علي الوردي في ميزان/غرائب(3)

عبد الرضا حمد جاسم

في هذا الجزء أتكلم عن رأي الراحل الوردي بتصنيف الناس وحسب ما ورد في كتبه: خوارق اللاشعور/1952 ومهزلة العقل البشري/1955 ووعاظ السلاطين/1954واسطورة الادب الرفيع/1957…هناك ثلاثة أقوال نقلها لنا الراحل الوردي هي حسب التسلسل الزمني لنشرها: الأول: للفضل بن يحيى البرمكي. والثاني: للنبي محمد. والثالث: للخليفة الراشد الرابع الشيخ علي بن ابي طالب …

قَبِلَ الثاني والثالث ورفض الأول بشدة. ما دعاني للتطرق لها هو الرفض وبتلك الصورة حيث اعتقد انه حرَّفَ قول الفضل بن يحيى البرمكي أو وظفه توظيف خاطئ في سبيل تعضيد احدى استنتاجاته غير الدقيقة اجتماعياً وهي موقفه الحاد جداً من القول المتداول: “”من جد وجد”” حيث كتب في ص 12 من كتاب خوارق اللاشعور/1952 التالي: “”المبدأ السخيف “من جد وجد”….].

ملاحظة: سيكون الجزء القادم: مناقشة الراحل الوردي في موضوع من “من جد وجد”.

…………………………………….

في ص211 و212 خوارق اللاشعور/1952 كتب الراحل الوردي: [يقول الفضل بن يحيى البرمكي، وهو كما يعرف القارئ ممن صعد بهم القدر الى الوزارة من غير جدارة: [ان الناس أربع طبقات: ملوك قَدَّمهم الاستحقاق ووزراء فضَّلتهم الفطنة والرأي وعليَّة أنْهَضَهُمْ اليسار وأوساط ألْحَقَهُمْ بهم التأدب والناس بعدهم زبد جفاء”]. انتهى

تعليق: الراحل الوردي نقل هذا القول من ص9 من كتاب ملامح من المجتمع العربي/محمد عبد الغني حسن كما مؤشر في هامش ص212 /خوارق اللاشعور وهو ناقص حيث تكملته كما وردت في ص179ج2/ وص54 /ج5 جرجي زيدان/تاريخ التمدن…هي: [“…زبد جفاء وسيل غثاء، لكع لكاع وربيطة أتضاع هَّم أحدهم طعامه ونومه”].

الغرض من الإشارة الى تكملة القول هو الايضاح والشمول ف”زبد جفاء” لا توضح رأي الفضل بن يحيى البرمكي بالقاعدة العريضة للهرم الاجتماعي بشكل جيد.

أنا هنا لا اريد الدفاع عن الفضل ابن يحيى البرمكي انما ادافع عن علم الاجتماع وضرورة الاستعانة او الاستعارة الدقيقة…

قال الفضل بن يحيى البرمكي رأيه بالناس في وقته إن صح قوله أو كان متفق عليه، فهو وجهة نظر كان يجب على الراحل الوردي وهو عالم اجتماع ان يهتم بها ويتمعن ويدقق حيث انها تخص مجتمع وفيها تفصيل يتناسب مع حالهم في تلك المرحلة التاريخية وتحت تأثير تلك البيئة واعتقد ان هذا التصنيف الذي تضمنته وجهة النظر تلك لايزال “قائم” لليوم في كثير من بلاد اسلام هذا الزمان كما كان سائد في بلاد اسلام ذلك الزمان وربما في اغلب المجتمعات والدول اليوم.

قال الفضل بن يحيى البرمكي ان: “الناس أربعة طبقات”…وعددها كالتالي:

1.ملوك.

2.وزراء.

3.علَّية.

4.اوساط.

ثم أضاف لتلك الطبقات الأربعة مجموعة من الناس قال عنهم او وصفهم ب “زبد جفاء”

لقد قدم للطبقات بكلمة “ناس” وقدم لل “زبد جفاء “بكلمة “ناس” ايضاً، إذاً هو اعتبر الفوارق بينهم في الموقع او المنزلة.

اين نضع تلك التكملة او كيف نُصَّنفها او ما هو حسابها /موقعها اجتماعياً؟

من الكلمات التي وردت في النص نعرف ان الطبقات هم الصفوة او الوجهاء أي الأقلية وال “زبد الجفاء” هم السواد الأعظم والذين يشكلون القاعدة الواسعة للهرم الذي وصفه الفضل بن يحيى من خلال تدرج المنزلة والموقع والمسؤوليات والتأثير. هذا السواد الأعظم هم الغالبية العظمى من المجتمع أوهم قاع المجتمع او المسحوقين اوهم الخليط الاجتماعي أو القاعدة التي يستند عليها هرم المجتمع وترتكز عليها طبقاته الأربع التي عدَّدها الفضل بن يحيى البرمكي إن ماجت هذه المجموعة من الناس ماج وتصدع المجتمع او سقط او سيسقط، وعندها لا تنفع المجتمع كل الطبقات الأربعة…وهذا ما حصل في وقت الخليفة الراشد الثالث الشيخ عثمان بن عفان كما بينتُ في حينه.

مفهوم الطبقات اجتماعياً واستخدام الفضل بن يحيى له أثر في تفسير قول لفضل بن يحيى البرمكي وهذا مهم وهو يعني انها غير منفصلة عن بعضها رغم الفوارق الهائلة بينها على كل الصُعُدْ، “”بناء اجتماعي متعدد الطوابق سواء على أساس الذكاء او الغنى او الجدارة او المسؤولية او التأثير…أي هرم رأسه الملوك وقاعته ال “زبد جفاء””” وهذا حال المجتمعات كلها في وقت الفضل بن يحيى وغالبها في الوقت الحاضر.

حتى انتفاضات الشعوب في الوقت الحاضر “الربيع العربي” همها “غذائها ونومها” اولاً ثم العوامل التي تعتقد الشعوب انها تديم “غذائها ونومها “”عيشها اللائق وسكنها اللائق المناسب” وتحافظ عليها من الهزات والتقلبات.

أي انها “الطبقات” تؤثر وتتأثر ببعضها بالاتجاهين صعوداً ونزولاً حيث ان كل طبقة متواصلة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً مع التي قبلها وما تأتي بعدها ولا يمكن ان تكون بدون الطبقات الأخرى.

فالملوك “تقديسهم”/منزلتهم/سلطتهم/جدارتهم/مكانتهم من تقديس/منزلة/سلطة/جدارة/مكانة الرب/الاله وتستند على ما تليها أي طبقة الوزراء وهكذا البقية لنصل الى الطبقة الرابعة التي تتواصل مع ما قبلها من طبقات وتحتاج الى من تستند اليه أي الطبقة التي تليها وهم السواد الأعظم “زبد جفاء” التي تستمد منه كل الطبقات خزينها وخزائنها وفيها مصاريف الأمور القذرة منها والجيدة فالملك يتباها برعيته ويدوس عليهم وهكذا الطبقات الاخرى، لذلك هو يفكر بهم و يهتم و ويتحسب لهم و يحذر و معه كل عضو او منتسب للأربع طبقات رضي بذلك ام لم يرضى/مرغماً ام قانعاً. فهم “زبد جفاء” طبقة الطبقات التي تستند على الأرض وتحمل ما فوقها… فما قيمة الملوك والوزراء وغيرهم دون الرعية؟؟؟ عليه فهم الطبقة الخامسة التي لم يذكرها الفضل لكنها تبرز من نص القول. ودليل الاهتمام بهم هو تقديم الفضل بن يحيى البرمكي لتشخيصهم بكلمة “الناس” تلك التي ابتدأ بها قوله في “والناس أربع طبقات”. “اكررها للأهمية”…عليه فهو قال أربع طبقات للناس وعَدَّدَ خمس طبقات للناس. لو لم يقل طبقات كأن يقول مجاميع او زمر لكان للقول تفسيرات أخرى. لكن الطبقات تحتم التدرج والهرمية.

كان على الراحل الوردي وهو المختص بعلم الاجتماع ان يتوقف كثيراً امام هذا القول ويدقق فيه بتمعن وينتبه الى كل كلمة وردت فيه وبعدها يضع رأيه بعيداً عن أي مقدمات او مواقف شخصية او عامة من الحاكم /السلطان/الخليفة وزبانيته/معاونيه أي الرشيد والبرمكي ومن لف لفهما لأن غير ذلك يُفقد المُهْتَمْ حياد العالِم وهذا ما حصل. وكان عليه ايضاً ان يستفيد من آراء/تفسيرات الاخرين.

ولبيان موقف الوردي من هذا القول ومحاولته توظيفه أنقل لكم ما كتبه الوردي في نفس الصفحة حيث ورد التالي: [ان هذا الوزير العباسي المتحذلق قد اغتر بما نال من ترف وجاه في ذلك العهد المتفسخ فأمسى يعتقد بأنه نال ذلك بجده واجتهاده وبعقله وتدبيره وهو يعتبر الطبقات العليا كلها قد وصلت الى منازلها تلك بسعيها اما الباقون من الناس فهم في نظره زبد جفاء وحُثالات لاحق لهم في الحياة ولا كرامة] انتهى.

انا هنا اناقش نص القول واحلله ولا اعرف هل ان من طبيعة الفضل بن يحيى البرمكي وصفاته انه مغرور او اغتر. أجد من تفسيري للقول انه لم يعتبر ان الطبقات العليا قد وصلت الى ماهي فيه او عليه بسعيها وجدها ولم يَقُلْ او يُلَمِحْ الى أن غيرهم لاحق لهم في الحياة فكلمة الناس تكفي. الفضل بن يحيى قال الملوك قدَّمهم الاستحقاق وهذا لا يعني ان الملوك سعوا انما استحقوا وفيه اشارة الى السائد من الاعراف والقوانين التي حكمت في ذلك الوقت وأقرت الاستحقاق فالرشيد بويع. اما الوزراء فَفَضَّلَتْهُمْ الفطنة والرأي وهذا ما يطرحه كل الحكام والملوك في كل العصور عن وزراءهم وينقلب الحال عندما يغضبون عليهم كما انقبل الحال على بن يحيى نفسه فالوزارة ليست درجة/سُلَمَة في سُلَّمْ يصعدها الشخص بنفسه او إصراره او جهده انما يُختار من قبل الخليفة/السلطان/الملك/الرئيس و هذا حال حتى وزراء اليوم ربما في كل الدول و المجتمعات…اما العَّلية فقد انهضم اليسار “اليُسر والغنى” وهذا حصل ويحصل في كل العصور وحتى يومنا هذا…و امامتا مواقع وتأثير الاغنياء و أصحاب المصالح و رؤوس الأموال…بعضهم جد واجتهد و الغالبية ورثت ما هي عليه و كل عملها انها تريد على اقل تقدير المحافظة على ما هو موجود… وهناك ال “أوساط” يتبعون من تقدم عليهم بالتأدب و غيره…وقد ايد قولي هذا الوردي نفسه حيث كتب في ص110 من خوارق اللاشعور/1952 التالي: [وكثير من الافراد الذين أتيح لهم من الفرصة او الثروة او الوساطة القوية ما جعلهم ينالون من الحظ مالم ينله اقرانهم اخذوا يتباهون ويتكبرون على الناس كأنهم قد نالوا ما نالوا بمحض السعي والصبر والإرادة ناسين أثر تلك الظروف السعيدة التي أحاطت بهم منذ نشأتهم الأولى فوضعت أسماءهم في قائمة المترفين المدللين…] انتهى

اما ال “زبد جفاء” فهؤلاء ناس كانوا ولا يزالون. كانوا على زمن النبي محمد وفي كل الأزمنة حتى زمان الراحل الوردي ويومنا هذا وفي دول اسلام هذه الايام ملكية كانت ام جمهورية، ديمقراطية كانت ام دكتاتورية، غربية كانت او شرقية، شمالية كانت او جنوبية. هم سكان المقابر وأحياء الصفيح المحيطة بالمدن الكبرى والوردي قال عنهم ربما أكثر مما قال عنهم الفضل بن يحيى…فالفضل ان ركز قوله وكثفه في هذه العبارة “زبد جفاء…الخ” فالوردي صال وجال فيهم “السقطة والسفلة والغوغاء وووووووووو”.

ثم لا اعرف مظاهر التفسخ ذلك الذي أشار اليه الوردي في عهد الفضل بن يحيى البرمكي ذلك العهد الغني المزدهركما تقول الروايات والحكايات.

اعتقد ان تفصيل او تصنيف الفضل بن يحيى البرمكي للناس يتناسب مع حالهم في تلك المرحلة التاريخية وتحت تأثير تلك البيئة واعتقد ان هذا التصنيف لايزال “قائم” لليوم في الكثير من الانحاء.

ثم اضاف الوردي التالي: [ان من المخجل حقا ان نرى الادب العربي مليئاً بهذه الاقوال التي تفوه بها الفضل ابن يحيى وامثاله من المغرورين والمتكبرين ولا عجب في ذلك فهو ادب قد ترعرع في اكناف هؤلاء المغرورين وعاش على فضلات موائدهم] انتهى

وكرر الوردي نفس النص المنسوب للفضل ابن يحيى البرمكي بعد خمسة اعوام حيث نشره في ص246 من كتاب اسطورة الادب الرفيع 1957 تحت عنوان فرعي هو “عقلية المترفين” وأضاف اليه التالي: [وهذا القول لم يقل به الفضل بن يحيى وحده بل قال به جميع المترفين في مختلف العصور فهم يعتبرون الشعب مؤلفاً من السوقة والاغبياء والكسالى الذين عجزوا عن الصعود في مراقي النجاح ولو كان فيهم خير لسعوا واجتهدوا ووصلوا الى مستوى المترفين الفضلاء] انتهى.

هنا بيت القصيد وهنا أراد الوردي تحريف القول وتقويل الفضل بن يحيى البرمكي مالم يقل عندما تجنى عليه واتهمه ومعه جميع “المترفين و المغرورين و المتكبرين في كل العصور” وفي كل التاريخ من أيام الفضل بن يحيى البرمكي الى أيام الدكتور علي بن حسين الوردي بأنهم يعتبرون الشعب مؤلفاً من السوقة والاغبياء والكسالى الذين عجزوا عن الصعود في مراقي النجاح ولو كان فيهم خير لسعوا واجتهدوا ووصلوا الى مستوى المترفين الفضلاء…او انهم يعتبرون الطبقات العليا كلها قد وصلت الى منازلها تلك بسعيها اما الباقون من الناس فهم في نظرهم زبد جفاء و حُثالات لا حق لهم في الحياة ولا كرامة.

قد يؤشر الاغلب الاعم منهم “المترفين والتابعين لهم الذين يعيشون وعاشوا على فضلات موائد السلاطين والمترفين في كل العصور ” حال السواد الأعظم” وقد ينتقص من حالهم او يتندر عليهم لكنهم لا يلومونهم على ما هم عليه…لا بل قد يشجعونهم للبقاء فيما هم عليه وهذا حال الوردي عندما تنكر وحارب “”من جد وجد “”بقوة وإصرار غريب “”سأبين ذلك في الجزء القادم””…

وللراحل الوردي رأي صريح في هؤلاء “زبد الجفاء” حيث كتب في ص20 /دراسة في طبيعة المجتمع العراقي/1965 التالي: [الواقع ان علم الاجتماع بطبيعته “متواضع” يستمد أكثر معلوماته من السوقة ومن السفلة والمجرمين والغوغاء. فهؤلاء بمنابزاتهم ومفاخراتهم وبتعاونهم وتنازعهم يمثلون القيم الاجتماعية السائدة أصدق تمثيل] انتهى…أي ان الوردي يعارف بوجودهم في زمانه كما كانوا في الازمنة الغابرة.

ان بيت القصيد الذي اشرت اليه أعلاه هو توظيف قول الفضل بن يحيى البرمكي في تعضيد رأي الوردي الغريب حول ما كتبه في ص11/خوارق اللاشعور/1952 عن الجد والإرادة حيث كتب التالي: [لقد وصلت بهذا البحث الى نتيجة هي في الواقع معاكسة لجميع ما دأب المعلمون والكتاب والخطباء في هذه البلاد ان يلقنوننا اياها. فهم وعظونا وعلمونا على ان ” من جد وجد” وان كل من سار على الدرب وصل” ” وان مستقبل الفرد بيده إذ هو يستطيع ان يصنع نفسه حسب ما يشاء بحزمه وإرادته وسعيه واجتهاده] انتهى …وفي ص12 من خوارق اللاشعور/1952: [المبدأ السخيف “من جد وجد”…الخ]

انفعال الوردي بما أطلقه على الفضل بن يحيى أبعده عن الحياد… ولو انتبه الراحل الوردي الى المفردات التي استعملها في وصف الفضل بن يحيى البرمكي يجد انها لا تختلف كثيراً عن المفردات التي اُطلقت وتُطلق على بن خلدون نفسه في وقته وحتى هذا الوقت ويكفي ما منشور عن بن خلدون وعلاقته بالسلاطين والاباطرة ومنها ما كُتب عما جرى مع تيمورلنك حيث يمكن لمن يريد ان يقول ان بن خلدون نال الترف والجاه وعاش على فضلات موائد السلاطين والأباطرة، يقول ذلك وهو مطمئن لكثرة ما قيل عنه وكُتِبْ. وقد كتب الوردي في ص38 دراسة في طبيعة المجتمع العراقي/1965 عن ابن خلدون التالي: [يبدوان الذي دفع ابن خلدون الى اعتبار العرب أكثر بداوة وتخريبا ووحشية من غيرهم سببان اولهما: محاولة ابن خلدون التقرب من تيمورلنك ونيل الحظوة عنده ولا ننسى ان ابن خلدون كان في سيرته انتهازيا فظيعا يود التقرب من الملوك وقد يقلب في سبيلهم الحق باطل] انتهى.

أعتقد لو صَّنف ابن خلدون الناس كما صَّنفهم الفضل بن يحيى البرمكي لقال عنه الوردي انه تصنيف يؤيده علم الاجتماع الحديث ولم يسبقه اليه أحد وانه سبق زمانه بخمسة قرون…”حب وحجي و اكره واحجي”!!!!

…………………………..

ان خلاف الوردي وانتقاده الحاد جداً للفضل بن يحيى البرمكي لا على الطبقات الأربعة التي منحها الفضل الأفضلية و السيادة على المجتمع انما على السواد الأعظم “زبد جفاء” والغريب ان الراحل الوردي في رفضه العجيب لقول الفضل بن يحيى وتهجمه عليه وزج مترفي كل العصور معه و معهم الادب العربي نراه يمتدح قول الخليفة الراشد الرابع الشيخ علي بن ابي طالب في تصنيفه للناس الذي أورده في ص 72 من كتاب مهزلة العقل البشري/1955 أي بعد ثلاثة أعوام تقريباً حيث كتب التالي: [وقد وصف علي الناس في عهده فقال: الناس ثلاث: عالم رباني و متعلم على سبيل النجاة و الباقي همج رعاع ينعقون مع كل ناعق و يميلون مع كل ريح] انتهى

ان:” زبد جفاء وسيل غثاء ولكع لكاع وربيطة اتضاع هم أحدهم طعامه ونومه” كل تلك الكلمات/الاوصاف ومعانيها تدل انهم ناس فقراء لاهم لهم في الحياة سوى تدبير ما يسد رمقهم وعوائلهم فلا أطماع ولا طموحات لا في المال ولا في المناصب ولا في السياسة ولا في الحكم يعني: “”ناس تدَّور لكَمة الخبز والستر “”ناس فقره تلهط وره عيشتها”…بعكس “همج رعاع وينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح” أي لا قيم عندهم ولا شرف ولا وفاء ولا صدق ولا اخلاق ولا أمان لهم ولا ايمان. والفرق هائل بين القولين التوصيفين.

اعتقد ان هذه الصفات وهذا التوصيف/الخليفة الراشد الرابع ان صح هو تصنيف او توصيف سياسي اجتماعي قاسي… وتأكيداً على حماس الوردي لقول الخليفة الراشد الرابع وما وصف به الناس أكمل الوردي بالتالي في نفس الصفحة: [والظاهر ان هذا الوصف لايزال صحيحاً في كثير من البلاد الإسلامية حتى يومنا هذا]. يعني ان الراحل الوردي عمم قول الراشد الرابع وسحبه على كل العصور وهو الذي قدم له ب ” وصف الناس في زمانه” وايضاً سحب قول ابن يحيى على كل العصور وهو لم قديم له ب “وصف الناس في زمانه”.

والعجيب ان الراحل الوردي في ص 29 من كتاب وعاظ السلاطين/1954 أي قبل اقل من سنه عما كتبه في خوارق اللاشعور في المقطع السابق كتب التالي: [وصف علي بن ابي طالب الناس في عهده قائلاً: “وأعلموا انكم صرتم بعد الهجرة اعراباً وبعد الموالاة أحزاباً. ما تتعلقون من الإسلام إلا باسمه ولا تعرفون من الايمان إلا رسمه. تقولون (العار ولا النار) كأنكم تريدون ان تكفئوا الإسلام على وجهه”] انتهى

لو نقارن القولين المنسوبين للخليفة الراشد الرابع الشيخ علي بن ابي طالب “تغمرنا” الحيرة مرة بسبب الاستغراب من استعارة عالم اجتماع لمثل القولين والبناء عليهما والثانية ان عالم الاجتماع قَدَّمَ للقولين بعيارة: “”وصف الناس في وقته”” ولم يُقَدِم لقول النبي محمد او قول الفضل بن يحيى بمثل تلك العبارة او شبيهها.

ملاحظة: ورد في شرح نهج البلاغة /عبد الحميد بن هبة الله وكذلك في ص179 ج13 /شرح نهج البلاغة/ابن ابي الحديد النص التالي للقول وهو يختلف عما نقله الوردي حيث ورد:”” واعلموا انكم صرتم بعد الهجرة اعرابا، وبعد الموالاة أحزابا، ما تتعلقون من الإسلام الا باسمه، ولا تعرفون من الايمان الا رسمه، تقولون النار ولا العار كأنكم تريدون ان تكفئوا الإسلام على وجهه…الخ””

ان ما طرحه الوردي يختلف عما ورد في شرح نهج البلاغة والملاحظ ان العبارة المختلفة هنا هي: الوردي كتب: “العار ولا النار” ووضعها بين قوسين () وما ورد في شرح نهج البلاغة هو: “النار ولا العار” والفرق بينهما هائل… ز كتابات الوردي تعج بمثل عدم الدقة هذه وسأفرد لها جزء خاص…والغريب ان بعض الأساتذة الذين كتبوا عن الراحل الوردي “مقشوا” نفس تلك الاغلاط/الأخطاء…كان على الراحل الوردي التدقيق والانتباه.

وفي محاولته لإسناد قوله أعلاه “رأيه بقول الفضل بن يحيى البرمكي” جاء الراحل الوردي بقول منسوب للنبي محمد أجد انه لا يتناسب مع او يقترب من معنى قول الفضل بن يحيى البرمكي حيث كتب التالي في ص 212 من كتاب خوارق اللاشعور/1952: [والواقع أن نبي الاسلام ينظر الى عامة الناس والفقراء بغير النظرة التي ينظر إليهم بها المترفون من اتباعه فهو يقول في حديث مأثور له: [إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبَهْ له، الذين إذا استأذنوا على الامراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا لم ينكحوا وإذا قالوا لم يُنْصَتْ لهم، حوائج أحدهم تتخلخل في صدره لو قُسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم] انتهى

ثم يكمل الوردي: [فالنبي لم يقل في هؤلاء ما قاله الفضل بن يحيى من انهم زبد جفاء بل وضعهم في منزلة اعلى من منزلة الفضل ابن يحيى ومن لف لفه من الامراء والوزراء والذين لا يساوون عند الله جنح ذبابة] انتهى

لو قارنا هذا القول مع الجزء الذي اعترض عليه الوردي من قول الفضل ابن يحيى البرمكي لوجدنا أن الفضل بن يحيى في قوله عن “الطبقة الخامسة” زبدا جفاء” يحاكي القول المنسوب للنبي محمد و اعتقد ان قول الفضل يتقدم على القول المنسوب للنبي محمد فالفضل يتكلم عن الناس المحيطين به أي الناس على الأرض في حياتهم اليومية والقول المنسوب الى النبي محمد يتكلم عنهم في الحياة الآخرة أي في السماء والنبي محمد بعد ان يأس كما يبدو تكلم عن حالهم في السماء/يوم الحساب…وقد وضعهم في منزلة أحسن/أعلى في السماء وعجز عن وضعهم في منزلة أعلى في الأرض/الحياة والفرق شاسع واسع وكبير وخطير. لو تريض الوردي ودقق في تصنيف النبي محمد لهؤلاء لوجد انه قال عنهم أكثر مما قال عنهم الفضل بن يحيى اقلها في قول الفضل لم ترد إشارة الى:” وإذا خطبوا لم ينكحوا…”

وتأييداً لاستعارته للقول الضعيف المنسوب للنبي محمد كتب الوردي في نفس الصفحة 211/خوارق اللاشعور التالي: [والاسلام دين امتاز بإلغاء الفوارق الطبقية وبإعلان المساواة بين الناس فاضطر المتكبرون من المسلمين تجاه ذلك ان يعتنقوا مبدأ “من جد وجد”] انتهى.

ولو انتبه الراحل الوردي الى ما ورد في الحديث المنسوب الى النبي محمد وفسره لوجده يتناقض كلياً مع ما أورده الوردي عن ان الاسلام أمتاز بإلغاء الفوارق الطبقية وإعلان المساواة بين الناس بل لوجد فيه ان الاسلام عجز عن ذلك وهذا القول/الحديث “المأثور كما وصفه الوردي” المنسوب للنبي محمد مشبع باليأس والاحباط. الاسلام كما اعتقد دعا الى إزالة الفوارق الطبقية والمساواة بين الناس لكنه لم ينجح مطلقاً في تحقيق ما دعا اليه وفي كل الحالات والأيام كان ولا يزال.

وعند البحث ان أصل الحديث المنسوب الى النبي محمد الذي كتبه الوردي وجدت النصوص التالي:

1.”رُبَّ أشعث أغبر مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه”

2.”ربَّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبَهْ له، لو أقسم على الله لأبره”

وهناك صيغ اخرى منها الصيغة التي كتبها الراحل الوردي ومصدرها كما ورد في هامش الصفحة 212 من خوارق اللاشعور هو كتاب: جامع السعادات/محمد مهدي النراقي/ج2 ص361. وقد اشار البعض الى ان هذا الحديث ضعيف…

اعتقد كان على الراحل الوردي ان لا يعتمد هذا النص لا سباب وردت اعلاه وأن يدقق فيه وفي مصدره. ومع ذلك فلو كانت إشارة الوردي للمقارنة بين القولين بها قياس قول بن يحيى في ضوء السنة النبوية…يمكن لي ان أقول ان السنة النبوية قد تم التجاوز عليها بعد فترة قصيرة من وفاة صاحبها فكيف الحال بعد تلك السنين الطوال وما حملت وانتجت…اي أيام الفضل ابن يحيى البرمكي.

واختم بما كتب الوردي في ص72 /مهزلة العقل البشري: [نحن إذ ندرس التاريخ نريد ان نجعله وسيلة لتثقيف الناس وسبيلاً لمساعدتهم على حل ما يعانون من مشاكل راهنة] انتهى.

……………………………………………….

الى اللقاء في الجزء التالي والذي سيكون عن موقف الوردي في القول المعروف “من جد وجد

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here