلوقات محايدة غير متفاعلة ولايتواصل مع المخلوقات ، لابشكل مباشر ، ولا بالدعاء ، ولا بإداء الطقوس الدينية له وتقديم النذور، وعليه يجب إعادة تعريف علاقة الرب بالإنسان على ضوء الواقع فقط بعيدا عن النصوص الدينية والعقل )).
كنت أوقام كلام خالد ، لاأريد قتل الأحلام والأوهام الدينية في نفسي وأنا في حالة إلإفلاس المالي والضياع ، كان وضعي وظروفي تقول لي لابد من إختراع الأمل ، والتمسك بوجود الرب الراعي المهمين القادرعلى كل شيء الرحمن الرحيم مجيب الدعاوات ، لكن كم إمراة كانت سجينة تتعذب وتغتصب بيد الجلاد دعت الرب ولم يستجب لها ، وكم مليون منكوب بالزلازل والالأمراض والجوع والحروب … صرخوا طلبا لمساعدة الرب ، لكن دون جواب ، وكيف يستقيم مفهوم الإبتلاء والإمتحان والعقاب الإلهي مع عظمة الرب ورحمته وكرمه ، أليس إبتلاء البشر هو أشبه بالتلاعب بهم من قبل حاكم متجبر يريد معرفة درجة ولاء كل واحد منهم ، بينما الرب يفترض انه يعلم كل شيء ولايحتاج الى إمتحان الناس ؟!

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here