في ادب الحياة : هكذا ينبغي ان تكون السياحة !

د. رضا العطار

يحتاج الكاتب والطبيب والفيلسوف والمحامي والصحفي والمهندس قبل العامل في المصنع الى ان يترك محيط عمله مرة في السنة في اقل الأمكان ليتسنى له الفرصة الكافية للتعرف على وسط جديد يدرس عادات وثقافة شعبه واسلوب حياته عن كثب فضلا عن تجديد عافيته بغية الحفاظ على صحته.

وكل ذلك يتم في السياحة. ولكن السائح المفكر يزيد على ذلك بانه يجد في السياحة خلوة فكرية لم يجدها وهو في وطنه. لأننا حين ننأى بالذهن والجسم عن بلادنا، نستطيع في هذه الخلوة ان نتخلص من اعتباراتنا المحلية وتقاليدنا القومية التي يبثها المجتمع، وما ينجم منها من عواطف سلبية او ايجابية، نعم وحتى من عوائلنا واقرب اصدقائنا، بينما نجد في هذه الخلوة صفاء ذهنيا وقدرة على الممايزة بين القيم الاخلاقية والروحية، لا نجد مثلها ونحن مرتبطون بالأعتبارات التي تلابسنا ونحن في بلادنا.

فلو كنت شابا افضل ان اقضي مثلا شهرا كاملا في مدينة اوربية او لتكن قرية المانية اتعرف فيه الى بعض سكانها واطعم بطعامها وامعن النظر الى مشاهدها الحضارية واتمتع بمعالمها الثقافية وازور بعض بيوتها واسهر لياليها، ثم استيقظ مبكرا واسير في طرقاتها النظيفة مزيّنة بالورد والرياحين، تنشر عطرها الفواح في هواء صباحها المنعش. ثم اقرأ على مهل جرائدها واناقش قارئيها. افضل ذلك على ان اطير بين عواصم اوربا حيث انزل في فنادقها الكبرى وارى اثاثها واللألأة في مصابيحها اقضي فيها يومين ثم اخرج منها كما لو خرجت من قاعة السينما.

يجب اثناء سياحتنا ان نقيم ولا نهرول، نتأمل ولا نتعجل، نرتشف من المكان الواحد ولا نحتسي من الاماكن العشرة، ونترك عقلية الساعة والطائرة ونعود الى عقلية السفينة بل السفينة الشراعية. اذا كان ذلك ممكنا.
لقد خرج ابن بطوطة من مراكش فوصل الى الصين بعد ان قضى في رحلته هذه نحو عشرين سنة، عرف خلالها الدنيا وتعرف على اخلاق شعوبها واخذ من بعض عاداتها وجزء من ثقافتها بما لم يعرفها غيره. فنحن نطير هذه المسافات الشاسعة في يوم او يومين، فلا نعرف شيئا ولا نزداد علما ولا نجد الفرصة لدراسة البلاد التي ذهبنا اليها ولم نطلع على طبيعة سكانها كي نقارنها مع قيمنا الوطنية.

وكان ابن بطوطة يسيح بالسفينة والجواد والجمل وكان يقيم السنة والسنتين في الهند ويتعرف على عجائبها وكان بذلك سائحا عظيما. اما نحن فاننا نسيح بالطائرة ولا نقيم ولا نرى الا المظاهر العمرانية والموجودات الحضارية.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here