الصرخي والطاقة

سرت الطاقة كامنة خفية في الجمادات , وجرت مجرى الدم في الكائنات الحية لتصل الى كل خلية من خلايا الجسم , مستمدةً من الحرارة والحركة وبعض الفعاليات الحيوية وجودها , تدعم بقاءها , حتى تخفت وتضمحل بعد فقدان الحياة.
استخدمت الطاقة من قبل الحيوانات بعدة طرق منها :
1- الحيوانات الطريدة استخدمت الطاقة للدفاع عن النفس ودرأ الخطر , تنفش ريشها أو شعرها لتبدو بحجم أكبر وتصدر بعض الأصوات كمحاولة لإخافة الغازي , وتحاول التقدم نحوه كهجوم دفاعي ثم تفر عائدة الى ملاذها , فإذا فاقت طاقتها طاقة الغازي تكون قد ربحت الجولة , وإن كان العكس فبالعكس .
2- الحيوانات المفترسة : استخدمت الحيوانات المفترسة الطاقة للإيقاع بفرائسها , مخيفةً إياها بالحجم والأنياب والمخالب والصوت , حتى تنهار طاقة الضحية فلا تعد تقوى على المقاومة أو المجابهة أو الفرار الناجح .
3- الصراع بين حيوانات الجنس الواحد : طالما تنافست ذكور حيوانات الجنس الواحد للسيطرة على القطيع والحصول على الإناث , وربما حفاظاً على منطقة النفوذ , فيشحذ كل ذكر طاقته بمواجهة الذكر المنافس , ويتبادلان النطاح او القتال , لن يمر وقت طويل , في بعض الأحيان , حتى ينسحب أحدهما , رغم إن جراحه ليست خطيرة , بل كان السبب الحقيقي في إنسحابه هو إنهيار طاقته وغلبة طاقة الذكر المنافس.
الإنسان أيضاً إستخدم الطاقة في كل الميادين , لكنه فاق الكائنات الحية بالعقل , وتغلب عليها وسادها وساسها وروضها به “العقل” , بينما مع أبناء جنسه استخدم الطاقة في محورين رئيسيين :
1- لا إنساني : بشكل فظ لا يختلف عن اسلوب الحيوانات الدفاعي والهجومي , فأستعرض عضلاته وهيكله الخارجي وصوته لإخافة الخصم , وربما لسلب ما ليس له , معتمداً بشكلٍ ملحوظ على طاقة الجسد السلبية.
2- إنساني : وضع الإسلوب الفظ جانباً وتلقف اسلوبه الإنساني الخاص والخالص , معتمداً ومستلهماً طاقته الإيجابية , فوضع إسلوبه الخاص , وطبعه بطابعه , وختمه بتوقيعه , فأنشأ المسالك وصنع المذاهب والتيارات الفكرية معتمداً على المعطيات من حوله.
ذكرنا في مواضيع سابقة التشابه الملحوظ بين الشعائر الحسينية وحلقات الذكر الصوفية , وبالخصوص شعيرة اللطم , التي تمثل موروثاً عربياً أصيلاً , لكنه كان يشتهر بين النساء أكثر منه لدى الرجال , ينقل لنا التاريخ كثيراً من الأحداث جرت فيها عمليات لطم , منها لطم النساء في جنازة الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه واله وسلم , فلطمن رؤوسهن وصدورهن , بياناً وأعلاناً لهول المصاب .
بعد ذاك , أختفى اللطم حتى إستشهاد الأمام الحسين بن علي “عليهما السلام” في واقعة الطف الشهيرة , ومنذ ذلك الحين , أعتمد اللطم كشعيرة من الشعائر الحسينية الأصيلة , تناقله العرب من مدينة الى أخرى , حتى آل به الأمر الى بلاد فارس في العهد الصفوي , وأنتشر في الهند مرافقاً لإنتشار التشيع هناك , في كل بقعة يصبغ اللطم بصبغة المكان والشعب الذي يسكنه , فصقل وعدّل فيه وأعيد الى العرب بصيغة لم يألفوها من قبل , لكنها نالت إستحسانهم وقبولهم , لم يواجه اللطم بالفتوى , وحكم عليه الشرع بالجواز تارة وبالإستحباب تارة أخرى , ما أطلق العنان للشعراء بكتابة القصائد والمرثيات , وألهم المنشدين إلهاماً لا محدود , وأختلف اللحن من لطمية الى أخرى , حصراً بما يتناسب مع مراسيم عاشوراء.
في ظل الإنفتاح الواسع عبر الأنترنيت , والرخاء النسبي , والحرية المطلقة , والطموح الجامح , وإشباعاً للجوع الناتج من سنوات الكبت والحرمان , وبحثاً عن كل ما هو جديد
, ظهرت كثرة كاثرة من المنشدين (الرواديد) , وبدأ التنافس لتحقيق الأفضل , طلباً للشهرة على أوسع نطاق ممكن , فأدخلت أنماطاً وألحاناً غير معهودة في شعيرة اللطم الحسينية الخالصة , هرع البعض منهم لسرقة ألحان أغاني ناجحة , وكتبت لها كلمات تناسب اللحن المسروق , فطالما كانت الأغنية ناجحة لعل اللطمية ستنجح أيضاً !.
لم يأبه المستوردون او سارقي الألحان الى القواعد الفقهية الثابتة القائلة بالحرمة , ومنها ( كل ما تعارف لدى اهل الفسق والفجور فهو حرام) , والغناء مما يشار إليه إنه مما تعارف لدى أهل الفسق والفجور , وألحانه حرام في حال تم إقتباسها , وأيضاً القاعدة الفقهية الثابتة والأصيلة التي تنص على إن (كل ما يطرب حرام) , وألحان الأغاني جلها مطربة , فيحكم هذا الإقتباس وحشره في اللطم بالحرمة وفقاً الى هذه القواعد الفقهية وغيرها , بالإضافة الى ذلك , إن لحن الأغنية تمت سرقته واستخدم بدون علم صاحبه الأصيل أو موافقته , والسرقة حرام !.
أستمرت شعيرة اللطم الحسينية في تلقي كل ما هو جديد وغريب أيضاً , حتى ظهر اللطم السريع والحماسي والذي أطلق عليه مصطلح “الشور” , تسميه غريبة لا أساس لها في الشعائر الحسينية , لكن الفقه لا يمنع ذلك , فالقاعدة الفقهية المتسامحة تنص على ( الأصل في الأشياء الإباحة , حتى يقوم الدليل بالحرمة) , تحت هذه المظلة نما وترعرع “الشور” , وكان له الأثر الكبير في نفوس الكثيرين , فلاقى الترحيب , وعانق النجاح .
كل ما تقدم , لم يجابه بالمنع أو التحريم بشكل رسمي , رغم المؤاخذات الشرعية الواضحة , إلحاقاً بالموضوع , حلقات الذكر الصوفية أيضاً لم تقابل بالتحريم أو المنع , إلا من مذاهب متعصبة , رغم استخدام الطبول أو الدفوف , وحركات تبدو راقصة , فــ ( الأصل في الأشياء الإباحة , حتى يقوم الدليل بالحرمة) , طالما وإن المشرع لم يصدر فتواه بتحريمها بشكل رسمي.
رجل الدين الحسني الصرخي لاحظ أموراً غريبة , وجدها في “الشور” , ربما بعلمٍ مسبق بمسالك الطاقة , وربما بشكلٍ عفوي , فهناك الكثير من البارعين في الطاقة لا يدركونها أو يعوها , مهاراتهم فطرية , لاحظ رجل الدين الحسني الصرخي طفح الطاقة في “الشور” , خصوصاً وإن المؤهلات متوفرة وجاهزة , وما عليك إلا الإعداد والتنظيم , فجاءت على أكمل وجه في صياغته للراب المهدوي , فكما قلنا في بحث “الشحنات” إن الحلقة بحاجة الى أولاً : القطب , وهنا كان القطب الشعيرة الحسينية , ثانياً: الشيخ , وكان رجل الدين الحسني الصرخي , ثالثاً: خليفة الشيخ أو من ينوب عنه , وكان في حلقات او مجالس الراب شيخ او شيوخ معممين , رابعا: أعضاء الحلقة , فكانوا في الراب مصطفين بشكل جيد , وبزيٍ موحد , خامساً: المنشد أو الرادود , ووجوده ضروري جداً لقراءة القصائد بلحن معين يتناغم مع حركات أعضاء المجس أو الحلقة , سادساً: الموسيقى , سواء كانت بالطبول أو بالدفوف , تمت الاستعاضة عنها بموسيقى جاهزة , سابعاً: حركة أعضاء المجلس والحاضرين , ينبغي لها ان تكون منسقة ومنتظمة بصيغة واحدة , ثامناً: تطلب الأمر وجود شخص يقوم بتلاوة كلمات خاصة , بشكل لا يعلو على صوت المنشد , أتفق أن تسمى بالتسبيح في الشعائر الحسينية , حيث يقوم شخص ما وأثناء إنشاد المنشد بالتسبيح بصوت معين كأن يقول (حسين , حسين , مهدي , مهدي) بطريقة سريعة , تاسعاً: طريقة إختتام , والتي يجب ان تكون بطريقة لا تبدد الطاقة , فكانت كذلك .
إلا ان الإضافة الملحوظة في راب رجل الدين الحسني الصرخي طريقة إفتتاحه المبتكرة , بتلاوة شيءٍ من القرآن الكريم , الأمر الذي يسترعي من جميع الحاضرين توجيه انظارهم وافكارهم نحو المنصة حيث يقف المنشد ومن خلفه , هنا حيث تتركز الطاقة في بؤرة واحدة أو نواتها ومن ثم تنطلق لتلف حولها في مدار ينسجم مع حركة المشاركين.
من البديهي جداً , أن يشعر جميع المشاركين والحاضرين بنوع من الراحة وربما الطمأنينة والسكينة بعد نهاية المجلس وذلك بسبب تفريغ الطاقة السلبية وإكتساب طاقة إيجابية تدفعهم نحو التفاؤل والإبتسام للحياة.
الطاقة تعد من أفضل الطرق لكسب المريدين والمؤيدين والأنصار , تمدهم بالاعتقاد بالفكرة وتزيدهم إيماناً وتمسكاً بها , قد تصل الى درجة التعصب وإلغاء الأخر .

حيدر الحدراوي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here