نظرة في كتاب “الاقتصاد العراقي – الأزمات والتنمية للسيد الدكتور علي خضير مرزا الحلقة الخامسة

قراءة في الفصل الخامس: المشهد النفطي 1921-2002، الامتيازات النفطية والإدارة الوطنية

يضع الكاتب الدكتور علي خضير مرزا قراءه وقارئاته في الباب الثالث من الكتاب أمام أربعة فصول مهمة تبحث في اقتصاد النفط العراقي، ابتداءً من اكتشافه والتوقيع على امتياز استثماره واستغلاله ومروراً بقانون 80 لسنة 1961، ومن ثم تأميم مجموعة شركات نفط العراق في عام 1972، وانتهاءً بتراخيص عقود النفط بعد عام 2003. وهي فترة تمتد لأكثر من قرن من السنين العجاف، حيث اقترن اكتشاف واستخراج وتصدير النفط الخام العراقي بسيول من الدم العراقي وبالفقر والحرمان والاستبداد، بدلاً من أن يكون رحمة وعنواناً للخير والتقدم والازدهار والحرية والديمقراطية والسعادة لبنات وأبناء الوطن. وقد “قال أحد ممثلي شركة نفط العراق بتشفي، كلمة تصلح أن تكون عنواناً لمأساة العراق: لقد أريقت دماء غزيرة (في العراق)، ولكن، شكراً للسماء، لم ترق قطرة واحدة من البترول”. (أنظر: إبراهيم علاوي، البترول العراقي والتحرر الوطني، دار الطليعة-بيروت، 1967، ص 170، عن الأهرام المصرية 15 أغسطس 1966). إنها المأساة وهي المهزلة في آن واحد، والتي يمكن أن نتبين بعض أهم جوانبها في الفصل الخامس، الذي سيكون موضوع هذه الحلقة، دون أن يخوض الباحث بالتفاصيل السياسية، باعتبارها الرديف المباشر والوجه الثاني لاقتصاد النفط في العراق، إذ تقرأ بين سطور الكتاب ما يساعد على معرفة واقع حال العراق مع نفطه.

ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن اقتصاد النفط قد حظي بمئات الكتب الغنية بالمعلومات والتحليلات من قبل كتاب عراقيين وعرب وأجانب تبحث في جوانبه المتلفة، ولاسيما تاريخ وتفاصيل التوقيع على منح الامتياز وما بعده وإلى الوقت الحاضر، وليس سهلاً المرور على جميع من كتب بهذا الصدد، إذ تضم مكتبتي الشخصية الكثير المهم منها. وكانت رسالتي لنيل درجة الماجستير في عام 1964 تعالج موضع اقتصاد النفط في العراق.

يطرح الكاتب في الفصل الخامس معلومات عن مرحلة اكتشاف وجود النفط الخام في العراق في العهد العثماني، رغم معرفة وجوده من قبل أجدادنا الأوائل من السومريين والأكديين والآشوريين وعموم البابليين واستخدام القير في البناء وإكساء الشوارع، ثم التوقيع على امتياز شركة النفط التركية التي أصبح اسمها فيما بعد “شركة نفط العراق”. ويضعنا الكاتب في جو الصراعات والمساومات الدولية بين شركات البترول الاحتكارية ودولها ومع العراق بهدف الحصول على امتياز ممتاز لصالح الشركة والمشاركين فيها في مقابل إلحاق ولاية الموصل بالعراق وسن الدستور العراقي والبدء بمفاوضات حول موقع بريطانيا في العراق عسكرياً وسياسياً واقتصادياً والتي تم التوقيع عليها في معاهدة 1930 والتي مهدت إلى إلغاء الانتداب على العراق عام 1932. لقد تمكن البريطانيون، وكانت لهم اليد الطولى في العراق، على فرض التوقيع على امتياز منح التنقيب واستخراج وتصدير النفط الخام العراقي عام 1925 ولمدة 75 عاماً وبشروط مجحفة في السنة ذاتها التي صدر فيها القانون الأساسي العراقي ووضع الأسس لعلاقة التبعية العراقية لبريطانيا.

لقد هيمن البريطانيون على اقتصاد النفط العراقي وعلى مساحات واسعة من الأراضي العراقية للتنقيب عن البترول لشركة نفط العراق، ومن ثم لأبنتيها، وهما شركة نفط الموصل (1932)، وشركة نفط البصرة (1938)، طيلة الفترة الواقعة بين

1924-1958 تقريباً وعلى حصة الأسد من إيرادات نفط العراق، سواء حين كان طن النفط بأربع شلنات ذهب، أم حين أصبح العراق يحقق 50% من أرباح صادرات النفط منذ العام 1951 -حتى العام 1972، على وفق اتفاقية مناصفة الأرباح الموقعة عام 1952 بأثر رجعي. ودون الدخول بتفاصيل الاختلاف في وجهات النظر والصراعات بين الحكومة العراقية وشركات النفط الاحتكارية، لخص لنا الكاتب مرزا بوضوح مواطن الغبن العديدة التي لحقت بالعراق من جراء تلك الاتفاقيات والفجوة الكبيرة بين إيرادات العراق وأرباح الاحتكارات البترولية الأجنبية من نفط العراق. ولكن هناك غبن أخر ومتنوع لحق بالعراق بصورة غير مباشرة وألحق خسائر فادحة بالعراق وسأحاول بلورة واقع الغبين على التوالي:

** أولى الخسائر المالية التي لحقت بالعراق تجلت في عقد الامتياز والتي برَّزها الدكتور علي مرزا في واقع الإِتاوة الضئيلة التي تدفعها شركات النفط الاحتكارية لخزينة الدولة عن الطن الواحد من النفط الخام المصدر والبالغة 4 شلنات ذهب، والفضل في تكريس 4 شلنات ذهب يعود لوزير المالية الأول والمواطن العراقي الكبير ساسون حسقيل، أولاً، وفي حرمان العراق من حقه في المساهمة في الامتياز، على وفق ما أقرته اتفاقية سان-ريمو السرية عام 1920 في إيطاليا بحصة 20% من الأسهم. وقد تم تقسيم الحصص بين الشركات الاحتكارية في العام 1928. والخسارة هنا تتجلى في إبعاد العراق عن المشاركة في الأرباح كمساهم بـ 20%، هي نسبة كبيرة وخسارة فادحة.

** الخسارة الثانية برزت في “احتساب سعر النفط المنتج في العراق والموزع على المساهمين في الشركة، بسعر الكلفة وليس بسعر البيع الفعلي” ويوضح الدكتور مرزا الهدف من ذلك بقوله: ” وكان الهدف من ذلك هو تجنب إظهار تحقق أرباح في مرحلة استخراج النفط، وبذلك يمكن تجنب إشراك العراق في الأرباح والاقتصار على دفع إتاوة، royalty، له عن كل طن أو برميل منتج.” (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 107/108)، واعتبرت الإنتاج للمنفعة العامة وليس لتحقيق الأرباح، وهو ضحك مكشوف على ذقون حكام العراق وشعبه!

** هيمنة شركات النفط الاحتكارية على مدى 36 سنة على مساحات واسعة جداً من الأراضي العراقية لأغراض التنقيب عن البترول واستخراجه وتصديره، والتي لم تسمح للعراق بمنحها لشركات أخرى، في حين لم تقم تلك الشركات النفطية الثلاث، العراق والبصرة والموصل، بالتنقيب فيها للعثور على النفط واستخراجه وتصديره ة، حيث ظهر إنها لم تستثمر سوى 0,5 % من مجموع الأراضي التي كانت بحوزتها، وأن حقولها كانت في هذا النصف بالمئة من أراضي العراق. (أنظر: إبراهيم علاوي، البترول العراقي والتحرر الوطني، مصدر سابق، ص 206).

** الخسارة الصارخة في علاقات العراق النفطية مع شركة نفط العراق وبناتها، تبرز في الاختلاف الكبير بين شروط امتياز النفط العراقي وشروط امتياز نفوط دول أخرى في غير صالح العراق، كما هو الحال مع السعودية أو مع ليبيا. أو مع فنزويلا. (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 110).

** كما يمكن أن نتابع في الكتاب خسارة العراق لما أطلق عليه بريع التنفيق إلى أن تقرر استحصاله من شركات النفط الاحتكارية بعد اتفاقية المناصفة في الأرباح ويشير الدكتور علي مرزا بصواب إلى هذه النقطة بقوله:

“.. إن اتفاقية المناصفة في 1952 لم تشمل، بشكل منفصل، حقاً للدولة ينبع من ملكيتها للمورد الطبيعي وهو الإِتاوة/الريع بل دمجها في حصة الدولة من الأرباح. في حين يحق للدولة فرض إتاوة على كمية الإنتاج، داخل حدودها القانونية، وتستطيع استلامها عيناً أو نقداً، مقيمة بالأسعار السائدة. بغض النظر عن حالة الربح أو الخسارة.” لقد بلغت نسبة الريع

12،5%، وبالتالي ازدادت إيرادات العراق بنسبة 6,25% عما كانت تتسلمه قبل التوقيع على هذا الاتفاق الذي وقع في العام 1964.

أما الغبن غير المباشر فيبرز في أربع ملاحظات مهمة:

1. إن قلة إيرادات العراق من النفط الخام المصدر قبل المناصفة في الأرباح حتى بعدها قد حرم خزينة العراق من مبالغ طائلة كان في مقدورها أن تحسن من معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي، لاسيما وأن الاقتصاد العراقي كان اقتصاداً متخلفاً بحاجة إلى المزيد من الأموال.

2. تلك الموارد المصادرة بفعل الامتياز المجحف، والتي دخلت في حساب أرباح شركات النفط الاحتكارية، كان المفترض أن تستخدم في عملية البناء والتعمير وإقامة الصناعة الوطنية أو تحديث الزراعة، والتي حرم منها العراق وساهمت في أعاقت تطوره، إلى جانب واقع أن شركات النفط الاحتكارية كانت تعرقل، عبر تأثيرها المباشر على الدولة وسلطاتها الثلاث، بكل السبل مطالبة الشعب العراقي بالتنمية والتصنيع وتطوير الخدمات العامة.

3. ولكن لهذه الخسائر المالية تأثير سلبي آخر برز في عجز الدولة عن توفير فرص عمل جديدة للأيدي العاملة العاطلة عن العمل، إذ كان عدد العاطلين يتراكم وينمو سنة بعد أخرى.

4. إن هذه الأموال الافتراضية المصادرة من حصة العراق لو كانت قد وظفت فعلاً لحققت تراكماً رأسمالياً مناسباً وزادت من ثروة العراق ومن دخله السنوي، وربما كان يعود بالفائدة على الشعب العراقي، رغم إن العراق كان يردد أهزوجة معروفة (هوسة) تقول: “خمسة بالمية من الربح ما طاحت بدينة”، أي لم يحصل الشعب حتى على 5% من أرباح شركات النفط العراقية.

رغم كل ذلك فأن نضال الشعب العراقي في اعقاب الحرب العالمية الثانية ونضال شعوب المنطقة قد أجبر شركات النفط الاحتكارية على إعادة النظر باتفاقياتها النفطية، والتي انتهت بتوقيع العراق على اتفاقية المناصفة في الأرباح مع شركات النفط الاحتكارية في عام 1952. وهي التي سمحت زيادة إيرادات العراق النفطية والبدء بعملية بناء وإعمار ومشاركة نشطة نسبياً للدولة، عبر مجلس ووزارة الإعمار والمصرف الصناعي في إقامة مجموعة من المشاريع الصناعية وتقديم القروض للفلاحين من خلال المصرف الزراعي، وتنشيط جملة من الخدمات العامة ومنها الصحية والتعليم. ولكنها كانت في الوقت ذاته البداية الفعلية لتحول العراق إلى دولة ريعية نفطية، بعد أن كان ريعياً زراعياً، إذ لم تسعى الدولة إلى وضع سياسة اقتصادية تهدف إلى خلق توازن وتناسب عقلاني تدريجي بين اقتصاد النفط والاقتصاد الإنتاجي الصناعي والزراعي في البلاد وفي تكوين الدخل القومي.

لقد اتخذ العهد الجمهوري الأول خطوات جريئة حين أقدم على ثلاث إجراءات مهمة هي: إصدار قانون رقم 80 لسنة 1961، الذي استعاد 99،5% من مجموع المساحات التي كانت ممنوحة لشركات النفط الاحتكارية العاملة في العراق، رغم إن هذا القانون لم يقلص من قدرة الشركات على استخدام أبار النفط التي كانت تقع ضمن ال 0,5% من الأراضي التي بقيت تحت هيمنتها. والخطوة الثانية كانت الدعوة وإقامة منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك عام 1960)، والتي أصبحت في فترات معينة شوكة ناغزة في عيون شركات النفط الاحتكارية، والخطوة الثالثة حين تم تأسيس شركة النفط الوطنية. وهذه الخطوات المهمة، وقبل ذاك الخروج من حلف بغداد ومن منطقة الإسترليني، والدخول بمفاوضات مع شركات النفط الاحتكارية حول إعادة النظر بالامتياز وحقوق العراق، أدت كلها إلى تفاقم التوتر مع الشركات والدول

الرأسمالية الكبرى التي تسندها من جهة، ومع القوى المناهضة لنهج الجمهورية الأولى بإجراءاتها المهمة كالإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية والموقف من المرأة والدعوة لاستعادة الكويت كجزء من العراق والمعارك ضد حركة التحرر الكردية، من جهة أخرى، كما لم تقابلها إجراءات تدعم الجبهة الداخلية وتعزز القدرة على مواجهة التآمر ضد حكومة قاسم، ثم أدت إلى حصول انقلاب 8 شباط 1963 والإطاحة بجمهورية 14 تموز 1958.

ومن المحطات المهمة في اقتصاد النفط العراقي، والتي يبحث فيها الكتاب، صدور قانون تأميم مصالح شركات نفط العراق والموصل والبصرة في العراق في عام 1972، والذي اقترن بأحداث سياسية مهمة في منطقة الشرق الأوسط أدت في حينها إلى حصول فورة في أسعار النفط الخام وزيادة في الإنتاج والتصدير وارتفاع كبير في إيرادات النفط الخام العراقي المصدر. وكان في مقدور العراق بعد إجراءات التأميم أن يتحول تدريجياً إلى دولة صناعية وزراعية متقدمة لو كان نظام الحكم البعثي قد مارس سياسات واقعية وعقلانية وذات منحى ديمقراطي ونهج اقتصادي واجتماعي واقعي وحكيم. إلا إن إيرادات النفط الخام الكبيرة قد تساقطت كزخات مطر شديدة على رؤوس قادة النظام البعثي فأعمت بصرهم وبصيرتهم في آن، إضافة إلى طبيعة حزب البعث القومية الشوفينية واليمينية ونهجه الانفرادي المناهض لبقية القوى السياسية العراقية. ومع إن نظام البعث قد حاول انتهاج سياسة صناعية وزراعية جديدة، ولكنه سقط في مجموعة من المطبات الثقيلة والمدمرة، منها بشكل خاص:

1. النهج الاستبدادي والرغبة في الانفراد بالسلطة والمال ومصادرة الحريات والحقوق الأساسية للشعب والتحول تدريجياً إلى دولة دكتاتورية شمولية وفردية مطلقة. وقد تكرس هذا النهج الانفرادي في المؤتمر القطري الثامن لحزب العربي الاشتراكي في بغداد عام 1974 أولاً، وفي الممارسة الفعلية لإرهاب الدولة البعثية ابتداءً من منتصف عام 1977 واستمراراً في تصفية التحالف مع الحزب الشيوعي العراقي واعتقال ما يقرب من 100 ألف إنسان بين عامي 1978-1981 ومحاولة إسقاطهم سياسياً وسجنهم وقتل جمهرة منهم، ثم المجزرة التي نظمها صدام حسين ضد مجموعة كبيرة من قادة وكوادر في حزبه وسلطة البعث في عام 1979 وقبل تسلمه السلطة المطلقة من احمد حسن البكر، وتحضيره لممارسة ما كان يسعى إليه منذ البدء/ بما في ذلك تصفية الحلفاء والمعارضين والخصوم.

2. النهج القومي الشوفيني والتطلع لدولة عراقية كبرى تلتحق بها تدريجياً الدول العربية الأخرى، أي سياسة توسعية على حساب الدول العربية ومركزها العراق، والتطلع ليكون العراق دولة إقليمية عسكرية كبرى.

3. التوجه صوب تحويل العراق إلى ترسانة ضخمة للسلاح الدفاعي والهجومي من خلال استيراد أحدث الأسلحة ومن جميع الدول المنتجة للسلاح، وإقامة صناعة عسكرية متقدمة بدعم مباشر من كل الدول المنتجة للسلاح، الغربية منها والشرقية، وكذلك السعي لإنتاج السلاح الكيماوي والبيولوجي والنووي. إضافة إلى التوسع في عديد القوات المسلحة العراقية وأجهزة الأمن المتعددة والشرطة.. الخ.

4. وقد شاركت دول العالم المنتجة والمصدرة للسلاح، سواء أكانت من المعسكر الرأسمالي أم المعسكر الاشتراكي السابق، في دعم النظام العراق وتشجيعه وتأييد سياساته العامة، إذ إنها كانت تطمح وبكل السبل في الحصول على جزء مهم من موارد النفط المالية، وكانت تتسابق في بيعه السلاح أو في الحصول على مشاريع تقيمها في البلاد وبأسعار خيالية غير خاضعة للمعايير الدولية.

5. وخلال فترة قصيرة تحول العراق إلى دولة عسكرية توسعية يريد قادتها البرهنة على قدراتهم العسكرية وتحت شعار “الحقوق لا تمنح بل تنتزع!”. فاستغلوا المحاولات الإيرانية بعد عام 1979 التدخل في الشأن العراقي ودعم التفجيرات التي اعتمدها حزب الدعوة الإسلامية في العراق، ليخوضوا حرباً ضد إيران دامت ثماني سنوات عجاف ومدمرة.

6. وعلى الصعيد الاقتصادي اتخذ المؤتمر القطري الثامن نهج التنمية الانفجارية، والذي كان أحد الأسباب المباشرة في التفريط بأموال هائلة لإقامة مشاريع بذخية والتوسع الأفقي بعيداً عن التخطيط العقلاني وبما يحتاجه العراق فعلاً. ولهذه الغاية استورد العراق أعداداً كبيرة من الأيدي العاملة الأجنبية ولاسيما من مصر، وأقيمت العديد من المصانع المهمة في السبعينيات من القرن العشرين ومنها البتروكيماويات في البصرة على سبيل المثال لا الحصر.

وخلال فترة الحرب العراقية-الإيرانية، في عام 1987، أقدم النظام على حل شركة النفط الوطنية ودمجها بوزارة النفط وتقسيم نشاطها إلى ثلاث شركات عامة، في الوسط والجنوب والشمال، بسب تراجع القدرة المالية التي استنزفتها الحرب العراقية الإيرانية، كما يشير إلى ذلك الدكتور علي مرزا في كتابه على الصفحة 123. رغم الخسائر البشرية والمادية التي تحملها العراق في الحرب مع إيران، فقد خرج من الحرب غير خاسر لها، بل حقق نصراً على إيران الخميني حين أجبر الخميني على القول بأنه يتجرع السم حين يوقع على إيقاف القتال وتراجعت أحلامه التوسعية. ولكن هل لطموحات وأطماع صدام حسين حدود، وهل للصراعات بين دول الخليج وتأثير الولايات المتحدة عليها حدود، ولاسيما في الخلاص من الغريمين إيران والعراق، فكان استفزاز الكويت بمطالبتها بتسديد الديون فوراً والموقف من زيادة تصدير نفطها.. إلخ، سبباً لغزو الكويت. فقد أدت، تلك السياسات والرغبة الجامحة في التوسع والعنجهية السياسية الصدامية، إلى اجتياح القوات المسلحة العراقية للكويت واحتلاله على طريقة الغزو القبائلي العدواني والإمعان في إهانة الشعب الشقيق، والتي انتهت إلى حرب الخليج الثانية التي أذلت العراق وشعبه وقواته المسلحة، وإلى فرض الحصار الاقتصادي الدولي وتجويع المجتمع استمر طيلة 13 عاماً أدى إلى مآسي وكوارث كثيرة بما فيها وفيات بعشرات الآلاف من الأطفال والعجزة وكبار السن والمرضى. ثم كانت الحرب الخليجية الثالثة التي أدت إلى الإطاحة بنظام الحكم الدكتاتوري البعثي. لقد دمًّرت سياسات البعث العسكرية والتوسعية وحروبه الداخلية والخارجية الكثير جداً مما بني في العراق من منشآت صناعية وهياكل ارتكازية ومنشآت اجتماعية. وكانت خسارة فادحة لشعب العراق.

ووفي ختام هذه الحلقة أود أن أشير إلى ملاحظة شخصية تتلخص في وضوح موقفي من اتجاهات تطور تلك الفترة حين التقيت بصدام حسين في المؤتمر الزراعي ببغداد وناقشته من على منصة المؤتمر، حيث كنت أترأس تلك الجلسة بشأن الأوضاع الاقتصادية في العراق وفشل سياسات التخطيط والتسعير للسلع، في عام 1976، ثم تركت المنصة وجلست بجواره وتحدثت معه طوال ساعة ونصف الساعة عن أوضاع العراق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما استمعت لوجهة نظره وخرجت من اللقاء المنقول عبر شاشة التلفزة بانطباع واضح هو إن حزب البعث يسير في “درب الصد ما رد”، وأن عواقب ذلك ستكون وخيمة، وقد بلغت قيادة الحزب الشيوعي العراقي برأيي، ثم سجلت ذلك تفصيلاً في التقرير الذي أعدته اللجنة الاقتصادية للحزب الشيوعي العراقي، وكنت مسؤولها، في منتصف عام 1977 وقدم إلى اللجنة المركزية ومكتبها السياسي بشأن التدهور المتسارع في نهج وسياسات حزب البعث، والرؤية القاتمة لما يمكن أن يؤول إليه الوضع في العراق.

انتهت الحلقة الخامسة وستليها الحلقة السادسة حول النفط العراق خلال الفترة بين 2003-2018.

الحلقة السادسة

قراءة في الفصل السادس المشهد النفطي بعد تغيير عام 2003

كتب الدكتور على خضير مرزا في عام 2018 مشيراً إلى البطء الشديد والتأخير غير المعقول في إقرار قانون النفط والغاز بما يلي: “منذ سنة 2007 ومسودة قانون النفط والغاز لم تُقر بالرغم من إحالتها إلى مجلس النواب في شباط من تلك السنة.” (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 131). هذا الاستنتاج الصحيح لم يمس قانون النفط والغاز فحسب، بل يشمل الكثير من القضايا المهمة والأساسية الأخرى، في حين كانت السرعة تميز قوانين وإجراءات وسياسات أخرى. فقد تميزت الفترة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية باتجاهين متعارضين في حكم البلاد من حيث البطء والسرعة:

تميز الاتجاه الأول بـ:

** بطء شديد جداً وتخلف استثنائي في عمليات إعادة إعمار البنية التحتية التي خربتها الحروب المتتالية، ولاسيما الطاقة الكهربائية والمياه الصالحة للشرب والمؤسسات الصحة والتعليمية والبنايات المدرسية وعجز عن تطهير البلاد من ملايين الألغام الأرضية المزروعة ومن التلوث الهائل في كل جوانب الحياة، ولاسيما الماء والهواء والأرض والغذاء…إلخ.

** ابتعاد فعلي وصارم عن توجيه جزء مناسب من الدخل القومي، أو من موارد النفط المالية، من جانب الحكومة صوب توظيف رؤوس الأموال في القطاعين الصناعي وفي مجمل عملية التنمية الاقتصادية والبحث العلمي والتدريب المهني.

** بط شديد وإعاقة جادة في وضع وإقرار القوانين الأساسية التي تنظم حياة المجتمع مثل قانون النفط والغاز وقانون شركة النفط الوطنية، أو القوانين والنظم التي تحكم العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والمجالس المحلية في المحافظات، مما تسببت في خلق مشكلات ولدًّت مشكلات أخرى…إلخ.

** بط شديد في إنجاز المشاريع الخدمية المقرر إقامتها أو إهمالها كلية، رغم وجود تخصيصات لها، أو حتى بعد استيراد معداتها وتلفها، إضافة إلى تعرض الموارد إلى النهب والسلب.

** بطء شديد في مكافحة الإرهاب وقواه وعواقب ذلك على الدولة والاقتصاد الوطني والمجتمع.

** بطء شديد في مكافحة الفساد، بل وابتعاد تام عن محاسبة الحيتان الكبيرة التي ابتلعت جزءاً كبيراً من خيرات البلاد وموارده النفطية والتي تتصدر المشهد السياسي والسلطات الثلاث.

أما الاتجاه الثاني فقد تميز بـ:

** سرعة هائلة في تنشيط عمليات استخراج وتصدير النفط الخام، ومن ثم في إبرام العقود والتوقيع عليها في جولات تراخيص متنوعة، عقود خدمة فنية ومشاركة في الإنتاج مع غياب الوحدة والتنسيق بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم والمجالس المحلية في المحافظات.

** سرعة انتشار الفساد كالنار في الهشيم وفي نهب خيرات البلاد والتخصيصات الموجهة للمشاريع الاقتصادية التي لم تنفذ بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية، والتفريط بأموال الدولة بطرق وساليب كثيرة التنوع.

** السرعة في اغتناء النخب الحاكمة وقيادات الأحزاب السياسية الإسلامية والقومية وحواشيهم على حساب مصالح الشعب وخزينة الدولة والاقتصاد الوطني.

** سرعة هائلة في تشكيل الميليشيات الطائفية المسلحة وتسلطها على مقدرات الشعب ومصادرة حقوقه وحرياته الشخصية والعامة.

** السرعة في إصدار التشريعات التي تخدم مصالح النخب الحاكمة وقيادات أحزابها السياسية وتلك التشريعات التي تحد من حقوق الشعب وإرادته ومصالحه ورقابته.

وفي ضوء هذا الواقع الحكومي أحاول أن أتبين الموقف من اقتصاد النفط والغاز في العراق من خلال القراءة المكثفة للفصل السادس من كتاب الزميل مرزا، حيث عنون الفصل: “المشهد النفطي بعد تغيير عام 2003: بنى أساسية ومؤسسية بدون تشريعات مساندة”، وهذا عين الصواب.

تبرز أهمية هذا الفصل في معالجة الباحث لمسألتين أساسيتين تمس السياسة النفطية للنظام السياسي الطائفي الذي انبثق من رحم الغزو الدولي للعراق واحتلاله ورسم نهجه الأساسي وسياساته على أيدي الرئيس الأمريكي المهووس بالنموذج الأمريكي والمسكون بأداء رسالة سماوية للعالم، جورج دبليو بوش، وعبر المستبد بأمره پاول بريمر. وفي حينها عَبَّرَ جورج دبليو بوش عن خشيته من اجتياح جيوش “يأجوج ومأجوج” العراقية إسرائيل واحتلالها، على وفق ما جاء في التوراة والإنجيل، ما لم يسرع بتدمير القوات العراقية! جاء هذا في حديث هاتفي بينه وبين الرئيس الفرنسي جاك شيراك! (أنظر: ياسمينة صالح، عن كتاب جون كلود موريس الموسوم “لو كررت ذلك على مسامعي فلن اصدقه”، منشورات بلون الفرنسية 2009/2010). والمسائل المهمة التي يعالجها هذا الفصل هي:

1) قانون النفط والغاز

جدير بالإشارة إلى إن السيد الباحث قد عالج في مقالات مهمة خلال السنوات المنصرمة المشاكل التي أحاطت بمسودة هذا القانون، عبَّر فيها عن وجهة نظره والتي نشرت على صفحات شبكة الاقتصاديين العراقيين وتبلورت بشكل مكثف ووافٍ في هذا الكتاب. ابتداءً يعرض الكاتب للقارئات والقراء لوحة واضحة عن ثلاث مسائل جوهرية هي: ** انتشار الموارد البترولية في أغلب مناطق العراق، مع تخلف في تطوير البنى الأساسية، ومن ثم في الطاقة الإنتاجية والإنتاج السنوي؛ ** التركيز في إنتاج النفط والغاز على أحواض ثلاثة وفي أربع مناطق هي: حوض زاگروس في الشمال وإقليم كردستان، وحوض الرافدين، وبضمنه المنطقة الجنوبية والمنطقة الوسطى، وثم حوض الوديان والصحراء الغربية؛ ** عن إنتاج النفط والتقدير لاحتياطي النفط العراقي. كما يدل على ذلك بعرض جداول توضيحية مهمة بهذا الصدد. وكانت أشارته التالية مهمة جداً لإنها تحمل في طياتها النقد لما يجري في العراق بصدد هذه النقطة حيث كتب: “إن انتشار الموارد البترولية في كافة أنحاء العراق لا يولد مشكلة جدية، في شأن الاستكشاف التطوير والإنتاج، طالما كانت هذه الموارد تخضع لإدارة مركزية، غير إن وضعية الإدارة في العراق في الوقت الحاضر في ضوء ما ورد في الدستور (الماد 111 و112) وفي قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم 21 لسنة 2008 المعدل في 2013، بقيت غير واضحة.” وأضيف هنا إلى ذات المشكلة مع إقليم كردستان. أي إن المشكلة تكمن في تداخل المسؤوليات والصلاحيات، إضافة إلى التداخل النفطي الموجود بالأساس بين محافظات العراق ومع الدول المجاورة والتي تستوجب المعالجة الجادة والوضوح في الحقوق والصلاحيات.

يشير الباحث إلى أن أول مسودة لهذا القانون طُرحت من قبل مجلس الوزراء لمناقشتها في مجلس النواب العراقي كان في عام 2007 ولم يتر بسبب بروز نقاط اختلاف بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم ومع المحافظات، ثم طرحت مسودة قانون ثانية مع بعض التعديلات في العام 2011 في فترة وجود نوري المالكي على رئاسة مجلس الوزراء أيضاً، والتي هي الأخرى لم تحظ بقبول من جانب حكومة إقليم كردستان ومواقف كتل سياسية أخرى واراء ناضجة لخبراء عراقيين في اقتصاد النفط. ولهذا السبب تعطل إصدار القانون طوال السنوات المنصرمة، مما دفع وزارة النفط الاتحادية ووزارة نفط الإقليم العمل كلاً بمفرده وبعيداً عن مادتي الدستور العراقي، علماً بأن الإقليم، بخلاف الحكومة الاتحادية، أقر في عام 2007 قانوناً للنفط والغاز خاصاً به لا يتناغم مع الدستور العراقي الاتحادي ولا مع مسودة قانون النفط والغاز الاتحادي.

كرّست المادة 111 من الدستور العراقي لعام 2005 النص التالي: “النفط والغاز هو ملك كل الشعب العراقي في كل الاقاليم والمحافظات.” ثم جاءت المادة 112 لتؤكد ما يلي:

“اولا: تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة على ان توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع انحاء البلاد، مع تحديد حصة لمدة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منها بصورة مجحفة من قبل النظام السابق والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون.

ثانيا: تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الاقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز بما يحقق اعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار.” (أنظر: نص الدستور العراقي لعام 20005، المكتبة القانونية العراقية للحكم المحلي). والمشكلة التي تفاقمت سنة بعد أخرى، ولاسيما في غياب الثقة المتبادلة بين الحكومتين، برزت بسبب غياب قوانين ونظم إدارة ناضجة وتحديد لحقوق وصلاحيات الحكومتين ووزارتي النفط، إضافة إلى عدم إقرار قانون النفط والغاز الاتحادي. علماً بأن النص الدستوري في المادة 112 جاءا بصورة متناقضة وتجسد المساومة غير العقلانية من جانب الكتل الحزبية المتصارعة التي وضعت الدستور وعلى حساب الاقتصاد والمجتمع. وبالتالي خضعت العلاقة بين الحكومتين في مجال اقتصاد النفط إلى ميزان القوى بينهما في التصرف بالتنقيب والاستخراج والتصدير، وقبل هذا وذاك في المفاوضات وإبرام عقود النفط والغاز بعيداً عن أي سياسة مشتركة وتعاون وتنسيق بين الحكومتين. وكان هذا الغموض والتخبط التشريعي يصب في مصلحة شركات البترول الأجنبية التي أبرمت عقوداً مع الطرفين، ولم يكن بأي حال في مصلحة العراق عموماً. ويشير الدكتور علي إلى أن مسودة قانون النفط والغاز تضمنت ثلاث عناصر مهم: تكوين مجلس اتحادي لتنسيق وتوحيد السياسات النفطية، وتكوين شركة نفط وطنية اتحادية، قبول القانون بإبرام عقود الخدمة والمشاركة في الإنتاج ومنح الامتياز. ثم أضيف فيما بعد تكوين صندوق للمستقبل. وفي هذه الأمور برز الخلاف وتعقد بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وبالتالي تعطل مناقشة وإقرار قانون النفط والغاز طيلة الفترة المنصرمة. هناك الكثير من النقاط التي تستوجب المعالجة والتي تستوجب القراءة المتمعنة في كتاب الدكتور علي مرزا، إضافة إلى أبحاث مختصين آخرين مثل أحمد جياد موسى وقاسم الأمير وعصام الجلبي، على سبيل المثال لا الحصر.

2) قانون شركة النفط الوطنية

تم في عام 1987 إلغاء شركة النفط الوطنية، التي تأسست بموجب القانون رقم 11 لسنة 1964، بسبب تدهور إيرادات الدولة العراقة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ودمجها بوزارة النفط. ورغم إن مسودة قانون النفط والغاز لعام 2007 دعا إلى تأسيس شركة النفط الوطنية العراقية، إلّا إن أول ظهور لمسودتين فتأسيس شركة النفط الوطنية جاءا في عامي 2016 و2017. ويشير الدكتور مرزا إلى إن عام 1967 شهد صدور القانون رقم 123 لسنة 1967 الذي وضع جميع الأراضي التي استعادها القانون رقم 80 لسنة 1961 من شركات النفط الأجنبية الثلاث تحت تصرف شركة النفط الوطنية. ومنذ إلغاء شركة النفط الوطنية العراقية حتى عام 2018 بقي اقتصاد النفط مرتبطاً بوزارة النفط العراقية، فيما عدا تلك الحقول التي لم تخضع لوزارة النفط في إقليم كردستان العراق، إضافة إلى نفط كركوك منذ إسقاط الدكتاتورية عام 2003 تقريباً حتى نهاية عام 2017 حيث عادت وزارة النفط الاتحادية لتشرف على نفط كركوك ثانية.

في عامي 2016 و2017 ظهرت مسودتان تقترحان تأسيس شركة النفط الوطنية العراقية. وفي عام 2018 وافق مجلس الوزراء الذي ترأسه حيدر العبادي على قانون شركة النفط الوطنية وأرسل إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره ثم إرساله إلى رئيس الجمهورية للمصادقة عليه ونشره في الوقائع العراقية. وقد تم ذلك على عجل شديد في الخامس من أذار/مارس عام 2018، وبنفس السرعة غير المعهودة صادق رئيس الجمهورية على هذا القانون. لقد ظهرت قبل المصادقة على هذا القانون وبعد المصادقة عليه الكثير من الملاحظات والاعتراضات المهمة ومن خبراء في اقتصاد النفط العراقي، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، علي خضير مرزا، وأحمد جياد موسى، وفؤاد قاسم الأمير، وحمزة الجواهري، وطارق شفيق، ووليد خدوري، وعصام الجلبي.. إلخ. وفي حينها، ومن ثم وردت في كتاب الدكتور علي مرزا جملة من الملاحظات على القانون قبل وبعد المصادقة عليه. فقد قارن أولاً بين القانون رقم 123 لسنة 1967 ومسودة القانون الجديدة مؤكداً أهمية عدم اعتبار شركة النفط الوطنية شركة مقاولة، بل أن تكون مؤسسة مستقلة قادرة على إنجاز جميع العمليات النفطية التي يفترض أن تقوم بها بقية الشركات الوطنية في مختلف بلدان العالم، وألاَّ تعتمد توزيع عوائد النفط على السكان، والذي لا يسمح بتوجيه موارد النفط المالي’ أو جزء منهم منها صوب التنمية الإنتاجية وتطوير الاقتصاد الوطني، إضافة إلى تأكيد ضرورة خضوع حسابات الشركة لديوان الرقابة المالية. كما يؤكد ضرورة دفع الشركة “معدل ضريبة الدخل يوازن بين تأمين مناسب/مستدام لوزارة المالية، من ناحية، وتدفق نقدي كافٍ لشركة النفط الوطنية يمكنها من تحقيق الاستقلال والكفاية المالية، من ناحية أخرى”. (أنظر: مرزا، الكتاب، ص 139). ويرى ضرورة قيام الشركة ذاتها بدفع الرسوم الضريبية عن الشركات الأجنبية المتعاقدة معها باعتبارها المسؤولة عن ذلك ويدخل ذلك ضمن عقود المقاولة. ويتساءل عن مدى جدوى أو إضعاف للقوة التنافسية للشركة الوطنية حين يتحتم عليها الدخول في تنافس مع الشركات الأخرى للحصول على مناطق للتنقيب والإنتاج خارج إطار المناطق الممنوحة لها حصراً، وماذا يعني تسليم الشركة الوطنية النفط الخام لشركة تسويق النفط، أي تشكيل شركة أخرى مستقلة للقيام بعمليات التسويق. كما يرى ضرورة إزالة عدم الوضوح في توزيع المسؤوليات بين جهات عديد، في حين لا بد من حصرها في شركة النفط الوطنية. ويعتقد بعدم صواب استقلالية الإقليم والمحافظات عن السلطة المركزية في مجال اقتصاد النفط، التي تسببت حتى الآن للكثير من المشكلات ولاسيما مع الإقليم. ويلاحظ في مسودة القانون الجديد خطأ حذف الإشارة لصندوق المستقبل وعدم خضوع حسابات الشركة لديوان الرقابة المالية. إضافة على نقاط أخرى عديدة.

قبل وبعد صدور قانون شركة النفط الوطنية العراقية كتب مجموعة غير قليلة من خبراء النفط والاقتصاد مقالات ووجهوا رسائل إلى المسؤولين في الحكومة الاتحادي ووزارة النفط وإلى الرأي العام العراقي حول نواقص القانون وسلبياته والنتائج غير السليمة التي ستنشأ عن ذلك. وحين لم ينفع كل ذلك تبنت مجموعة من الخبراء والمختصين والاقتصاديين والسياسيين

إقامة دعوى قضائية ضد رئيس مجلس النواب، باعتبار المجلس هو الذي أقر القانون ودفعها لرئيس الجمهورية الذي صادق عليها فعلاً. وقام كل من الخبير النفطي السيد فؤاد قاسم الأمير والسيد ماجد علاوي بتقديم الدعوى القضائية إلى المحكمة الاتحادية العليا ضد ما ورد في القانون من مواد مخالفة لنص الدستور العراقي. وقد نظرت المحكمة بهذه القضية وأصدرت قرار حكم نافذ مؤيدة مجموعة كبيرة من تلك الملاحظات النقدية الجوهرية المطالبة بإلغائها من القانون الجديد. وعلى وفق تقديري فأن قرار المحكمة الاتحادية العليا، الذي أخذ بأغلب الملاحظات النقدية للنقاط السلبية في القانون يشير إلى احتمالين لا غير: إما إن واضعي القانون لا يعون شيئاً من اقتصاد النفط أصلاً وغير مطلعين على قوانين شركات وطنية في دول أخرى ولا حتى على قانون 123 لسنة 1967، رغم أنهم مسؤولون كبار في وزارة النفط، ومنهم وزير النفط والخبراء النفطيين العاملين في الوزارة، وهو أمر غير ممكن بل مستحيل، أو أنهم، كلاً أو بعضاً، يجسدون اللوبي النفطي الفاسد والمهيمن الذي عمل ويعمل في غير صالح العراق ولصالح جهات معينة لا تخدم شعب العراق واقتصاده الوطني. واترك الحكم للقارئات والقراء الكرام حين يقرأون الكتاب والنقد الموجه، إضافة إلى الملاحظات الواردة في نص الدعوة القضائية المشار إليها في أعلاه، وكذلك قرار المحكمة الاتحادية العليا الصادر في 23/01/2019، (العدد: 66 وموحداتها 71 و157 و224 /اتحادية، إعلام/2018). أتمنى أن يتسنى لهم جميعاً قراءة الكتاب لأهميته والاطلاع أيضاً على نص الدعوى المقامة على رئيس مجلس النواب، وقرار المحكمة الاتحادية العليا بهذا الخصوص في واحدة من أهم القضايا النادرة التي بتت بها المحكمة الاتحادية العليا لصالح المجتمع والاقتصاد العراقي، لأهمية ذلك بالنسبة إلى معلوماتهم الشخصية، ولأنها تمس مصالح كل عراقية وعراقي، ولأنها تتعلق بأهم ثروة خامية يمتلكها العراق بعد الإنسان.

كاظم حبيب

05/04/2019

انتهت الحلقة الخامسة وتليها الحلقة السابعة: قراءة في الفصل السابع: العقود والاتفاقيات النفطية/الغازية

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
,
Read our Privacy Policy by clicking here