ثغرات فى وعى الأمة بين 1919 واليوم

محمد سيف الدولة

[email protected]

كثيرا ما يحتار المرء من قصور الوعى السياسى والشعبى لجيل كامل وعجزه عن رؤية وادراك ومواجهة مخاطر واضحة وضوح الشمس، وتبديد جهوده واهتماماته فى قضايا ثانوية وتوجيه بوصلته الى الوجهة الخطأ. على غرار ما يحدث اليوم على سبيل المثال، من تراجع وغياب مشروع التصدى للتبعية الامريكية وللتطبيع والتحالف المصرى والعربى مع (اسرائيل) الذى وصل الى مرحل شديدة العمق والخطورة. والأمثلة كثيرة.

***

ولقد وجدت فى تاريخ جيل 1919 سابقة مماثلة تكشف الى اى مدى يمكن لجيل بكامل بكل مفكريه وقادته وتياراته المختلفة ان يغفل عن حقائق ومخاطر مؤكدة ووشيكة.

فاذا نظرنا على سبيل المثال الى كتابات المؤرخ الراحل الكبير عبد الرحمن الرافعى الذى يعتبر المصدر الرئيسى لغالبية الباحثين فى تاريخ واحداث ثورة 1919، فلن نجد حرفا واحدا فى هذه الكتابات، ينم عن وعى وادراك لاى من قضايا أربع، اخترناها على سبيل المثال، نعلم جميعا اليوم كم كانت من الاهمية والخطورة والتاثير على مصائرنا ومجتمعاتنا لعقود طويلة مستمرة حتى يومنا هذا:

· القضية الاولى هى اتفاقيات سايكس بيكو التى وقعت بين انجلترا وفرنسا عام 1916 وتم الاعلان عنها بعد الثورة البلشفية عام 1917 ضمن الوثائق السرية المكتشفة فى وزارة الخارجية الروسية، فاننا لا نجد لها اى اثر يذكر فى كتابات الرافعى او فى بيانات ومواقف وتصريحات قادة وزعماء ثورة 1919، رغم ان هذه هى الاتفاقية التى رسمت حدودنا الحالية التى لا نزال نعيش داخل أسوارها حتى اليوم، والذى فشلت كل محاولاتنا فى الفكاك من أسارها، واكبر مثال على ذلك هو فشل وحدة 1958 بين مصر وسوريا التى تمت فى ذروة المد القومى العربى فى المنطقة.

لقد غابت عن اهتماماتهم رغم ان ما قامت به من تقسيم وتجزئة كان لها بالغ الأثر على فشل وتعثر كل محاولاتنا فى الاستقلال او فى الحفاظ على الاستقلال الذى تحقق، أو فى التنمية وسد احتياجات الشعوب العربية، او فى التقدم واللحاق بباقى شعوب العالم، خاصة تلك التى كانت تعيش فى ذات ظروفنا ولكنها انطلقت وتقدمت علينا بمسافات شاسعة، ربما بسبب ان اراضيها واممها وقومياتها لم يقم الاستعمار بتقسيمها أو بتجزئتها كما فعل معنا، وحين فعل فانه قسمها الى دولتين لا أكثر كما حدث فى كوريا وليس الى 22 دولة كما حدث معنا.

***

· القضية الثانية التى غابت عن جيل 1919، هى وعد بلفور الصادر عام 1917، والذى كان هو اللبنة الاولى فى صناعة وزرع ما يسمى اليوم بدولة (إسرائيل) التى يدرك كل صغير وكبير فى الشعوب العربية اليوم، كم هى اكبر لعنة استعمارية غربية ضربت وطننا العربى على امتداد التاريخ، من حيث هى قاعدة عسكرية استراتيجية متقدمة للاستعمار الغربى فى أراضىنا، وحائط فاصل بين مشارقنا ومغاربنا للحيلولة دون توحيدها، وشرطى تأديب لاى شعب عربى يرغب فى التحرر والاستقلال والنهضة والتقدم، تقوم منذ انشائها بالاعتداء علينا واحتلال اراضينا وطرد شعوبنا وقتل أهالينا، حتى تحولت اليوم الى القوة الاقليمية الكبرى فى المنطقة، لا يجرؤ أى نظام عربى واحد على تحديها، بل على العكس اصبحوا يتسابقون جميعا لنيل رضاها والتطبيع والتحالف معها. هذه القضية “الأم” على خطورتها ومحوريتها كانت غائبة تماما عن اجندات واهتمامات ومطالب الحركة الوطنية المصرية وثوار 1919.

***

· القضية الثالثة التى غفل عنها ثوار 1919، ويا للعجب، هى طبيعة وحقيقة المشهد الدولى بعد نهاية الحرب العالمية الاولى، فلقد تصور اجدادنا ان المجتمع الدولى حينئذ سيقوم بمنحهم الاستقلال وحق تقرير المصير، وناضلوا وثاروا من اجل ان تسمح لهم بريطانيا بالمشاركة فى مؤتمر الصلح بباريس لعرض مطالبهم، رغم ما اصبحنا نعلمه جميعا اليوم من ان هذا المؤتمر لم يكن سوى ملتقى لاقتسام الغنائم وتوزيعها على المنتصرين فى الحرب، والتى لم تكن فى حقيقتها سوى حرب بين قوى ودول استعمارية تتنافس وتتصارع على احتلال بلاد العالم، أى حرب بين اشرار واشرار، كلهم يريدون دماءنا، وبالتالى كان وضعنا الحقيقي فى مؤتمرات الصلح هو فى سلة الغنائم، ورغم ذلك ذهبنا، ويالا سذاجتنا، لمطالبة مقتسمى الغنائم ان يمنحونا استقلالنا.

***

· واخيرا وليس آخرا، تاتى القضية الرابعة التى اود ان استشهد بها هنا للتأكيد على ظاهرة قصور الوعى لدى جيل 1919، وهى قضية تشرذم حركات التحرر الوطنى العربية فى ذلك الحين، واستقلال كل منها بمعركته ومطالبه الخاصة بعد الحرب العالمية الاولى فى مواجهة انجلترا او فرنسا او ايطاليا، رغم انهم جميها كانوا محتلين أو مستهدفين كغنائم حرب كما تقدم، وبدلا من ان يتضامنوا ويطرحوا قضاياهم كقضية واحدة يعلنون فيها رفضهم للتقسيم والاقتسام وللاحتلال والانتداب .. الخ، ذهبوا وشاركوا منفردين ففشلوا جميعا فشلا ذريعا، مكن الاحتلال من البقاء فى بلادنا لثلاثين عاما أخرى قبل ان تبدأ بشائر الاستقلال فى الظهور فى العشر سنوات التالية للحرب العالمية الثانية.

· وهو ذات الخطأ أو الخطيئة التى لا نزال نكررها حتى يومنا هذا، حين نواجه كل مشاكلنا وتحدياتنا والمخاطر التى تهددنا والتى يقف ورائها مايسترو واحد، نواجهها منفردين؛ فالامريكان و(اسرائيل) والاوروبيين، والمقرضين والدائنين فى نادى باريس وصندوق النقد والبنك الدوليين، وعصابات النهب الدولى من الشركات عابرة القومية، والحظر المفروض على أى سلاح نووى عربى …الخ، كلها مصادر خطر وتهديد واعتداء مشترك علينا جميعا بدون استثناء، ولكننا لا نزال نصر على مواجهتها منفردين.

***

ما أهمية طرح هذا الكلام اليوم؟

اهميته فى تصورى، تكمن فيما ما ذكرته فى مقدمة هذه السطور، من التراجع والاضطراب الشديد الواقع اليوم فى اجندة واولويات الحركات الوطنية والسياسية العربية، من غياب اى مشروعات جادة لمواجهة مجموعة التحديات التالية:

· تغلغل الهيمنة الامريكية واستفحال التطبيع والتحالف المصرى والعربى مع (اسرائيل) وتصفية القضية الفلسطينية.

· وانفجار الصراعات الطائفية والمذهبية والعربية/العربية والتى تنذر بمزيد من التخلف والهزائم والانقسام والتقسيم.

· بالإضافة الى استمرار رهان البعض على النظام الرسمى العربى الذى توفى اكلينيكيا منذ زمن بعيد والذى يتكون من أنظمة تعتاش على الطغيان والطبقية والاستئثار والافقار والتبعية والتطبيع والفشل والتخلف الشديد.

والتى لا اعلم هل تعود أسباب تجاهل هذه التحديات الكبرى وغيرها، من قبل كثير من القوى السياسية العربية الى قصور فى الوعى والرؤية، ام هى احدى علامات الوهن واليأس والاستسلام العربى.

*****

القاهرة فى 16 مارس 2019

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here