مرض السكّر – غذاء أم دواء؟

– د. بهجت عباس

صراع الانسان والطبيعة

تكمل خلايا بيتا البنكرياسيّة عند سنّ العشرين وتقلّ فعاليّتها تدريجيّاً بعد ذلك وهي هامّة جدّاً لإفرازها الانسولين الذي دونه لا يعيش الانسان، بينما تزداد خلايا البروستات (غدّة غير ضرورية ) عند الرجل في هذا العمر وتتضاعف عند الأربعين وازديادها ضارّ. كلتا الحالين، تناقص العدد أو قلّة الفعاليّة في الأولى وزيادة العدد في الثانية، تؤدي إلى معاناته ومرضه وربّما موته! ولو تصوّرت الأمر معكوساً فماذا سيكون؟ سيعيش مدّة أطول وبصحّة جيّدة! ولكنّ هذا لا يحدث دون جهد، فهناك صراع بينه وبين الطبيعة التي بعد أنْ ينجز الانسان مهمّاته الأساسيّة من حيث التكاثر لإدامة الحياة تودي به إلى الردى ليأتي آخرون يحلّون محلّه ويَحْـيَوْن إلى أمد معيّن أيضاً فيمرّون في الدور ذاته وهكذا تستمرّ الحياة دون أن يكون زيادة كبيرة في العدد تؤدّي إلى اضطراب العيش. وقديماً قال المتنبّي

أتيْنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها

مُنِعْـنا بها من جيئة وذَهوبِ

فالطبيعة تعمل ضدّ الانسان ولكنّها توفّر له وسائل الحياة أيضاً، ففيها كلّ ما يفيده وفيها ما يضرّه أيضاً. فعليه أن يعرف أسرارها ليستفيد من خيرها ويتفادى أذاها وضرَّها، فهي حربٌ خفيّة مختلفة وهناك تحـدٍّ وهناك أسرار إنْ لم يُدركْ كُنـهُها فشقاء وموت عاجل. الحياة تفضّل الأقوى ، معرفة أو مالاَ أو جسماً، وعليه النضال لينال البقاء وإلاّ فالفناء. وهناك الجينات التي تلعب دورها. فجينات مرض السكّر التي يرثها الإنسان من أبويه تكون (نائمة) ولا (تستيقظ) إلّا إذا أُتيح لها الفرصة، وكذا يقال عن جينات البروستات. عندما يتضاءل عدد خلايا بيتا إلى النصف يظهر مرض السكّر إلى الوجود. إنّه مرض خطير ومميت ولكنْ يُمكن السيطرة عليه وخصوصاً في بدايته وهو منتشر في كلّ مكان و بنسبٍ مختلفة. ففي أميركا يوجد عشرة ملايين شخص مصاب وهناك 90 مليوناً لديهم احتمال للإصابة Prediabetes إن لم يتداركوا الأمر قبل فوات الأوان.

وما دامت خلايا بيتا التي تفرز الانسولين التي تحتاجها خلايا الجسم لاستعمال مادة الغلوكوز التي بدونها لا تستطيع تأدية واجبها تُستهلَكُ بمرور الزمن أو تقلّ فعاليتها يكون المحافظة عليها ضرورياً وعدم التمادي في إفرازها أو (قتلها) ليستمر الجسم معافى وإن ضَعُفَ بمرور الزمن . إنّ قلّة وجود الانسولين ومقاومة الخلايا له يسبّب مرض السكّر (النوع الثاني) الذي يتميّز بوجود تركيز عالٍ جدّاً في الدم، ومن ثمّ التصاقه بخلايا الدّم الحمراء ليكوّن التركيب الخطر جدّاً المسمّي بالهيموغللوبين المتسكّر A1C الذي يجعل الدم ثقيلاَ كالصمغ جارياً في الأوعية الشعرية الدقيقة التي لا تتحمّله فيحطّمها والنتيجة هي أمراض القلب وتلف الكُلى وفقدان البصر وتلف الأعصاب والقدمين وغير ذلك. فالسيطرة على مرض السكّر هي الغاية الأساس لتجنّب عواقبه الوخيمة، ويتمّ هذا باستعمال الأدوية والغذاء والرياضة البدنيّة. ولكنْ هل استعمال الأدوية ضروريّ؟ يعتمد على تقدّم المرض واستفحاله.

الأدوية

استعمال الأدوية عمل خاطئ لأنه ليس علاجاً لهذا الداء، وإنْ كان شرّاً لا بدّ منه أحياناً، فهي (الأدوية) تمنع (ظواهر) هذا الداء وليست تَشفـيهِ، بل قد تفاقمه على المدى البعيد. فعند استعمال حبوب معينة، تكون سيطرة مؤقّتة على تركيز السكّر، وبعد ذلك لا تكفي بل يجب استعمالها بجُـرَعٍ أكثر، كأنْ تُستَعملُ حبّـتان أو ثلاثٌ بدلاً من حبّة واحدة أو تُضاف حبوب أخرى من نوع آخر إليها ثمّ اللجوء أخيراً إلى الانسولين الخارجي لتتمّ السيطرة. ولكنّ التأثيرات الجانبية قد تكون أخطر من مرض السكّر ذاته. ربّما يكون المتفورمين، رُغم بعض جوانبه السيّئة، أكثر الأدوية استعمالاً لسلامته نوعاً ما ، حيث يمنع ضخّ السكّر من الكبد ويُبطئ امتصاص السكّر من الأمعاء ولا يضغط على خلايا بيتا لإفراز الانسولين، كما تفعل مواد السلفونيل يوريا ومشتقّاتها وما يشابهها في العمل حيث تُستَنزَف خلايا بيتا في النهاية فلا يوجد إنسولين يُفرز . ولكنّ موادّ أخرى أُنتِجَتْ حديثاً ، كعقارات گليفلوزين Gliflozin ، لها مفعول قويّ يتضمّن منع امتصاص السكّر ويحفّز الكلية على طرحه سريعاً بواسطة البول ويقلّل من خطر مرض القلب الوعائي CVD ولكنْ ما الثمن؟ حموضة كيتونية Ketoacidosis ، خطرة، وإن كانت نادرة، يتطلّب علاجها رقوداً في المستشفى، وإصابة المجاري البولية، نساءً ورجالاً، مع حرقة شديدة أثناء التبوّل وصديد/ قيح، ولكنّ الجانب الأسوء والأخطر لبعضها هو زيادة احتمال بتر الأطراف بمقدار 50%! وهناك بضعة أدوية من عائلة الـگليفلوزين Gliflozine موجودة حديثاً في الأسواق منها جارديانز وفاركسيغا وإنفوکانا ” عملها وآضرارها الجانبیة متشابهة.”

الغذاء

وضع بعض الباحثين دهناّ حيوانيّا (مشبّعاً) في صحن پتري Petri dish يحتوي على خلايا بيتا فماذا وجدوا؟ أخذت هذه الخلايا تمتصّ هذا الدهن وتموت. ولمّا وضعوا زيت الزيتون والأفاكادو وزيوتاً نباتيّة أخرى وجدوا هذه الخلايا تأثّرت بعض الشيء ولم تمتْ. لذا يكون الدهن في الدم مسبّباً قتلَ هذه الخلايا في البنكرياس. أمّا الزيوت النباتيّة، كزيت الزيتون والأفاكادو مثلاً، فلا تسبّب ضرراً يُذكر لهذه الخلايا. الدهون المشبّعة تقتل الخلايا وكذلك الكوليستيرول الضارّ LDL الذي ينتج الجذور الحرّة. الغذاء الغنيّ بالدّهون لا يسبّب السمنة وحسب بل يجعل الدّهن يسيح في الدم فيقتل خلايا بيتا ويسبّب مقاومة الانسولين. فمرض السكّر النوع الثاني هو قلّة إفراز الانسولين ومقاومة الخلايا لها. والدّهون تسبّب الاثنين كليهما إضافة إلى تشمّع الكبد. أما الزيوت النباتية فلا تأثير لها على الكبد. فما الذي يسبّب مرض السكّر؟ هو السعرات الحرارية المتزايدة الناتجة من الشحوم والدهون ولكنّ هذا لا ينطبق على كل فرد، فبعضهم بدين وغذاؤه غنيّ بالدّهون ولكنّه لا يصاب بالسكّر كحال بعض المدخّنين الذي لا يُصاب بسرطان الرئة الذي يُصيب المدخّنين عادة، وذلك للتكوين الجيني الذي يلعب دوراً في هذا المضمار. ولكن بصورة عامّة يُمكن القول إنّ تناول الأغذية الغنيّة بالدهون تكون عاملاً رئيساً للإصابة بمرض السكّر. فماذا يأكل مريض السكّر إذاً؟ الخضرواتُ بصورة عامة وخصوصاً البروكولي والقرنابيط و براعم البروكولي Broccoli sprout التي تحتوي على مادّة السلفورافين Sulforaphane التي ظهر أنّها تقلّل من ضخّ الكبد للسكّر فهي تماثل عمل المتفورمين وهي من غذاء طبيعيّ وليس تصنيعاً. وأمّا براعم حبوب الصوياSoybeans sprouts فتحتوي على كمية كبيرة جدّاً من هذه المادة حيث استعمالها يعادل استعمال المتفورمين. ولا ننسى الشلغم والفجل والسلگChard والكُرنب (الملفوف) والـ (كَيْل Kale ) فهي إضافة أنّها تساعد على تخفيف مرض السكّر، موادّ فعّالة ضد السرطان. ثمَّ إنّ بعض الفواكه وخصوصاً قليلة السكّر يمكن تناولها بكميّات قليلة. ولا ننسى البقوليّات بأنواعها. إنّ الامتناع عن تناول اللحوم الحمراء والتقليل من تناول المواد النشويّة والسكّرية ومنتجات الحليب وخصوصاً الدهنيّة سيكون له نتيجة إيجابية جدّاً. هذا الغذاء النباتي قليل السّعرات الحراريّة يخفّف الضغط عن البنكرياس فيقلّل إفرازها ويرمّمها ويحافظ على خلايا بيتا.

الرياضة البدنيّة

دون تمارين بدنيّة لا تستطيع السيطرة على مرض السكّر إلا إذا أنهكتَ جسمك بأدوية شتّى ومنها الإنسولين. في التمارين البدنية لا تحتاج إلى انسولين، حيث تستعمل الخلية السكّر بزيادة، مباشرة من الدّم في عملها دون توسّط الانسولين وفي الوقت ذاته يزيد تكوّن الكلايكوجين، مما يخفّف من تركيز السكّر في الدم. وهذا يجعل الپنکریاس تستریح لتعاود نشاطها المعهود. تُمارَس الرياضة بعد ساعة إلى ساعتين من وجبة الطعام، حيث يكون سكّر الدم في أعلى تركيزه. وممارستها تختلف باختلاف أعمار الأشخاص وبنيتهم الجسمية. وأبسطها المشي. وأعنفها رفع الأثقال، وما بينهما استعمال الدراجة المتحركة أو الثابتة والتْـرَيْدْمِلْ treadmill والسّباحة وارتقاء السلالم وغيرها. من المفضّل أن يكون تركيز سكّر الدم لا يتجاوز 144 ملغم / دل (8 مليمول / لتر) بعد ساعتين من تناول الطعام ليكون الهيموغلوبين المتسكّر A1C أقلّ من 7% ، فبهذا التركيز تتجنّب كلّ الأضرار التي يُحدثها مرض السكّر في العين والكلية والقدمين والقلب والأعصاب وغيرها. إنّ كاتب هذه السطور يستعمل الغذاء والرياضة علاجاً لمرض السكّر منذ عام 2000 ولا يستعمل أيّ دواء ما عدا حبة متفورمين واحدة ذات 500 ملغم أحياناً عند الضر ورة القصوى، وهي حالات قلائل، وآخر تركيز للهيموغلوبين المتسكّر A1C كان 6.4% قبل أسبوعين وأنا أتناول ما أشتهيه من الطّعام (الضّار!) أحياناً بقدر معلوم وحتّى السكّريات ولكن بحدود وحساب وحذر! والفضل يعود للرياضة التي أمارسها ثلاث مرّاتٍ يوميّاً وما يقارب الساعتين والتي بواسطتها يُستهلكُ السكّر الزائد كطاقة.

28 تموز

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here